الهرب من القصف إلى مأوى تحت الأرض بات جزءا رئيسا من حياة الأوكرانيين الذين يلوذون بالملاجئ ومحطات المترو العميقة وأقبية المباني السكنية، وهذا الأمر قد يتكرر مرارا خلال ساعات اليوم، كلما دوت صفارات الإنذار وتلقى السكان تحذيرات عبر التطبيقات الحكومية.

كييف- سريعا ما اكتسبت حياة الأوكرانيين، الذين بقوا في مدنهم، روتينا خاصا بأيام الحرب، يبدأ مع ساعات الصباح الأولى لانتهاء فترة حظر التجول، ويستمر -عمليا- حتى صباح اليوم التالي.
بداية اليوم تنطلق بالوقوف في طوابير طويلة أمام المحال التجارية، وإن كان معظمها خاليا من المواد الأساسية، كالخبز أو الطحين أو السكر، بحكم أن عمليات الشحن الداخلية توقفت تماما.

دخول المتاجر أشبه بذر الرماد في العيون، حيث لا يستطيع الأوكرانيون إلا تأمين وشراء المواد الكمالية التي قد تلبي رغبات الأطفال لا حاجات الكبار، كبعض ما تبقى في المحال من حلويات، إضافة إلى ما تبقى من فواكه ومنظفات.

والحال مشابه أمام وداخل الصيدليات التي تعاني أيضا من الإغلاق أو نقص الإمدادات، ومع أن السلطات المعنية تعلن بين حين وآخر عن فتح صيدليات في أماكن معينة، إلا أنها غالبا ما تكون بعيدة عن متناول الجميع.

الطوابير أمام المحال التجارية أصبحت أمرا معتادا (الجزيرة)

تجريم الاحتكار

وبحكم ندرتها وقلتها، قفزت أسعار الخبز في أيام الحرب الأولى أضعافا، وذلك دفع السلطات أيضا إلى مضاعفة تجريم من يقوم باحتكار عمليات البيع ورفع الأسعار بناء على تقديرات خاصة؛ حتى إن الجُرم هنا بلغ حد المساواة بنشاط “المخربين الروس”، الذين تسللوا إلى داخل المدن، أو بعمل اللصوص وقطاع الطرق، وعقوبة كليهما “التصفية الجسدية”.

لكن الندرة وارتفاع الأسعار أصبحا واقعا لا مفر منه في محطات الوقود التي أغلق معظمها، أو باتت تعمل وفق ما يتوفر لديها من وقود لا يصلح لجميع أنواع السيارات، وبات على السكان البحث عن حاجاتهم بصعوبة، والانتظار طويلا في طوابير أيضا، لإيجاد كميات كافية أو جزئية من البنزين أو الديزل أو الغاز.

مبادرات متعددة

وبالمقابل، برزت في الشوارع الأوكرانية مبادرات بين السكان، تقوم بموجبها “اللجان الشعبية” بتوزيع ما توفر من مواد على السكان، وبالمجان.

الأولوية هنا لكبار السن والأطفال، حيث يكفي أن تقترب من عناصر هذه اللجان، وتريهم صورة لأولادك، ليعطوك بعضا مما يتوفر لديهم من مواد يتبرع بها تجار، كالخبز والبطاطا والشمندر والبيض والموز وغير ذلك، فضلا عن مجانية تعبئة المياه العذبة للشرب، لأن المياه في المنازل غير صالحة لذلك منذ سنوات طويلة بحكم قدم شبكاتها تحت الأرض.

وعلى مستوى آخر، أطلقت جميع شركات الاتصالات في أوكرانيا مبادرة بموجبها يستطيع الأوكرانيون التحدث واستخدام الإنترنت من دون انقطاع، حتى إن انتهى الرصيد أو انتهت “الباقة”.

A woman walks in front of a destroyed building after a Russian missile attack in the town of Vasylkiv, near Kyiv, on February 27, 2022. - Ukraine's foreign minister said on February 27, that Kyiv would not buckle at talks with Russia over its invasion, accusing President Vladimir Putin of seeking to increase "pressure" by ordering his nuclear forces on high alert. (Photo by Dimitar DILKOFF / AFP)
مشاهد من الدمار في كييف جراء القصف الروسي (الفرنسية)

لجان شعبية متعددة المهام

وتتكون اللجان الشعبية من أفراد في الحي الواحد، وتتعاون، بالتنسيق مع قوات “الدفاع الإقليمي” التابعة لوزارة الدفاع، على تنظيم أمور الحياة في الأحياء، وإجراء دوريات لضمان الأمن والنظام فيها.
وتقوم اللجان بمحو كل ما يدل على طبيعة الحي ومكانه، من أعمدة ولوحات وأرقام، لتضليل القوات الروسية، لا سيما بعد إعلان “غوغل” تعطيل خرائطها في أوكرانيا؛ كما تجري اللجان دوريات تبحث عن “علامات مشعة” يرسمها “العملاء الروس” قرب المواقع الحيوية والسكانية لتستهدف بالقصف لاحقا.

تطلب هذه اللجان من “الغرباء” في الحي إثبات الهوية، وتتواصل مع “الدفاع الإقليمي” عند كل شك للتدخل وتبيان الأمر، بما لديها من عدة وعتاد يشمل البنادق الرشاشة والسلاح الخفيف.

المحال التجارية أصبحت خالية من الاحتياجات الأساسية (الجزيرة)

“سموزي بانديرا”

ومن مهام “اللجان الشعبية” أيضا قذائف المولوتوف، التي أخذت تسمية ساخرة في أوكرانيا اليوم، حيث يطلق عليها اسم “كوكتيل سموزي بانديرا”.
الاسم ينسب إلى شخصية ستيبان بانديرا، لأنه يعدّ (محليا وعلى مستوى واسع) رمزا للنضال ضد الاتحاد السوفياتي في أواسط القرن الماضي، ولأن اسمه يشعل غضب الروس الذين يعدّونه “رمزا للنازيين” في أوكرانيا.

في كل حي يُجهز الأهالي هذه القذائف، ويستعدون بها لاستقبال آليات وأفراد القوات الروسية المتقدمة نحو أعماق المدن، وكذلك حال معظم الحواجز البينية على الطرقات الرئيسة للمدن المستهدفة بالاجتياح.

الحياة تحت الأرض

الهرب من القصف إلى مأوى تحت الأرض بات جزءا رئيسا من حياة الأوكرانيين الذين يلوذون بالملاجئ ومحطات المترو العميقة وأقبية المباني السكنية.
هذا الأمر قد يتكرر مرارا خلال ساعات اليوم، كلما دوت صفارات الإنذار وتلقى السكان تحذيرات عبر التطبيقات الحكومية، وقد يطول المكوث فيها -في بعض الأحيان- ساعات عديدة، تصل الليل بالنهار، أو العكس.

عائلات أوكرانية في قبو أحد المستشفيات بالعاصمة كييف (الأوروبية)

صعوبة هذا الوضع ليست بسبب نمط حياة جديد لا راحة فيه فقط، بل لحقيقة أن كثيرا من الملاجئ والأقبية لم تجهز لهذا الغرض من قبل، فلا كهرباء، ولا ماء، ولا تدفئة، ولا أماكن للجلوس أو الاستلقاء، أو حتى حمامات لقضاء الحاجة.

يجلس الناس ويستلقون على ما توفر لديهم من بطانيات تقيهم البرد، أو على ألواح كرتونية جمعت، أو توفرت في الملاجئ والأقبية نفسها، لأن معظمها كانت عبارة عن مستودعات فارغة، مملوءة بالحجارة أو الرمل.

يحاول الأهالي التخفيف عن الصغار، بإيثار الدفء لهم، ومكافأتهم بما توفر من سكاكر وحلويات، أو ما بقي عالقا في الذهن، من قصص وحكايات وأغان ومسليات أخرى.

وهنا تبرز مشاهد لافتة للتعاون و”التآخي” بعد “التعارف” بين الجيران، يقول الأهالي أنفسهم إن الحرب -على مجاعتها- أسهمت بتجليتها، وبتعزيز الوحدة بين السكان والشعب والدولة ومؤسسات الدفاع والأمن بوجه عام.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply