بينما تقود روسيا حربا بلا هوادة في أوكرانيا أسفرت عن فرار ملايين اللاجئين الأوكرانيين إلى البلدان المجاورة، لا تزال العلامات التجارية الغربية مثل سلاسل المطاعم السريعة مستمرة في خروج جماعي من روسيا.

وأعاد إغلاق ماكدونالدز فروعه في روسيا إحياء ذكريات عديدة زمن نهاية الاتحاد السوفياتي، إذ كان الطعام -ولا يزال- رمزا سياسيا مهما لاسيما وأنه ارتبط بعلامة تجارية شكّل دخولها إلى قلب الاتحاد السوفياتي السابق علامة على نهاية حقبة الحرب الباردة.

لكن الحقبة اللاحقة انتهت بسرعة، مما يفسح المجال لانتشار سريع للقومية الروسية، هذه القومية كانت نتيجة مباشرة للاختناق الاقتصادي للبلاد من خلال العقوبات ورفض الغرب الواسع لروسيا وحربها على أوكرانيا.

يعاقب الغرب روسيا على أمل أن تضع الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي أثارتها العقوبات نهايةً للحرب الدموية على أوكرانيا، الدولة المستقلة التي كانت في يوم من الأيام جزءا لا يتجزأ من الاتحاد السوفياتي.

وفي مقالهما المشترك بموقع “ذا كونفيرزيشن” (The Conversation)، كتبت الأكاديميتان جوليا خريبتان هورهاغر من جامعة ولاية كولورادو، وإيفجينيا بياتوفسكايا من جامعة جنوب فلوريدا، أن أولئك الذين يعتقدون أن العقوبات ستغيّر روسيا والروس وتنهي الحرب لا يعرفون سوى القليل عن البلاد وتاريخها وشعبها.

معاناة الروس الدائمة

تقول الكاتبتان إن الروس معتادون على الاضطرابات وعدم الاستقرار. لقد تحملوا تجارب اجتماعية قاسية خلال القرن الـ20 وأوائل القرن الـ21، أجرتها عليهم قيادتهم السياسية. وباستثناء المثال النادر لميخائيل غورباتشوف، لم تكن القيادة الروسية خلال تلك الفترة ديمقراطية على الإطلاق.

خرجت الدولة، التي قاد مشاركتها في الحرب العالمية الأولى قيصرٌ ضعيف، فقيرة من هذا الصراع. تم إسقاط حكم القيصر بوحشية من قبل الانتفاضة البلشفية التي بشرت بالحكم السوفياتي لعقود. استلزم تشكيل الدولة السوفياتية نفي الملايين من شعبها إلى معسكرات الجولاج، وإعدام العديد منهم بدم بارد خلال القمع الجماعي لستالين من عام 1917 إلى عام 1956.

ألغيت الملكية الخاصة في عام 1929، وأمر القادة السياسيون بطاعة مطلقة ونزيهة للدولة السوفياتية، تطلبت الحرب العالمية الثانية تضحية مؤلمة من كل مواطن بما في ذلك الأطفال.

بعد انتهاء الحرب، بنى الاتحاد السوفياتي “الستار الحديدي” المجازي، مما منع مواطنيه من السفر والتواصل مع الغرب. أدت محاولات الدولة السوفياتية إلى توسيع نفوذها الشيوعي إلى الحرب الباردة، وخلال تلك الفترة أدت الإصلاحات الزراعية الفاشلة إلى تقنين المواد الغذائية، وأودى التفكك المؤلم لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية في عام 1990 إلى حدوث اضطراب اقتصادي في روسيا المشكّلة حديثا، إلى جانب التسبب بالبطالة ومعدلات الانتحار المرتفعة.

ماذا يعلمنا سرد الويلات هذا؟ تقول الكاتبتان إنه يشير إلى أن الروس لا يمكن أن يخافوا من غياب السلع الذي تفرضه العقوبات.

أصبحت علامات الأزياء الراقية وأجهزة آيفون والقهوة الفاخرة والسيارات الأجنبية جزءا من الحياة الروسية على مدى الـ20 عاما الماضية، لكن الروس امتلكوها لفترة قصيرة جدا بحيث يمكنهم تخيل الحياة من دونها.

متحدون في كفاحهم

تاريخيا، أي صراع سياسي واقتصادي وحّد روسيا وشعبها، لاسيما في مواجهة عدو مشترك. وكان العدو تقليديا هو الغرب.

وحدت الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة الأمة الروسية حول فكرة التضحية بالنفس باعتبارها مركزية للهوية السوفياتية. تتكون الهوية -نوع من الاستثنائية السوفياتية- من أمة متفوقة أخلاقيا وتقدر الروح “الروسية الغامضة” أكثر من الجسد الغربي القابل للتلف.

شملت الهوية السوفياتية مجموعة كبيرة ومتنوعة من الأعراق، بما في ذلك على سبيل المثال لا الحصر روسيا، وعلى الرغم من أن عاصمة اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية كانت موسكو، وكانت اللغة الرسمية للاتحاد السوفياتي هي الروسية، فإن الاتحاد السوفياتي كان يتألف من 14 جمهورية إضافية، ووحّد أكثر من 100 شعب.

إن الوحدة المزعومة بين الأمم قابلة للنقاش، إذ غالبا ما تم فرض التشابه عن طريق الاستيعاب القسري (الترويس)، أو انتشار اللغة والثقافة الروسية والسوفياتية، أو احتكار الدولة لكل شيء، جنبا إلى جنب مع التفكير الجماعي. لذا فإن كلمة “سوفياتي” تشير إلى أي شخص عاش في الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك الأوكرانيون والروس والجورجيون والبيلاروسيون والأرمن والأذربيجانيون والإستونيون.

استخدم اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية خطابا مغرورا يمجد التشابه السوفياتي والتضحية الأخلاقية لشعبه كمحرك للوطنية والولاء للوطن الأم، الذي كان جوهره روسيا. من بين الشعارات والأقوال الشائعة “أولا، فكّر في وطنك الأم، وبعد ذلك فقط فكر في نفسك”، وأيضا “أنا هو الحرف الأخير من الأبجدية”، وكذلك “كنت سأتعلم الروسية بمفردي لأن لينين تحدث بها”.

دعاية تظهر الأولاد السوفيات مستعدين لأداء دورهم متطوعين مسلحين في أي صراع أثناء الحرب الباردة (غيتي) 

في النهاية، تم فهم واستخدام كلمات “روسيا” و”الاتحاد السوفياتي” بشكل متبادل، مما يجعل دلالاتهم متشابهة في الداخل والخارج. لذلك، بالنسبة للعديد من الروس، وخاصة أولئك الذين ولدوا ونشؤوا في الاتحاد السوفياتي، فإن مشاهدة أوكرانيا وهي تحتضن الغرب تعني ترك جزء من تاريخ روسيا يذهب معه.

الدب الجريح

ولهذا تعتقد الكاتبتان أن إستراتيجية العقوبات الغربية يمكن أن تأتي بنتائج عكسية.

ورغم أنه ليس كل الروس يؤيدون الحرب في أوكرانيا والحكومة التي جرتهم إليها. لكن كل الروس يعانون من العقوبات والأزمة. معاناتهم المشتركة أمر خطير: إنها مألوفة للغاية، تجعلهم غاضبين، وبعضهم يتوق للرد على ذلك.

ينبع احتمال ذلك من العقلية القومية الروسية، التي نشأت في العهد السوفياتي والتي تؤثر الآن حتى على الأجيال الذين نشؤوا في روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي. الحريات الغربية جذابة جزئيا فقط، إذ إن الروس لم يمتلكوها تاريخيا، لا حرية التعبير وتقرير المصير والدين، ولا السفر غير المقيد.

وبدلا من ذلك، فإن الشعب الروسي يتحلى بالصبر، وغالبا ما يكون مخلصا بشكل غير عقلاني لوطنه الأم القاسي، الذي بدأ زعيمه فلاديمير بوتين الحرب.

أين يترك ذلك الروس؟ من وجهة نظر الكاتبتين، يتركهم في مأزق عميق: الدولة المعتدية التي تقصف وتدمر أوكرانيا حاليا هي أيضا وطنهم الحبيب، وهي الآن المكان الوحيد في العالم الذي يقبلهم كما هم.

إن كون بلادهم منبوذة دوليا ليس بالأمر الجديد على الروس، فقد اعتادوا ذلك في مجالات عديدة تتراوح من سياسات المناخ إلى الرياضة والشؤون الخارجية، بما في ذلك ضم شبه جزيرة القرم الذي تمت إدانته على نطاق واسع.

لكن الوضع اليوم أكثر تشددا، وفرص تحول الروس نحو حكومتهم -كلما يشعرون بالرفض من قبل المجتمع الدولي- كبيرة.

من المرجح أن يؤدي ذلك إلى تكثيف نظام بوتين الاستبدادي تحت ستار استعادة الصناعة والاقتصاد في البلاد في مواجهة الرفض الغربي.

سيكون لروسيا عدو مشترك مرة أخرى، ولأن التفكير -والعصيان- في روسيا له عواقب وخيمة، فلن يتم سماع المعارضة. خصوم بوتين -ومن بينهم آنا بوليتكوفسكايا، وألكسندر ليتفينينكو، وبوريس نيمتسوف، وأليكسي نافالني وآخررون عديدون- بعضهم قتل، والبعض الآخر في السجن، وهم يمثلون عقوبات تحذيرية.

إن تشجيع الروس على الاحتجاج على حكومتهم الاستبدادية، كما فعل الغرب، مع قطع العلاقات معهم، يصبح تناقضا أيديولوجيا. إنه معاقبة للناس على ما تفعله حكومتهم بينما يتم خنقهم اقتصاديا، بحسب الكاتبتين.

في سيبيريا الجليدية، قواعد السلامة هي مسألة حياة أو موت، وإحدى هذه القواعد هي ترك طريق للهروب أمام الدب دائما، إذ يكون الدب عدوانيا بشكل خاص عندما يصاب بجروح وتتم محاصرته ويحمي صغاره. والدب الجريح، الذي يمثل الأمة الروسية، ليس استثناء.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply