الحرب هي دائما مأساة، لكنها أحيانًا تبدو وكأنها لا مفر منها، وقد تصارع الفلاسفة وعلماء الدين والسياسيون والقادة العسكريون مع هذه القضية لآلاف السنين، وتوصلوا -إلى حد كبير- إلى بعض الاتفاقات الأساسية حول ما يجعل الحرب قابلة للتبرير الأخلاقي، وفق نظرية “الحرب العادلة”.

تفترض تلك النظرية أن الحرب يمكن أن تكون مبررة أخلاقيا، رغم الكراهية المبدئية لها، إذا استوفت مجموعة من المعايير التي يجب الوفاء بها جميعا. وتنقسم تلك المعايير لمجموعتين، هما: الحق في خوض الحرب، والسلوك الصحيح أثناء الحرب. ويرى فلاسفة أن الأفراد يجب ألا يؤنبهم ضميرهم إذا طُلب منهم القتال في “حرب عادلة”.

ووجدت تقاليد الحرب العادلة في أغلب الأديان، كما هي في أحكام الجهاد في الإسلام، وعرفت بمصر القديمة إذ نقشت قواعدها على جدران معابد فرعونية، وعرفتها الفلسفة الصينية القديمة والكونفوشوسية، وكذلك الملحمة الهندية الهندوسية ماهابهاراتا، واليونان القديمة. ورغم أن أرسطو بدا في بعض أقواله مدافعا عن العبودية، فقد اعتبر أن هدف العمل العسكري ينبغي أن يكون تجنب الاستعباد من قبل الذين لا يستحقون العبودية.

تعمل معايير تقاليد الحرب العادلة كمساعدة في تحديد ما إذا كان اللجوء إلى السلاح مسموحًا به أخلاقيا، وتحاول تصور كيفية تقييد استخدام الأسلحة وجعلها أكثر إنسانية، وتوجيهها في نهاية المطاف نحو هدف إقامة سلام وعدالة دائمين.

ولكن هذا لا يعني أن المتحاربين يتفقون على كيفية تطبيق مبادئ الحرب، فأغلب الحروب القديمة والحديثة تخرق قواعد الحرب العادلة. وبالنظر إلى محاولات الكرملين تبرير حربه على أوكرانيا، بما في ذلك اتهاماته لها بالقيام بممارسات الإبادة الجماعية، فإن الأمر يستحق تحليل موقف روسيا من خلال عدسة تقليد الحرب العادلة، وهو محور عمل الأكاديمية فاليري موركيفيسيوس بجامعة كولجيت الأميركية التي تدرس أخلاقيات الصراع.

تقول الكاتبة في مقالها بموقع ذا كونفرسيشن (the conversation) إنه على الرغم من أن العديد من المناهج المعاصرة للحرب العادلة في الغرب ليست مستمدة من الدين، فإنها تأثرت بشكل خاص بالمفكرين المسيحيين. يعود هذا التقليد إلى القرن الرابع، عندما جادل القديس أوغسطين (354-430)، حول كيف يمكن للناس التوفيق بين معتقداتهم حول اللاعنف والخدمة السياسية والعسكرية في بلدهم.

في نهاية المطاف، تطور التقليد ليشمل 6 مبادئ لتقييم عدالة الحرب: السلطة الشرعية، والسبب العادل، والتناسب، واحتمال النجاح، والملاذ الأخير، والنية الصحيحة.

السلطة الشرعية

تاريخيًا، بدأ تحليل الحرب العادلة بالسؤال عن السلطة الشرعية. هل أعلنت الحرب من قبل صاحب سلطة ذي سيادة ومسؤول؟ في التقليد الكلاسيكي للحرب العادلة، كان حق شنّ الحرب مقصورًا على أعلى سلطة مدنية في مجتمع سياسي ما.

اليوم، يقترح بعض العلماء أن الأمم المتحدة هي الوحيدة التي تملك هذه السلطة، لأن ميثاق الأمم المتحدة يحظر استخدام القوة إلا للدفاع عن النفس. ويمكن بالتأكيد التشكيك في شرعية رئاسة فلاديمير بوتين، بالنظر إلى عدم وجود انتخابات حرة ونزيهة في روسيا، بحسب تقدير الكاتبة.

ومع ذلك، كان مفكرو الحرب العادلة الكلاسيكيون قلقين للغائية بشأن الاضطرابات والتمردات المدنية. ذهب عالم القرن الثالث عشر توماس الإكويني إلى حد تحذيره من الإطاحة بطاغية، إذا كان المجتمع سيعاني من “ضرر أكبر من الفوضى الناجمة عن الحكومة الاستبدادية نفسها”.

سبب عادل

لكي تكون مبررة، يجب أيضًا خوض الحرب بهدف تحقيق قضية عادلة. تقليديا، تم اعتبار أن هناك سببين عادلين: الدفاع عن النفس وتصحيح الأخطاء. عرّف الإكويني الحرب العادلة بأنها “إذا كانت دولة ما قد أهملت معاقبة خطأ ارتكبه مواطنوها، أو رد شيء تم أخذه بشكل غير صحيح”.

يفترض أن تشمل قواعد الحرب العادلة مبدأ التناسب واحتمالية النجاح وكونها الحلّ الأخير للمشكلة (رويترز)

وهذه تعريفات فضفاضة، بحسب الكاتبة، وقد جادل الكرملين للحرب في أوكرانيا بأنه يستند لكلا الأمرين، باعتبار أنه يدافع عن روسيا في مواجهة أوكرانيا التي تسعى للانضمام للناتو، واتهم حكومة كييف (التي يتهمها بالنازية والفاشية أيضا) بارتكاب إبادة جماعية ضد الناطقين بالروسية في لوغانسك ودونيتسك، حيث يقاتل الانفصاليون الذين تدعمهم موسكو.

التناسب

مخاوف موسكو من أن سياسات اللغة الأوكرانية تميز ضد المتحدثين بالروسية الذين يشكلون حوالي ثلث البلاد، لها بعض الصحة، ومع ذلك لا يحظر القانون الجديد استخدام اللغة الروسية، على الرغم من تقارير وسائل الإعلام في الكرملين التي تشير إلى عكس ذلك.

حتى لو كانت حماية الحقوق اللغوية قضية عادلة، فإن تبرير الحرب سيكون صعبًا بسبب مبدأ آخر: التناسب. جميع الحروب تسبب الأذى، لكن الاستخدام المبرر للقوة لا يمكن أن يسبب ضررًا أكثر من الفوائد التي يتوقع أن يجلبها.

لقد أدت الحرب الروسية بالفعل إلى إلحاق أضرار جسيمة بالمناطق المدنية في المدن الكبرى، ومن المرجح أن يرتفع عدد القتلى مع زيادة القوات الروسية هجماتها على المدن. وقد فرّ مئات الآلاف من البلاد.

ضعف القضية العادلة المزعومة لروسيا يعني أنه لا يمكن اعتبار هذه الحرب متناسبة، وكما قال الفيلسوف الكاثوليكي فرانسيسكو دي فيتوريا في القرن السادس عشر، فإن المحاسبة على “جرائم تافهة” بالوسائل العسكرية أمر خاطئ بسبب الآثار “القاسية والمروعة” للحرب.

احتمالية النجاح

يتطلب منطق التناسب أيضًا النظر في احتمالية النجاح. على حد تعبير أحد علماء الأخلاق المعاصرين، فإن لفظ “الاحتمال” يقصد به ما هو أكثر بكثير من مجرد “أمل” أو “فرصة”، أي أنه يجب أن تكون هناك فرصة حقيقية لاستخدام القوة في تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.

للوهلة الأولى، قد يبدو هذا المبدأ متحيزا ضد الضعيف. جادل بعض العلماء بأنه يجب السماح للدول بالدفاع عن نفسها من العدوان، حتى لو لم تكن فرص النجاح كبيرة، ولا يزال هذا الجدل مستمرا.

وإذا لم تتحقق أهداف الكرملين الحربية، فإن أي حرب يشنها ستكون غير عادلة بطبيعتها، حيث سيتم التضحية بالأرواح دون جدوى. وكما حذر نقاد غربيون وجنرال روسي متقاعد، فإن المحاولات الروسية للسيطرة على أوكرانيا كلها من المرجح أن تؤدي إلى تمرد طويل الأمد.

الحل الأخير

يتطلب مبدأ “الملاذ أو الحل الأخير” استنفاد جميع الوسائل المعقولة الأخرى لحل النزاع قبل الذهاب إلى الحرب.

في اليوم السابق للغزو، ادعى بوتين أنه مستعد للتفاوض، ومع ذلك، مع انتشار التحذيرات في أوائل فبراير/شباط بشأن حشد القوات الروسية، رفض الكرملين التعاون مع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، وهي مؤسسة حكومية دولية تهدف إلى تقليل التوترات العسكرية من خلال تعزيز الشفافية.

طلبت أوكرانيا توضيحًا بشأن القوات الروسية بالقرب من حدودها، حيث يتعين على أعضاء منظمة الأمن والتعاون في أوروبا تقديم إخطار مسبق للتدريبات، لكن روسيا رفضت حضور جلسات مشتركة.

على النقيض من ذلك، في وقت متأخر من اليوم السابق للحرب، كانت أوكرانيا لا تزال تدعو إلى حل دبلوماسي مع الرد على التهديدات المتزايدة بضبط النفس بشكل كبير، بحسب الكاتبة.

النية الصحيحة

أخيرًا، يؤكد مبدأ النية الصحيحة أن السبب المعلن للطرف المهاجم يجب أن يكون السبب الفعلي الدافع للحرب.

وتقول الكاتبة إنه من الصعب تقييم هذا المبدأ، إذ ينشغل خطاب بوتين بالأمجاد المفترضة للإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفياتي، وحتى بإرثه الخاص.

من المستحيل أن تعرف على وجه اليقين ما يفكر فيه شخص ما، ولكن قياس تصرفات الأشخاص مقابل ادعاءاتهم هو إحدى طرق تقييم النية؛ تبدو الادعاءات المتعلقة بحماية الناطقين بالروسية جوفاء، حيث يهدد تصاعد العنف الجنود والمدنيين الأوكرانيين الناطقين بالروسية، بحسب الكاتبة التي تشير لدور الكرملين في منح الجنسية الروسية للأوكرانيين في دونباس بشكل سريع، ثم ادعاء التدخل لإنقاذ “المواطنين الروس”.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply