منذ أسابيع، تتصدر النيجر، الدولة الأفريقية المهمشة التي لا يكاد أحد يعيرها انتباها في الظروف العادية، الأخبار العالمية. وسائل الإعلام بجميع اللغات نصبت خيامها ووجهت عدساتها نحو ما يدور في الساحل الأفريقي، حيث تفوح رائحة البارود، وتتردد أصداء الوعد والوعيد في المنطقة التي باتت قاب قوسين أو أدنى من الانفجار، على خلفية تطاحنات محلية تراقبها القوى العالمية ذات المصالح العابرة للحدود والقارات.

ورغم أنه لا أحد يمكن أن يتكهن على وجه الدقة بما سيحدث في المستقبل القريب أو البعيد، هناك حقيقة واحدة، هي أن ما يحدث في الوقت الحالي يأتي بحمولة تاريخية وسياسية سابقة، كتبت فصولا متراكمة حوَّلت الحزام الجغرافي الأفريقي إلى ما يشبه “حزاما جيوسياسيا ناسفا” يوشك على الانفجار في أي لحظة.

إطار عام لمنطقة منكوبة

تعتبر دول الساحل الإفريقي من أفقر دول العالم، لكنها تتمتع على النقيض من ذلك بثروات معدنية كالذهب واليورانيوم والفوسفات، بجانب الثروات النفطية المهمة، وهو أكسب المنطقة أهمية جيواقتصادية. (الجزيرة)

شكَّلت منطقة الساحل الشاسعة منطقة هامشية عاشت طويلا على حافة التاريخ، فلم تحظَ باهتمام دولي واسع، ولم تكن أكثر من مجرد معبر تقليدي لمرور القوافل التجارية وتجارة الملح والذهب والعبيد (1). اقترن اسم المنطقة بالأزمات المختلفة من جفاف إلى تصحر وعنف مسلح وجرائم اختطاف، فكان الساحل الذي يعني “حافة الصحراء”، على حافة المشكلات طيلة الوقت. جيوسياسيا، فصل الساحل الأفريقي بين فضائين مختلفين تماما، هما شمال أفريقيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، مشكِّلا بذلك منطقة شاسعة تمتد من شرق القارة إلى غربها، وهي منطقة أوسع من مسمى دول الساحل الأكثر تداولا اليوم الذي يحصر المنطقة في خمس دول هي مالي والنيجر وتشاد وموريتانيا وبوركينا فاسو.

تتميز المنطقة بطبيعة مناخية وجيولوجية قاسية للغاية، حيث يسود الجفاف والمجاعة والتصحر، وقبل ذلك وبعده الحرارة المرتفعة جدا، وهو ما ينعكس على الكثافة السكانية الضعيفة وغير المستقرة، وهو ما يعني ضعفا في القوة البشرية وعدم القدرة على السيطرة على هذه المناطق الشاسعة، وبالتالي يُعَدُّ الانتماء القبلي أكثر قوة وأوثق رباطا من الانتماء إلى الدولة المركزية الهشة (2)، علما أن هذا الانتماء القبلي نفسه يُضعِف بوضوح التجانس الاجتماعي في ظل كثرة الإثنيات والأعراق، وهو ما تسبب في عدة مواجهات في عدة دول من قبيل أزمة الطوارق في مالي والنيجر، والمواجهات العِرقية في موريتانيا، والقبلية في تشاد، والدينية الدامية في نيجيريا وأفريقيا الوسطى.

اقتصاديا، تُعَدُّ دول الساحل الأفريقي من أفقر دول العالم، لكنها تتمتع على النقيض من ذلك بثروات معدنية كالذهب واليورانيوم والفوسفات، بجانب الثروات النفطية المهمة، وهو ما أكسب المنطقة أهمية جيواقتصادية. أما سياسيا، فقد باتت البلاد مرتعا لأزمات معروفة تُكرِّر نفسها دون توقف، من انقلابات عسكرية إلى أزمات سياسية بسبب الفساد وضعف المؤسسات، ليكون بذلك الخيط الرابط بين الأنظمة السياسية وبين المجتمعات أَضعف من أن يقيم دولا حقيقية، كان المستعمر قد خطط لها في سابق العصر والأوان، دون احترام الخصوصيات العِرقية والإثنية للساحل الأفريقي، وإذا ذكرنا المستعمر، فنحن نتحدث طبعا عن: فرنسا.

أقدام بيضاء في أحذية سوداء

بشكل مترابط للغاية، يظهر اسم فرنسا في كل مرة يُذكر اسم القارة السمراء، وفي الساحل الأفريقي خصوصا، تملك باريس تاريخا طويلا حافلا، ضاربا في القدم، لم ينتهِ حتى الآن، أو لعله شارف على الانتهاء حسب ما تُظهِر الوقائع الأخيرة، إلا إذا استجد جديد.

ولفهم الحضور الفرنسي الحالي في منطقة الساحل يجب العودة إلى الوراء، لقراءة البدايات الأولى لحضور الجيش الفرنسي في غرب أفريقيا. وضعت باريس يدها رسميا على المنطقة عبر مرسوم عام 1895 (3) الذي أعلن أفريقيا الغربية منطقة “فرنسية”، وذلك من أجل تركيز السلطة في يد قوات الاحتلال الفرنسي. جمعت هذه الفيدرالية الاستعمارية العديد من الدول هي ساحل العاج وغينيا والسنغال والسودان، ثم بعد ذلك بسنوات انضمت إليها “مملكة داهومي” (بنين حاليا) والنيجر وموريتانيا.

وفي عام 1900، اعتمدت (4) فرنسا قانونا جديدا يخص تشكيل جيش كولونيالي وأجهزة عسكرية أخرى تساعد باريس على بسط سيرتها على المنطقة كاملة، وبعد هذا القانون بثماني سنوات، أي في عام 1908، أنشأت فرنسا ما يُسمى بـ”أفريقيا الاستوائية الفرنسية” التي جمعت الغابون والكونغو الوسطى و”أوبانغي” (أفريقيا الوسطي) وتشاد. وبعد خضوع كل هذه المناطق للمستعمر الفرنسي، أصدرت باريس بعد مرورها إلى الجمهورية الرابعة قرارا يعتبر جميع سكان أفريقيا الغربية الفرنسية مواطنين فرنسيين.

لم يدم ذلك الوضع طويلا، فبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الأوضاع في مستعمرات فرنسا الأفريقية تتحرك، خصوصا مع تبني ودعم الأمم المتحدة لحق الشعوب في تقرير المصير. وفي عام 1958، وعقب إعلان فرنسا عن جمهوريتها الخامسة، تمكَّنت جميع الدول التي كانت تُشكِّل منظمة “أفريقيا الغربية الفرنسية” من الحصول على استقلالها، وانضمت عام 1960 إلى منظمة الأمم المتحدة بوصفها دولا “حرة مستقلة”. طبعا لم تمر مراحل التحرر هذه بسهولة، فقد واجهت باريس التمردات في العديد من مستعمراتها، كما حدث في الكاميرون مثلا عندما سحقت فرنسا الحركة الوطنية التحريرية في الحرب التي دارت ما بين عامَيْ 1956-1964. (5)

“جاك فوكار”، الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للإليزيه للشؤون الإفريقية ما بين عامي 1960 و1974، وهو نفسه الذي وضع أسس استراتيجية فوق دبلوماسية من أجل الحفاظ على المصالح الفرنسية. (غيتي)

لم تكن فرنسا ساذجة لكي تُفرِّط بسهولة في كل ما ملكته يمينها سابقا من خيرات هذه المنطقة، خصوصا أن تعلُّقها بأفريقيا في الحقيقة لم يكن تعلُّقا اختياريا، بل إجباري لا مفر منه، لتجنب معاناة اقتصادها المحلي (6). سيتحرك الرئيس الفرنسي شارل ديغول مباشرة بعد قراره إخراج قوات بلاده من أفريقيا، عبر تكليف شخصية مهمة للغاية في تاريخ النفوذ الفرنسي في أفريقيا وهو “جاك فوكار”، الذي كان يشغل منصب السكرتير العام للإليزيه للشؤون الأفريقية ما بين عامَيْ 1960-1974، وهو الرجل نفسه الذي وضع أسسا إستراتيجية فوق دبلوماسية من أجل الحفاظ على المصالح الفرنسية في القارة السمراء عبر صناعة علاقات مباشرة مع الرؤساء الأفارقة وأجهزة الأمن المحلية بجانب الأقطاب الاقتصادية المهمة. (7)

حدد (8) فوكار إستراتيجية متكاملة تهدف إلى تحقيق هدفين رئيسيين لبلاده في القارة السمراء، وتحديدا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا: أولهما هو اقتحام المنطقة بطريقة عميقة لا تتأثر بالنزعات التحررية لدى الدول الأفريقية، مع الحفاظ على علاقات استثنائية مع قادة هذه الدول على جميع المستويات من أجل استمرار حصد المكاسب الاقتصادية، وثانيهما إبقاء فرنسا على مكانتها بوصفها أول وأقرب اختيار خارجي لهذه الدول في حالة حدوث أي مستجدات أمنية، لذلك وقَّعت باريس العديد من الاتفاقيات العسكرية مع هذه الدول، بجانب وجود القواعد العسكرية الفرنسية في عدد من عواصم دول الساحل.

شكَّل التدخل العسكري أحد أهم أشكال حضور فرنسا في مستعمراتها السابقة، وذلك منذ عهد الجنرال “ديغول” الذي منح عددا من الأنظمة الأفريقية -الديكتاتورية غالبا- لقب “الأنظمة الصديقة” باسم المصالح الإستراتيجية. ورقميا، عرفت (9) منطقة الساحل نحو 40 تدخلا عسكريا فرنسيا منذ 1960، آخرهما عمليتا “سرفال” (مالي – يناير/كانون الثاني 2013) و”برخان” (عملية مكافحة التمرد الفرنسية في الساحل – أغسطس/آب 2014).

خلال هذه العمليات، لم يكن الترحيب هو رد الفعل الذي قوبلت به باريس، فقد طالبت بعض الدول، وعلى فترات متفرقة، فرنسا بسحب قواتها التي تنشرها بين الفترة والأخرى في دول المنطقة، بعدما ظهر جليا أن تدخلات فرنسا لم تكن سوى امتداد فعلي للحقبة الاستعمارية. فرغم اختلاف الأزمنة والأنظمة والسياقات، فإن فرنسا تابعت إستراتيجية عسكرية بحتة في التعامل مع المشكلات الموجودة في الساحل الأفريقي، كما زاد الإيمان بقيمة هذه الإستراتيجية العنيفة بعد “تمرد” الجماعات الإسلامية المسلحة الذي وضعته باريس أمام عينيها وجعلت من محاربته أولى أولوياتها الخارجية حتى زمان قريب.

فليسقط الجهاد “الفرنكفوني”

قوات فرنسية أثناء وجودها في وقت سابق في مالي. (رويترز)

ظهرت العديد من الأسئلة حول مدى القدرة الفرنسية على التدخل بفعالية في منطقة الساحل بداية من إعلان نيكولا ساركوزي، الرئيس الفرنسي الأسبق، عن رغبته في التدخل ضد الرئيس الليبي السابق معمر القذافي عام 2011 بعد قمعه العنيف للمتظاهرين إبان الربيع العربي، ثم بعد ذلك بعد إعلان خلفه فرانسوا هولاند تدخله في مالي عام 2013 لدعم الدولة ضد المسلحين الإسلاميين.

كان التحرك الفرنسي في مالي هو أكبر حشد عسكري خارجي لباريس منذ حرب تحرير الجزائر، لذا فإنه سرعان ما أظهر التناقضات التي انطوت عليها إستراتيجية فرنسا. فمن جهة، كان الإليزيه يؤكد (10) ضرورة التدخل في منطقة الساحل من أجل الحد من “الخطر الإرهابي” المتمثل في فروع تنظيمَيْ القاعدة والدولة الإسلامية حتى لا تستفحل هذه التنظيمات في المنطقة ومن ثم في مناطق أوسع تجعل من محاربتها لاحقا مهمة مستحيلة، لكن من جهة أخرى، لم تضع الإستراتيجية الفرنسية الجزء الشرقي من منطقة الساحل في قلب تحركاتها، فاقتصرت بوضوح على المناطق الفرنكفونية التي كانت تابعة لما يُسمى بالمربع الفرنسي بأفريقيا. لذلك نجد اختلافا واضحا في التعريف الجغرافي لمنطقة الساحل الأفريقي بين الفرنسيين وبين البريطانيين والأميركيين الذين ينظرون إلى الساحل على أنه المنطقة التي تمتد من الرأس الأخضر غربا إلى القرن الأفريقي شرقا.

بجانب هذا التناقض، كانت الرواية الفرنسية الرسمية للتدخل في مالي تحمل في طياتها الكثير من الضبابية التي تفرض طرح بعض الأسئلة. بدأت القصة بعدما توغل المسلحون الإسلاميون في الشمال المالي وأعلنوا اختطاف عدد من المواطنين الغربيين، لتستغل فرنسا هذه الأحداث من أجل تبرير رغبات تدخلها عسكريا في مالي، والتأكيد أن محاربة هؤلاء المسلحين باتت ضرورة لوضع حدٍّ لهذا “الفكر المتطرف” الذي يهدد الحليف الأفريقي بداية، وقد يهدد أوروبا بعد ذلك، لكن في الحقيقة، لم تكن فرنسا قد تعرضت حينها لأي هجمات تستهدفها مباشرة، بل ستأتي الهجمات بعد ذلك، وجزء من هذه الهجمات ستبررها الجهات المسؤولة -للمفارقة- بكونها ردة فعل على تدخل القوات الفرنسية في عدد من مناطق النزاع. (11)

في سياق متصل، حاولت فرنسا الترويج لضرورة المواجهة الفكرية للتطرف الذي أصبح يجند الشباب الأفريقي في صفوف التنظيمات المسلحة، لكن الدراسات المتوفرة في هذا النطاق تقدم نتائج مختلفة تماما عن ادعاءات باريس (12)، إذ تقول إن عددا قليلا من المجندين تلقوا هذا الفكر عن طريق الدعوة الفكرية، في حين أن معظمهم انضموا إلى هذه التنظيمات لأسباب تتعلق بحماية العائلة ومساعدة المجتمع المصغر الذي ينتمون إليه اقتصاديا، كما أن مقاتلين آخرين نشطوا خلال قتالهم في تجارة المخدرات والتهريب، فلم يكن حملهم للسلاح دفاعا عن عقيدة أو إيمان بل كان للدفاع عن مصالحهم المهددة.

في نيجيريا، تظهر بعض الاستطلاعات أن ما بين 0 و25 بالمائة من القاصرين الذي انضموا للجماعات الجهادية انضموا لأسباب دينية. (رويترز)

تقدم “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد” المعروفة إعلاميا بجماعة “بوكو حرام” (13)، الدليل الأبرز على هذه الديناميات. فخلال استجواب 168 من أعضائها من الذين اعتُقلوا في النيجر عام 2017، تبين أن غالبية هؤلاء المقاتلين انضموا إلى الجماعة بعد أن جُنِّدوا من طرف متمردين أو بسبب هروبهم من القمع الذي يمارسه الجيش المحلي أو بسبب الاحتجاج على فساد الحكومة. وفي نيجيريا، تُظهِر بعض الاستطلاعات أن ما بين 0-25% فقط من القاصرين الذين انضموا إلى الجماعات الجهادية انضموا لأسباب دينية، ما يعني أن التجنيد كانت قائما بالأساس على الاستفادة من المشكلات الاقتصادية والسياسية والفساد الأمني والضغوط الكبيرة التي كانت يعاني منها هؤلاء الشباب وأهاليهم.

على كل حال، رأت فرنسا أن الحل من أجل نشر الأمان في الساحل سيكون هو استهداف المسلحين الإسلاميين مباشرة، وهو ما أقدمت عليه بالفعل عبر إستراتيجية قطع الرؤوس التي دشَّنها الإيليزيه وأبانت عن بعض النجاعة بعد إسقاط كلٍّ من عبد الحميد أبو زايد مسؤول كتيبة طارق بن زياد عام 2013، بجانب هارون سعيد القيادي في “جماعة أنصار الدين” عام 2014، ومحمد ولد نويني القيادي في جماعة “المرابطون” عام 2015، ثم واصل الجيش الفرنسي عمليات الإطاحة بقادة الجماعات المسلحة حتى سبتمبر/أيلول 2021، حينما تمكنت باريس من الوصول إلى عدنان أبو وليد، زعيم تنظيم الدولة في الصحراء الكبرى. (14)

لكن رغم الإطاحة بالعديد من قيادات المسلحين في الغرب الأفريقي، لم تفلح باريس في المقابل في تحقيق هدفها الأهم المتمثل في القضاء على العنف وإعادة الأمن إلى هذه المناطق المنكوبة، وهو ما جعل بعض الدول تسعى للدخول في مفاوضات مع هؤلاء المسلحين بعد فقدان الأمل في القضاء عليهم، فيما توجهت أصابع الاتهام لفرنسا بالضلوع في هذا الفشل، سواء عبر نظرية المؤامرة التي تتهم باريس بمساعدة الجماعات المسلحة على الانتشار، أو عن طريق اتهام القوات الفرنسية بالعجز في مواجهة هذه الجماعات.

الفشل سياسي أيضا

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس مالي إبراهيم بوبكر كيتا يزوران القوات الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي في جاو ، شمال مالي ، 19 مايو 2017.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون و الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا يزوران القوات الفرنسية في منطقة الساحل الأفريقي في جاو، شمال مالي، 19 مايو 2017. (رويترز)

هناك مشهدان أساسيان لشرح السياسة الفرنسية في غرب أفريقيا وتحديدا في مالي، المشهد الأول هو مشهد وصول الرئيس السابق فرانسوا هولاند إلى مالي مباشرة بعد إعلان تدخل فرنسا عسكريا في البلاد، محاطا بالحشود الموعودة بحل مشكلات البلاد وبث الأمن، لكن الفشل كان ذريعا، وفي 19 مايو/أيار 2017، اختار إيمانويل ماكرون في أول زيارة له خارج أوروبا مالي -وهنا المشهد الثاني- لتجديد الالتزام العسكري لبلاده بمحاربة الإرهاب، حيث توجه الرئيس الفرنسي بالحديث خلال هذه الزيارة لجنوده المنتشرين في قاعدة “غاو” والمشاركين في عملية برخان، مؤكدا أهمية عملهم في تحقيق الأمن في البلاد.

تبدو هذه الزيارة كأنها زيارة رئيس بلد “صديق” لمالي للبلاد لمواصلة العمل معا على مواجهة التحديات التي تواجه الصديقين، لكن في الحقيقة ليس الوضع هكذا، فلم يكن الرئيس المالي إبراهيم أبو بكر كيتا على علم بسير هذه الزيارة ولا بتنظيمها، فقد تكفَّل ماكرون شخصيا بكل هذه الأمور، قبل أن يجتمع بالرئيس المالي للاتفاق على مجموعة نقاط حول طريقة العمل، لكن هذا الاجتماع كان أقرب إلى توجيه الأوامر منه إلى صيغة المشاورة، لذلك حينما انتهى ماكرون من إملاءاته أجابه إبراهيم أبوبكر كيتا: “إن شاء الله”، فأجابه ماكرون: “لا تقل لي إن شاء الله”. (15)

لسوء حظ فرنسا لم تكن مشيئة الله على ما يشتهيه إيمانويل ماكرون، فجاء الانقلاب العسكري في مالي في 18 أغسطس/آب 2020، وعلى أجندة قادته أمران لا ثالث لهما: تحسين الوضعية الاقتصادية والسياسية لمالي، ثم طرد القوات الفرنسية من البلاد. انسحبت فرنسا التي أصبحت ترى راياتها لا تقترن إلا بالاحتجاج في شوارع باماكو، فكان الوداع حتى حين على أن تظل القوات غير بعيد عن مالي، في بوركينا فاسو والنيجر مثلا، لكن جرت الرياح مرة أخرى بما لم تشتهِ سفن باريس، فعاشت بوركينا فاسو سيناريو مالي نفسه بانقلابين عسكريين قادا البلاد إلى الخضوع لعسكري شاب طموح يدعى إبراهيم تراوري، الذي عيّنه المجلس العسكري حاكما للبلاد ثم رئيسا في انتظار انتقال البلاد إلى حكم مدني موعود. اجتمعت مالي وبوركينا فاسو في الماضي والحاضر، فالبلدان كانا صديقين لفرنسا في أول الأمر، فيما انقلب الود عداء بعد الانقلابات العسكرية، لتحضر الرايات الروسية بدل الفرنسية.

وكما هو معلوم، لن تقف سلسلة الانقلابات عند هذا الحد، بل سينضم إلى الثنائي بلد جار هو النيجر في سيناريو مفصل زعزع الداخل الفرنسي هذه المرة، على اعتبار أن البلاد التي بدأت تعلن عداءها لباريس هي نفسها التي تزودها باليورانيوم الذي يضيء مصابيح 75% من بيوتها. وبعد الانقلاب العسكري في النيجر، وجدت فرنسا نفسها في مأزق غير مريح، رغم أنها حسب مقال لصحيفة “ميديا بارت” (16) ساهمت مباشرة في سقوط حليفها محمد بازوم، وذلك بعد أن ركزت على التسويق لحربها على “الإرهاب”، وهو ما لم يخدم الرجل الذي كان يعمل في محيط مُعادٍ لفرنسا وتطلعاتها.

تقول “ميديا بارت” إن عددا من الدبلوماسيين الفرنسيين والمسؤولين في مراكز قيادية مختلفة دعوا طويلا ماكرون إلى إغلاق القواعد العسكرية الفرنسية في أفريقيا بسبب تصاعد مشاعر الكراهية تجاه باريس، لكن هذه المطالب لم تلقَ آذانا مصغية من ساكن الإيليزيه (17) الذي لم يقرر فقط الحفاظ على القواعد العسكرية التاريخية الفرنسية في داكار وأبيدجان وليبروفيل وجيبوتي، لكنه قرر توطين 1500 جندي فرنسي في النيجر، و1000 جندي فرنسي في تشاد لمواصلة الحرب على المجموعات الإسلامية المسلحة في إطار ضبابي تماما. وبعد الانقلاب في النيجر، تبدو وضعية فرنسا صعبة للغاية، خصوصا أن مشاعر العداء لباريس باتت سلاحا إستراتيجيا وشعبيا للانقلابيين الذين فهموا أن إعلان هذا العداء كفيل بجعل الناس يتجنَّدون وراء أسلحتهم.

تتمنى فرنسا أن يسقط الانقلاب في النيجر لإعادة الرئيس المعزول إلى منصبه، لكن طريقة هذه الخطوة لا تبدو واضحة، خصوصا أن الأوراق الدبلوماسية لم تؤتِ أُكلها بعد، فيما يبدو الخيار العسكري الذي تلوح به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” صعب التطبيق لأنه قد يرمي بالمنطقة الهشة بكاملها إلى “المجهول”.

__________________________________

المصادر:

  1. دراسة: التنافس الفرنسي الأمريكي حول منطقة الساحل الأفريقي
  2. القبيلة والدولة في إفريقيا
  3. Historique de la France au Sahel : des enjeux stratégiques
  4. المصدر السابق
  5. The Ongoing Relationship Between France and its Former African Colonies
  6. How much money does France make in French-speaking Africa?
  7. Historique de la France au Sahel : des enjeux stratégiques
  8. المصدر السابق
  9. The French policy in the Sahel: A military obsession
  10. المصدر السابق
  11. المصدر السابق
  12. The French policy in the Sahel: A military obsession
  13. المصدر السابق
  14. المصدر السابق
  15. Guerre au Sahel : pourquoi la France a-t-elle retiré ses troupes du Mali ?
  16. Aveugle, sourde aux critiques et inaudible : les trois handicaps de la France au Niger
  17. المصدر السابق

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply