كاليه – منذ أكتوبر/تشرين الأول 2016، تم تفكيك “غابة كاليه” أو مدينة الصفيح التي كانت تؤوي ما يبلغ 10 آلاف من المهاجرين بأمر من وزير الداخلية الفرنسي برنار كازينوف. وبعد 6 سنوات، لا يزال من الصعب الوصول إلى الأماكن التي يبيتون فيها الآن بسبب التشديد الأمني الصارم من عناصر الشرطة.

لم يبق من الغابة القديمة سوى تضاريس الكثبان الرملية وعلامات تحظر الاستقرار في المنطقة، حتى إن باقي المخيمات المنتشرة في أطراف المدينة أصبحت أماكن مكشوفة قُطعت كل أشجارها ليسهل العثور على خيم المهاجرين.

وصلت كاميرا الجزيرة نت إلى داخل بعض هذه المخيمات لرصد وحشية الأوضاع “غير الإنسانية” التي يواجهها أطفال ونساء ورجال غادروا أوطانهم بحثا عن حياة أفضل في الجهة المقابلة من منطقة العبور كاليه إلى بريطانيا.

معاناة مستمرة

تبرز صور معاناة النازحين في الأفق كما لو كانت تخرج من العدم. ولعل أول ما يلفت الانتباه فور الوصول إلى محطة كاليه هو عدد الواقفين أمام المبنى أو داخله لنيل قسط من الراحة والاحتماء من البرد القارس.

يحكي شخص أربعيني من كردستان العراق بلغة فرنسية وإنجليزية متعثرة أنه قضى 6 سنوات في السجن لأنه عمل مهربا في الماضي، وساعد المهاجرين على العبور من قناة المانش الإنجليزية عبر الشاحنات بتكلفة تتراوح بين ألفين و3 آلاف يورو. واليوم، لديه الجنسية الفرنسية “بطريقة ما” ويتاجر في الممنوعات لكسب لقمة العيش.

وقال قاصر سوداني، يبلغ من العمر 15 عاما، للجزيرة نت “وصلت قبل أسبوع إلى كاليه ولا أعرف ما ينتظرني هنا لكنني أريد الذهاب إلى بريطانيا بأي طريقة”.

وفي إحدى حافلات المدينة، يخبرنا مهاجر سوري أنه حاول منذ سنتين الالتحاق بزوجته وطفله في بريطانيا، وباءت كل محاولاته بالفشل. في حين يصيح آخر يجلس بجانبه في العشرين من عمره “لا يهمني أي شيء، سأفعل المستحيل للرحيل من هنا، حتى لو دفعت حياتي ثمنا. ففي كلا الحالتين، أنا ميت”.

ببطء وتعب، يتجولون في شوارع المدينة للحاق بصف طويل أمام إحدى الجمعيات التي توزع الطعام، أو لجلب الماء وشحن الهواتف على مقابس كهربائية متصلة بمولد تبعد 5 كيلومترات من المخيم. هكذا يبدو الروتين اليومي الذي يعيشه “المنفيون”، وهو مصطلح يفضلونه على “المهاجرين”.

وبحسب إحصائيات الهجرة التابعة للحكومة البريطانية، فإن 24 ألفا و497 شخصا دخلوا مراكز احتجاز المهاجرين في عام 2021، أي بزيادة 65% عن العام السابق، واحتجز 76% منهم لمدة 7 أيام أو أقل قبل الإفراج عنهم بكفالة، أو إعادة النظر في طلب لجوئهم.

ووصل عدد الذين تم رفض دخولهم البلاد في الميناء إلى 13 ألفا و640 مهاجرا، من بينهم 334 من العراق و383 من باكستان و331 من السودان.

مضايقات الشرطة

في كل يوم تقريبا، تغادر قافلة الشرطة للقيام بجولة لإخلاء وطرد المهاجرين من أماكن إقامتهم في إيقاع متواصل هدفه الوحيد المضايقة ومصادرة الخيام لثنيهم عن الاستقرار في مكان واحد.

وككل مرة، يحاول المهاجرون أخذ مقتنياتهم الخاصة وخيمهم حتى لا يستولي عليها أو يدمرها رجال الشرطة. ويستنكر أحد الموظفين في جمعية “سوكور كاثوليك” قائلا “مع كل إخلاء، تصادر أمتعتهم الشخصية وتسيج أماكن معيشتهم بانتظام لمنعهم من الوصول إليها، وهذا يجعل حياة المهاجرين صعبة بشكل متزايد”.

وشرح ناشط آخر للجزيرة نت “كل ما يحدث غير قانوني لكن الدولة تنجح دائما في التبرير ببراعة قانونية. فعلى سبيل المثال، يعتبر إيواء الناس بعد الإخلاء القسري غير قانوني إلا أن المسؤولين يبررون ذلك قائلين إننا لاحظنا جريمة واحتلالا لأرض خاصة فطلبنا من الناس المغادرة طواعية”.

ويلخص أحمد القادم من السودان والذي وصل إلى فرنسا عام 2016، ما يجري “نقضي أيامنا في البحث عن مكان للنوم والطعام وشحن هواتفنا للحديث مع أفراد العائلة. أفضل أخذ حقيبتي معي على تركها في الخيمة لأنني أخشى أن تُسرق أو تأخذها الشرطة في وقت الإخلاء”.

ويضيف أحمد الذي رفض التصوير خوفا من أن يعرف أقاربه حجم المعاناة التي يعيشها، “لا يوجد عمل هنا وأعيش على المساعدات القليلة.. أتحمل كل شيء لأنني لم أفقد الأمل في العبور إلى الضفة المقابلة حتى أتمكن من مساعدة أسرتي. ليس لي أحد هنا، لكن لي الله فقط”.

وقال آخر “لقد رأيت أحد رجال الشرطة يمزق بسكين غالون الماء الذي تضعه لنا الجمعيات. وقيل لنا إنه في إحدى المرات مشت سيارة شرطة على عدد من الخيم ليلا لكن لحسن الحظ لم يكن بداخلها أحد”.

وعند سؤال أحد أفراد الشرطة الذين رافقونا إلى خارج المخيم لمنع التصوير أو الحديث مع المهاجرين، أوضح باختصار “إننا نقوم بعملنا”، معتبرا أن الغرض من عمليات الشرطة هو الحد من تراكم النفايات بسرعة كبيرة، لأنه كلما زاد عدد الأشخاص في مكان واحد، زادت صعوبة تطبيق تدابير النظافة.

وقد تواصلت الجزيرة نت مع وزارة الداخلية الفرنسية وعمدة كاليه ناتاشا بوشارت ومحافظ المدينة للتعليق على الموضوع أو تقديم معلومات أوفر حول أزمة الهجرة في المدينة، لكنهم رفضوا تقديم أي تصريح.

مراقبة عمل الجمعيات

يمكن القول إن الضغط والتطويق الأمني لا يُمارسان على المهاجرين فقط، فالجمعيات أصبحت مستهدفة أيضا وتكتفي بإدانة “عمليات تفتيش الشرطة المنتظمة للسيارات والرخص وفرض غرامات مالية قد تصل إلى ألف يورو لأسباب سخيفة”، على حد تعبيرها.

ويشير أفراد من جمعية “يوتوبيا 56” إلى أنهم تعرضوا لغرامات مئات المرات بسبب “عدم الامتثال للإغلاق الحكومي” بسبب فيروس كورونا، على الرغم من تقديم أوراق تثبت سبب التنقل “لمساعدة الأشخاص المستضعفين والمعرضين للخطر”.

ويرى البعض أن المراقبة المستمرة وتعزيز عمليات التحقق من الهوية تتم بشكل أكبر في المناطق التي يشتبه في أنها أماكن يرتادها المهربون الذين يهربون المهاجرين في شاحنات صغيرة تشبه الشاحنات التي تستخدمها الجمعيات.

بالإضافة إلى ذلك، يحتج عمال النقابات بشكل دائم على “السياسة العامة” التي تهدف إلى منعهم من مقابلة المهاجرين أو مساعدتهم، خاصة بعد إصدار مرسوم حكومي في سبتمبر/أيلول 2020 يحظر “أي توزيع مجاني للمشروبات والمواد الغذائية في بعض قطاعات كاليه”. وعند تحديد نقطة توزيع جديدة، تقوم البلدية بوضع لافتة “ممنوع الوقوف” لتجبر الجمعية على تغيير المكان في اليوم التالي أو إقامة كومة من التراب والصخور لمنع الوصول إلى المخيم بشكل مباشر.

بدورها، تشير محافظة كاليه إلى أنها تكلف جمعية “لا فيه” بتقديم أكثر من 2500 وجبة في المتوسط يوميا، وهو ما يراه أحد أعضاء “سيكور كاثوليك” لا يتناسب مع مكان وجود المهاجرين الذين يضطرون إلى المشي ساعة على الأقدام للحصول على سندويش واحد. ويوضح أن “الخدمات التي تقدمها الجمعيات غير المفوضة من الحكومة تبقى ضرورية لأنها تصل إلى أماكن لا تبعد كثيرا عن المخيمات”.

مراكز رعاية بعيدة

تستقبل جمعية “سيكور كاثوليك” المهاجرين 3 أيام في الأسبوع في مركز رعاية، تبلغ مساحته 100 متر مربع وسط المدينة، للسماح لهم بالراحة والنوم في مكان دافئ خاصة في أيام العاصفة.

كما تقدم مراكزُ الاستقبال وفحص الحالة “سي إيه إي إس” (CAES) إقامة مؤقتة بشروط ومعايير خاصة ويستفيد كل مهاجر من 3 ليالٍ كحد أقصى من الرعاية من قبل إدارة استقبال الطوارئ (115).

وتقع هذه المراكز على بعد حوالي 100 كيلومتر من كاليه، وهو ما يجعل معظم المهاجرين يتخلون عنها لأنهم لا يريدون الابتعاد عن محيط قناة المانش، إذ يحاولون بانتظام تجربة حظهم عدة مرات في الأسبوع للعبور.

ويقول أحد النشطاء، الذين يعملون على مساعدة المهاجرين بالسر، للجزيرة نت إن “الشرطة ترسل حافلات كبيرة أمام المخيمات وتضع المهاجرين أمام خيارين: الصعود للحافلة أو الذهاب إلى مراكز الشرطة، ثم يرسلونهم إلى مدن في أقصى الجنوب، مثل مارسيليا ونيس، لإبعادهم قدر الإمكان، إلا أنهم يعودون إلى هنا مرة أخرى. الجميع مصمم على المغادرة، إنه آخر مهرب لهم حتى لو كلفهم حياتهم”.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply