أثارت تصريحات بابا الفاتيكان فرانشيسكو -الذي رأى في مقابلة قبل أيام مع صحيفة إيطالية أن أحد أسباب النزاع في أوكرانيا هو “غضب” موسكو الذي “سهله (..) استفزاز حلف شمال الأطلسي على باب روسيا”- ردود فعل واسعة.

وأشار البابا خلال المقابلة إلى أنه مستعد للسفر إلى موسكو أولا قبل كييف، للقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومحاولة وقف القتال في أوكرانيا.

ومع ذلك، أفاد البابا بأنه حذر كيريل بطريريك موسكو من أنه لا ينبغي أن يكون “فتى لمذبح بوتين”، وأخبر صحيفة “كوريري ديلا سيرا” (Corriere della Sera) الإيطالية أنه نصح كيريل في محادثة يوم 16 مارس/آذار الماضي عبر زوم قائلا “لسنا رجال دين في الدولة، لا يمكننا استخدام لغة السياسة ولكن لغة يسوع”.

ويواجه فرانشيسكو -مع طول أمد الحرب الروسية على أوكرانيا- واحدا من أعظم التحديات التي شهدتها بابويته التي دامت ما يقارب 10 سنوات، وبينما يلتقي رجال الدين بالسياسة الواقعية فإن آمال الكنيسة الكاثوليكية في تحقيق قدر أكبر من الوحدة مع الطوائف المسيحية الأخرى تبدو في موقع متوتر، خاصة بعد أن ألغى الفاتيكان اجتماعا مجدولا مع البطريرك كيريل رئيس الكنيسة الأرثوذكسية الروسية وأحد الداعمين الرئيسيين لبوتين.

العلاقات الفاتيكانية الروسية

لفهم اللحظة الحالية ودبلوماسية الفاتيكان يمكن الاستعانة بكتاب الصحفي فيكتور غيتان “دبلوماسيو الله.. البابا فرانشيسكو ودبلوماسية الفاتيكان وهرمجدون الأميركية” الذي يطالب قراءه بالعودة إلى حقبة بابوية البابا بنديكت الـ16 (استقال عام 2013).

بنديكت الذي انتخب في عام 2005، والبطريرك الروسي الأرثوذكسي كيري الذي انتخب في عام 2009 هما لاهوتيان مسيحيان كبيران وكانا يريان أن هناك حاجة ماسة لمحاربة المد المتصاعد للنسبية الأخلاقية في الغرب، وعارضا “الأفكار التقدمية” الليبرالية.

بعد ذلك بوقت قصير -في عام 2010- تبادل الفاتيكان وروسيا السفراء مع الاعتراف الدبلوماسي الكامل لأول مرة منذ ما يقارب قرنا، وساعدت هذه العلاقة في تمهيد الطريق لعقد لقاء شخصي نهائي في كوبا بين البابا فرانشيسكو وكيريل في عام 2016، وهو أول لقاء على الإطلاق بين بابا الروم الكاثوليك والبطريرك الأرثوذكسي الروسي.

وفي الكتاب، يكشف غيتان عن أنشطة الجهود الدبلوماسية للكرسي الرسولي (الفاتيكان)، ويشرح كيف يجد دبلوماسيو الفاتيكان أنفسهم في كثير من الأحيان في صراع مع السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ يرى الفاتيكان أن غطرسة الولايات المتحدة تأتي بنتائج عكسية في الشرق الأوسط وروسيا والصين، بحسب مؤلف الكتاب.

وعبر تحليل العديد من الحكايات الشخصية والمقابلات يسرد المؤلف مراحل من دبلوماسية الفاتيكان -الدولة بالغة الصغر التي لا تمتلك جيشا- على المسرح العالمي، بما في ذلك التدخل في مفاوضات سلام في كينيا وكولومبيا وجنوب السودان، والتطرق إلى قضايا مثل أخلاقية استخدام الطائرات المسيرة كأسلحة، وقضايا السكان الأصليين الذين فقدوا أراضيهم نتيجة صناعات التعدين، واحتكار شركات الأدوية الملكية الفكرية على حساب وصول الفقراء إلى الأدوية.

ويعتبر المؤلف أن مواقف الفاتيكان الحديثة مثل معارضة حرب العراق والإطاحة بالقذافي ليست جديدة، فهناك تاريخ من “صراع ذي أوجه عالمية بين الولايات المتحدة والكرسي الرسولي يعود إلى بداية العصر الحديث”، فقد أصيب البابا ليون الـ13 “بالرعب” من استيلاء الولايات المتحدة على الفلبين في عام 1899، وعارض البابا بنديكتوس الـ15 معاهدة فرساي التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، لأنها عمقت الاستياء بين الأطراف الخاسرة، خاصة ألمانيا، وبعد هجوم اليابان على ميناء بيرل هاربور الأميركي في الحرب العالمية الثانية سارع البابا بيوس الـ12 إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع اليابان، مما أغضب الرئيس الأميركي السابق روزفلت.

في المقابل، هناك عوامل تجعل التقارب بين الفاتيكان والكنيسة الأرثوذكسية مصلحة مشتركة للطرفين، خاصة وهما يخوضان “حربا ثقافية” بين القيم التقليدية التي تتبناها الكنائس وبين أفكار تيارات توصف بالتقدمية وتثير قضايا، مثل معارضة زواج المثليين.

تحولات الكاثوليكية

في مقاله بمجلة كومنويل (Commonweal Magazine) الكاثوليكية الأميركية قال ماسيمو فاجيولي أستاذ اللاهوت والدراسات الدينية بجامعة فيلانوفا إن الحرب الحالية تتحدى تلك الافتراضات التي سادت بعد سقوط جدار برلين وتفكك الاتحاد السوفياتي، فقد أعادت التاريخ الماضي لواقع أوروبا.

وتابع الكاتب مؤلف كتاب “جو بايدن والكاثوليكية في الولايات المتحدة” قائلا “كنا نظن أننا تركنا عصر الصراعات الكبرى وراءنا، وتضاءل تأثير الأنظمة السياسية والدينية القديمة، الآن علينا أن نتساءل عما إذا كان هذا الأمل في غير محله، ربما كانت قبضة نظام العالم القديم أقوى مما كنا نعرف أو على الأقل أقوى من حلم بناء كنيسة جديدة في العالم”.

وفي السنوات الأخيرة -يقول فاجيولي- غابت مساحات الحوار، سواء في السياسة أو في أروقة الكنيسة، إذ تُتخذ القرارات في أماكن يصعب الوصول إليها أو يصعب تحديدها.

ومع ذلك -يرى الكاتب- أن الفاتيكان أظهر بعض الحكمة خلال هذه الأزمة، إذ يحاول فرانشيسكو إنقاذ الكنيسة الكاثوليكية من الخطر المهلك الذي وقع فيه من سبقه، وهو الفخ الحضاري نفسه الذي وقعت فيه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في التسعينيات، ووقع فيه البطريرك كيريل وبعض الكرادلة الكاثوليك عندما انحازوا إلى السلطة لتخوفهم من الأفكار التقدمية المعارضة للكنيسة.

ويعتبر فاجيولي أن الحرب الروسية على أوكرانيا تجاوزت حقبة رثاء بنديكتوس الـ16 على “الجذور المسيحية لأوروبا” التي عفا عليها الزمن، فنظام بوتين بدعم من بطريرك موسكو يجبرنا على إعادة التفكير في تفسيرات القرن الـ20، بحسب تعبيره.

ويعتبر الكاتب أن أزمة ثقة القادة السياسيين في تعامل الفاتيكان مع الحرب الروسية في أوكرانيا هي نتيجة تصاعد النزعة القومية في أوروبا، لكنها أيضا تعيد تأجيج المظالم الكاثوليكية الشرقية التي ظلت خامدة لفترة طويلة، مشيرا إلى أن الكنيسة الكاثوليكية والفاتيكان والبابوية لا تزال تحاول إيجاد دور لها في خضم التحولات التي رافقت بداية القرن الحالي.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply