ونحن نشاهد التغطية المستمرة للحرب على أوكرانيا في القنوات التلفزيونية البريطانية والأميركية والغربية الأخرى ونرى الصحفيين يبدون تعاطفا ومشاعر إنسانية عند إعداد تقاريرهم عن الفظائع التي تتبدى أمام أعينهم لا بد أن نتساءل عما تعنيه الموضوعية والحيادية والنزاهة حقا في عالم الصحافة

منذ أن توغلت القوات الروسية في أوكرانيا في الساعات الأولى من يوم 24 فبراير/شباط الماضي ظلت تغطية الإعلام الأنجلو أميركي للحرب التي تدور رحاها في أوروبا مفعمة بالعاطفة والمشاعر الوطنية.

ولم يكتف المراسلون الغربيون الموجودون على أرض أوكرانيا والمحررون في غرف الأخبار عبر أوروبا وأميركا بإبداء قدر عال من التعاطف مع المدنيين الأوكرانيين الذين يعانون من وطأة حرب روسيا غير المبررة، بل أظهروا كذلك ميلا وجدانيا كبيرا نحو من يحملون السلاح “لحماية وطنهم من الغزاة”.

وفي مقالها بموقع الجزيرة الإنجليزية كتبت زاهرة حرب الأكاديمية في جامعة سيتي بلندن قائلة إنه كان لافتا لنظرها مشاهدة الصحفيين البريطانيين والأميركيين وهم يغطون هذا الصراع الوحشي ليس بتلك الموضوعية العمياء التي كانت مصدر اعتزاز وفخر بالصحافة الغربية في العصر الحديث، وإنما باستخدام مصطلحات تعبر بدقة عن الجوانب الإنسانية والواقع المرير للأوضاع على الأرض.

المقاومة

في الأيام الأولى من الحرب على أوكرانيا غصت شاشات التلفزة والصحف بقصص تبرز شجاعة وصمود  الأوكرانيين العاديين في وجه غزو شامل، وشيئا فشيئا بدأ مصطلح “المقاومة” يستخدم بصورة منتظمة في وصف القوات الأوكرانية والمتطوعين الذين حملوا السلاح دفاعا عن وطنهم.

وبثت القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية الغربية نداءات الرئيس فولوديمير زيلينسكي لجميع الأوكرانيين -في الداخل والخارج- للقدوم والانضمام للقتال، ومناشداته الدول الصديقة تقديم المساعدة العسكرية بدون إخضاعها للرقابة أو التحليل النقدي.

“اعتداء وغزو”

في التقارير الإخبارية ظلت ما تطلق عليها روسيا “عملية خاصة” توصف -مرارا وتكرارا وبدقه- بأنها “غزو”، و”اعتداء” و”عدوان غير مبرر”، ولطالما أدين الجيش الروسي “لاستهدافه المدنيين عمدا” و”قصفه المناطق السكنية”، ولم يتم إيلاء وزن على الإطلاق لادعاءات روسيا بأن “المدنيين يتم استخدامهم كدروع”.

وتقول الكاتبة “إنها باعتبارها صحفية شاركت في تغطية الصراع فإنها تؤيد استخدام تلك العبارات والمصطلحات في تغطية الحرب على أوكرانيا، وتكمل “لطالما دافعت عن استخدام الصحفيين لغة تنقل بدقة حقيقة أوضاع تستجد أمام أنظارهم- لغة لا تقيدها رغبة في أن تكون موضوعية ومتوازنة وغير منحازة حتى في وجه عدوان إمبريالي أو اعتداء عسكري لم يسبقه استفزاز أو غزو أو جرائم حرب”.

وتضيف “مع أنني أؤيد تماما استخدام مثل تلك اللغة والمصطلحات الدقيقة في تغطية الغزو الروسي فإنني ما زلت مصدومة ومحبطة، ذلك لأنني عندما كنت أغطي “الاعتداءات” الإسرائيلية على لبنان في تسعينيات القرن الماضي للإعلام الغربي لم يكن يُسمح لي قط بوصف ما يحدث في البلد بهذه الدقة”.

وقالت “عندما كنت أقوم بإعداد تقارير لشبكة “بي بي سي عربي” (BBC) إبان الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان على سبيل المثال أبلغوني ألا أشير إلى الجيش الإسرائيلي أبدا على أنه “القوة المحتلة” من أجل التزام الحياد، وطُلب مني ألا اتحدث إطلاقا عن “مقاومة” في جنوب لبنان الذي كان حينها تحت الاحتلال، وأن أصف أي عمل من ذلك القبيل في الأراضي المحتلة على أنها “عمليات عسكرية ضد قوات إسرائيلية”، لكي أظل مرة أخرى ملتزما بالحياد ووفيا للسياسات التحريرية المقدسة للبي بي سي”.

وتكمل الكاتبة “طوال تلك السنوات لم نكن نحن فقط أولئك الصحفيين القادمين من نصف الكرة الجنوبي الذين يتعرضون للتوبيخ بذريعة أننا “عاطفيون” أو “متحيزون” أو “غير متوازنين” في تغطياتنا للنزاعات، بل إن زملاءنا البيض والأوروبيين والأميركيين واجهوا كذلك اتهامات بالتحيز والافتقار للموضوعية كلما حاولوا نقل الأحداث كما هي في الواقع”.

مزاعم الحياد

في عام 2014 -على سبيل المثال- تعرض الصحفي البريطاني المخضرم جون سنو لوابل من النقد وحتى الإدانة لنشره مقطع فيديو على الموقع الإلكتروني للقناة الرابعة (Channel 4 news) دعا فيه إسرائيل إلى وضع حد لاعتدائها الوحشي على غزة، والكف عن القصف العشوائي للقطاع الذي أسفر عن مقتل العديد من الأطفال الأبرياء.

وسرعان ما انتشر فيديو سنو على وسائل التواصل الاجتماعي حاصدا عددا كبيرا من المشاهدات، وهنأه كثير من الجمهور على دقة إعداد تقرير عن عواقب تصرفات إسرائيل، على أن معظم من انتقدوه على ما قيل إنه خرق لمبدأ حياد الصحافة البريطانية الذي يحظى بدرجة عالية من التقدير كانوا من الصحفيين والمثقفين والمحللين.

ونحن نشاهد التغطية المستمرة للحرب الأوكرانية في القنوات التلفزيونية البريطانية والأميركية والغربية الأخرى ونرى الصحفيين يبدون تعاطفا ومشاعر إنسانية عند إعداد تقاريرهم عن الفظائع التي تتبدى أمام أعينهم لا بد أن نتساءل عما تعنيه الموضوعية والحيادية والنزاهة حقا في عالم الصحافة.

والصحفيون الغربيون لم يعد بإمكانهم ادعاء تفوقهم الأخلاقي، ولا الزعم بأنهم أفضل وأعلى مهنية نسبيا من الصحفيين المنحدرين من نصف الكرة الجنوبي أو القادمين من الدول المحتلة التي مزقتها الحروب بسبب “حيادهم” و”نزاهتهم” و”موضوعيتهم” المزعومة، تقول الكاتبة.

“موضوعية وفق السياق”

وتتابع قائلة إن “أي صحفي غربي شارك في تغطية الحرب الأوكرانية واستخدم مصطلحات مثل “المقاومة” و”الغزو” و”العدوان” عليه أن يتوقف ويفكر في السبب الذي جعلنا نحن معشر الصحفيين اللبنانيين لا نقبل استخدام نفس تلك المصطلحات عندما كنا نغطي الاعتداءات الإسرائيلية على المدنيين في وطننا في أعوام 1993 و1996 و2006″.

وتضيف “على أولئك الصحفيين الغربيين التوقف والتساؤل عن السبب الذي جعلهم ينظرون إلى تعاطفي مع ضحايا الحرب في لبنان، ومحاولاتي لنقل معاناتهم وإظهار مكابدتهم على أنها دليل على التحيز وعدم المهنية في وقت تحظى تغطية مماثلة لأحداث أوكرانيا اليوم بالترحيب باعتبارها مثالية وإنسانية الطابع، وهي كذلك لأكون واضحة”.

وتابعت “عندما كتبت عنا -نحن الصحفيين اللبنانيين- على أننا “كنا موضوعيين وفقا للسياق” في تغطيتنا للاعتداءات الإسرائيلية على لبنان في الماضي أخبروني بأنه “لا يوجد شيء يسمى موضوعية السياق”، لكن اليوم يوصف الصحفيون الأنجلو أميركيين بأنهم “موضوعيون من حيث السياق” في تغطيتهم لأوكرانيا دون إغفال مشاعرهم وقيمهم ومعتقداتهم ومشاعر جمهورهم عند إعداد تقاريرهم”.

ولطالما كان الصحفيون الغربيون وجمهورهم -على حد سواء- يعتبرون الموضوعية والحياد مفاهيم مطلقة لا يمكن أن يحددها السياق ولا ينبغي له، ولذلك ترى الكاتبة أنه آن الأوان لإعادة النظر في معنى الحياد وأهميته عند تغطية مأساة إنسانية تفرضها قوة مدمرة صديقة كانت أو عدوة.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply