لا عفو بلا حقيقة، لجنة الحقيقة، تقرير لجنة الحقيقة، اعترافات مرتكبي جرائم الإخفاء القسري، كل هذه الجمل والعناوين تردَّدت على مسامعي خلال سنوات العيش في كولومبيا. تتوالى أخبار تطورات إنجازات لجان الحقيقة، والبحث عن مصائر المفقودين، ومحاكمات المسؤولين، وعمليات جبر الضحايا، وإعادة توزيع الأراضي، وردِّ المسلوب منها إلى أصحابها. كل ذلك يحدث في الوقت ذاته الذي لا يزال فيه ضحايا الإخفاء والقتل والمحاكمات السياسية يزدادون على الجانب الآخر من العالم، ذلك الجانب الذي أنتمي إليه. لا أفكر فقط متى سيأتي زمن يُبحث فيه عن حقيقة ما جرى، بل متى سيتوقف ما يجري عن الحدوث أولا، متى يضع التاريخ نهاية لهذا الثقب الأسود الذي يختفي فيه الناس بين عشيَّة وضحاها ولا يرون النور مرَّة أخرى.

لا عفو بلا حقيقة، لكن لا يمكن البحث عن الحقيقة قبل أن تنتهي المأساة. بعد توقيع اتفاقية السلام عام 2016 بين الحكومة الكولومبية والقوات المسلحة الثورية الكولومبية (فارك)[1]، أُنشئ نظام مكوَّن من جهات ثلاث يسمَّى نظام السلام الشامل، وهو نظام للعدالة الانتقالية يهدف إلى منح الضحايا حقّهم في معرفة الحقيقة، ومحاسبة المسؤولين عمَّا حدث، وضمان الأمان القانوني للمشاركين في النظام، والمشاركة في عملية التعايش، والصُّلح، وعدم تكرار النزاع. ويشمل هذا النظام: لجنة الحقيقة، ووحدة البحث عن المفقودين والمختفين قسريا، ومحكمة السلام الخاصة.

لجنة الحقيقة والتعايش.. وعدم التكرار

تهدف لجنة الحقيقة الكولومبية كشف الحجاب عن تفاصيل سنوات العنف والنزاع المسلَّح الطويلة التي استمرَّت بين عامي 1958-2016، وإيضاح جوانب النزاع الأقل ذِكرا. (الأناضول)

أولا، ما فكرة لجان الحقيقة؟ في كتاب أصدرته لجنة الحقيقة الكولومبية دليلا للصحفيين لتناول عمل اللجنة وتراثها، تُعرَّف لجان الحقيقة بأنها هيئات تُنشأ في فترات انتقالية لإيضاح وقائع وسياقات الاعتداءات على حقوق الإنسان والحق الإنساني الدولي أثناء فترات الديكتاتوريات أو النزاعات المسلحة. وقد أُنشئت لجان للحقيقة في كل القارات وفي أكثر من ثلاثين دولة.[2] أما لجنة الحقيقة الكولومبية التي سُمِّيَت “لجنة إيضاح الحقيقة والتعايش وعدم التكرار”، وكانت مدة عملها خمس سنوات من عام 2017 حتى عام 2022، فتتمثَّل مهمَّتها كما أوضحت على موقعها الرسمي: “في إيضاح أنماط وأسباب النزاع المسلح الداخلي في كولومبيا بشكل يُرضي حق الضحايا والمجتمع في الحقيقة، ويعزِّز الاعتراف بما حدث، والتعايش في الأراضي، ويساهم في وضع أسس عدم التكرار من خلال عملية مشاركة واسعة ومتنوعة لبناء سلام مستقر ودائم”.[3]

كانت أهداف اللجنة واضحة من البداية، وعلى رأسها كشف الحجاب عن تفاصيل سنوات العنف والنزاع المسلَّح الطويلة التي استمرَّت بين عامي 1958-2016، وإيضاح جوانب النزاع الأقل ذِكرا مثل ممارسات العنف ضد الأطفال والمجتمعات المُستَضعفة، وكل ذلك لتحقيق العدالة وجبر الضحايا وضمان عدم تكرار الجرائم بحقهم. وقد تلقَّت اللجنة شهادات من كل أفراد المجتمع الذين شاركوا في فترة العنف أو الذين تعرَّضوا له، لكي يكون تقريرها النهائي شاملا، ويخرج بتوصيات تأخذ في الاعتبار كل أطراف النزاع. وبعد أربع سنوات من العمل، تركت لجنة الحقيقة إرثا يتمثَّل في التقرير النهائي المنشور في أحد عشر مُجلَّدا، واحتُفي بنشره في أجزاء مختلفة من الأراضي الكولومبية أواخر العام الماضي. وبعض المجلدات متاحة بثلاث لغات: الإسبانية والإنجليزية والفرنسية، وبعض اللغات المحلية التي يتحدثها قبائل السكان الأصليين في كولومبيا، التي روعي إدماجها في عملية إرساء السلام.

تسلط هذه المجلدات الضوء على إنجازات وتوصيات اللجنة، التي اجتمعت بأكثر من ثلاثين ألف ضحيَّة من ضحايا العنف المسلَّح، وجمعت شهادات منفيين كولومبيين في أكثر من 24 بلدا. وهي تضمُّ مجلدا كبيرا عنوانه “لن تقتل”، ويضمُّ سرديّة تاريخية للنزاع المسلح منذ عقود ما قبل نشوبه حتى توقيع اتفاقية السلام، ومجلدا يتناول آثار النزاع خارج حدود المدن الكبرى، ومجلدا من ألف صفحة بعنوان “حتى الحرب لها حدود” يسرد انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي أثناء عقود النزاع المسلح، ويضمُّ سرديات وروايات عن المذابح وعمليات القتل والإخفاء والخطف والاعتقالات التعسُّفية والتعذيب والاعتداءات الجنسية والتجنيد القسري للأطفال والتهجير وغيرها، مع تحليل أسباب وطرائق ومناهج كل ذلك بهدف معرفة الفاعلين والضحايا والمسؤوليات الجمعية والفردية لهذه الجرائم.

هناك جزء آخر عنوانه “جسدي”، ويتناول شهادات عن الاعتداءات الجنسية التي تعرضت لها النساء، وجمع شهادات أكثر من عشرة آلاف امرأة، مع أجزاء أخرى عن آثار النزاع ونتائجه على المجتمع عموما، وعلى الجماعات العِرقية خصوصا، وكذلك على القُصَّر. وقد خُصِّص جزء كامل للشهادات الشفهية، وجزء آخر بعنوان “كولومبيا خارج كولومبيا” عن المنفيين بسبب النزاع. كل تلك الكتب متاحة على موقع لجنة الحقيقة، بالإضافة إلى الأرشيف الضخم الذي يضم مواد مرئية ومسموعة تعالج شتى جوانب تلك المرحلة وما يليها. كما أطلقت لجنة الحقيقة مشروعا عام 2021 بعنوان “مستقبل في الطريق”، ودعت مجموعة من الكُتَّاب الكولومبيين للمشاركة في كتابة 13 كُتيِّبا عن مفاهيم لها علاقة بعملية بناء السلام، وفي كل كتاب ثلاثة نصوص، وهي كتب صغيرة الحجم متاحة على موقع اللجنة، ووُزعت نسخ كثيرة منها على المكتبات. [4]

 

الهيئة الثانية هي وحدة البحث عن المفقودين، وهي هيئة حكومية كولومبية ذات طبيعة إنسانية وغير قضائية تدير عملية البحث عن الأشخاص المُختفين بسبب النزاع المسلّح، أحياء كانوا أو أمواتا (وتسليم جثثهم إلى أهاليهم في الحالة الأخيرة). ويشمل عملها أهالي الضحايا لمعالجة معاناتهم أثناء فترات اختفاء ذويهم، ويستمر عملها عشرين عاما قابلة للتجديد. وللوحدة موقع إلكتروني وفروع في مختلف أقاليم كولومبيا، وعلى الموقع مُحرِّك بحث باسم “عالم المُختفين” فيه إحصاء لنحو 100 ألف مختفٍ وبياناتهم بمكان وزمان الاختفاء، ولا يزال عمل الوحدة قائما حتى الآن بعد مرور أول خمس سنوات من إنشائها. والهيئة الثالثة هي محكمة السلام الخاصة، وهي الهيئة المسؤولة عن إدارة العدالة الانتقالية والتعرُّف على الجرائم المرتكبة في سياق النزاع المسلح قبل 1 ديسمبر/كانون الأول 2016. ويستمر عمل المحكمة عشرين عاما بعد توقيع الاتفاقية. وإلى جانب هذه الهيئات، هناك مركز الذاكرة الوطنية المسؤول عن بناء متحف لتوثيق تلك الوقائع.

لبنان في مرآة كولومبيا

كل هذه الجهود والمنظمات والهيئات جعلت من كولومبيا اختيارا لزيارة وفد لبناني مكوَّن من أعضاء الهيئة الوطنية للمفقودين والمختفين قسرا، التي أُنشئت بقانون صدر عام 2018 وعُيِّن أعضاؤها العشرة عام 2020. وشُكِّلت هذه الهيئة للبحث عن مصائر المختفين والمفقودين أثناء فترة الحرب الأهلية اللبنانية بين عامي 1975-1990، ثم في فترة وجود القوات السورية في الأراضي اللبنانية بين عامي 1990-2005.

منذ البداية يبدو أن تاريخ لبنان السياسي يشترك مع التاريخ الكولومبي في كون أصول النزاع مرتبطة ببدايات التحرر من الاستعمار. يرتبط تأريخ بداية الحرب الأهلية بحادث إطلاق نار على حرس الزعيم السياسي الماروني “بيَّار الجميِّل” في 13 إبريل/نيسان 1975، ثم تعرُّض أفراد من حزب الكتائب الذي تزعَّمه الجميِّل نفسه لحافلة كانت تحمل أعضاء من منظمة التحرير الفلسطينية وقتل 27 فردا منها، ما أشعل الحرب الأهلية التي تعددت أطرافها وتغيَّرت خارطتها على مدار سنواتها الخمسة عشر. بيد أن أصول النزاع اللبناني قد ترجع إلى ما قبل ذلك.

يتسم تاريخ لبنان منذ الحكم العثماني وأثناء فترة الانتداب الفرنسي بالانقسام الداخلي الطائفي والطبقي والاستقطاب في التوجُّهات بين هويتَيْن مختلفتين مثلها مثل ثنائية المحافظين والليبراليين في كولومبيا منذ تحررها من الاستعمار الإسباني. فهناك لبنان ذو الاتجاه الشرقي، ولبنان ذو الاتجاه الغربي. وقد بدأت الحرب الأهلية الأخيرة بنزاع الجبهة اللبنانية من جهة (الأقرب للاتجاه الغربي)، والحركة الوطنية اللبنانية بالتحالف مع منظمة التحرير الفلسطينية من جهة أخرى (الأقرب للاتجاه الشرقي). ولم يمر الكثير حتى تداخلت أطراف كثيرة في الحرب من فصائل وميليشيات ودول وجيوش مثل جيش الاستعمار، وحزب الله، وسوريا التي كان لها حضور كبير في الحرب الأهلية اللبنانية وما بعدها حتى عام 2005، وقوات دولية مثل قوة الأمم المتحدة المؤقتة وقوات الردع العربية.

بدأت نهاية الحرب الأهلية بتوقيع اتفاق الطائف في أغسطس/آب 1989، التي شملت بعض المبادئ العامة المتعلقة بهوية لبنان وطبائع أنظمته الاقتصادية والسياسية، وبعض الإصلاحات التشريعية والسياسية، ومواد لإلغاء الطائفية السياسية، وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. وبالفعل انتهت الحرب عام 1990 باقتحام معاقل “ميشال عون” رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية آنذاك، ولجوئه إلى السفارة الفرنسية ثم سفره إلى فرنسا لاجئا سياسيا بعد ذلك، وكان في الحكم الرئيس “إلياس الهواري” الذي انتُخِب عام 1989، ورفض عون الاعتراف بسلطته.

في 26 أغسطس/آب 1991 صدر في لبنان القانون رقم 91/84، وهو قانون العفو العام عن كل الجرائم المرتكبة أثناء فترة الحرب الأهلية حتى تاريخ 23 مارس/آذار 1991. وصدر القانون دون لجنة لبحث الحقيقة، ودون هيئة للبحث عن مفقودي الحرب والمختفين أثناءها. ومرَّت سبعة وعشرون عاما حتى أُسِّست الهيئة الوطنية اللبنانية للمفقودين والمختفين قسريا بناء على قانون 105 لعام 2018، ثم وافق مجلس الوزراء على القانون عام 2020، وعُيِّن أعضاء الهيئة من قاضييْن في منصب الشرف، ومحاميَّيْن من نقابتي المحامين في بيروت وطرابلس، وأستاذيْن جامعيَّيْن، وطبيب شرعي، وناشطيْن في حقوق الإنسان، واثنتيْن من الناشطات في الجمعيات الممثلة لذوي المفقودين.

وصل الوفد اللبناني إلى العاصمة الكولومبية بوغوتا في أوائل سبتمبر/أيلول 2022، وتكوَّن من أعضاء بالهيئة الوطنية للبحث عن المفقودين والمختفين قسريا، ومن الصليب الأحمر اللبناني، وممثلين عن أهالي الضحايا. وضمَّ جدول الزيارة الطب الجنائي الكولومبي لحضور محاضرات من أطباء شرعيين متخصصين يُطلعون أعضاء الوفد اللبناني على جهودهم في تقنيات البحث وجمع عيِّنات الحمض النووي من أهالي المفقودين، وإنشاء بنوك معلوماتية بالبيانات، وربط بيانات الجثث التي يُعثر عليها ببنك المعلومات. وكذلك شملت الزيارة الالتقاء بالعاملين في مركز رعاية وجبر الضحايا، ووحدة البحث عن المفقودين الكولومبية السابق ذكرها، ومركز الذاكرة التاريخية.

 

البحث عن المفقودين

خلال زيارة وحدة البحث عن المفقودين، شرح العاملون بالوحدة إنجازات عملهم وبعض المشاريع التي نشأت أثناء سنوات العمل السابقة، ومنها مشروع تحفيز التعرُّف على الجثث، الذي كانت إحدى نتائجه مشاركة على موقع الوحدة الرسمي لحالة فتاة كولومبية غُيِّر اسمُها في التقرير إلى “باولا”، بناء على رغبة أهلها. وكان بعض جنود جماعة الفارك المسلحة قد جنَّدوها قسريا أثناء النزاع وهي بنت 17 عاما من مزرعة أهلها في قرية “ليبرتاد” بإقليم “بويَّاكا”. وكانت المرة الأخيرة التي رآها فيها أبواها في عام 2001، ثم اختفت بعد ذلك ولم يُعلم عنها شيء حتى مات أبواها في عامي 2005 و2006. وتقول أخت باولا في الشهادة المنشورة على موقع الوحدة: “لقد مات أبواي رغبة في معرفة مصيرها، فلم تتحمل قلوبهما أكثر من أعوام قليلة”.

بعد وفاة باولا بواحد وعشرين عاما، وبعد أن كانت النيابة العامة قد أغلقت ملف البحث لعدم كفاية التحليل الوراثي للعينات البيولوجية لإخوتها عام 2015، نجحت وحدة البحث بفضل مشروع دعم التحقُّق بمراجعة بيانات عمليتَيْ تشريح أُقيمتا عام 2003 (العام الذي ماتت فيه باولا) وعام 2010 حين نُقلت جثّتها إلى مدينة بوغوتا، لأن المقبرة القديمة تحوَّلت إلى حديقة عامة. وبتحليل البيانات التي كانت لدى الطب الشرعي والنيابة العامة، إضافة إلى البيانات الإضافية التي طلبتها وحدة البحث من عائلة الضحيَّة، تأكدت الوحدة من مطابقة الجسد للبيانات، وأُقيم “التسليم الكريم” لجسدها في القرية التي وُلِدت وعاشت فيها باولا، ودُفنت إلى جوار أبويها بحضور مديرة وحدة البحث وأفراد عائلتها.

كل هذه السنوات من البحث لأجل التسليم الكريم لجثث ضحايا الإخفاء القسري بدت هيّنة أثناء زيارة أعضاء الوفد لمبنى النيابة العامة، وبين أعضاء الوفد كانت إحدى ذوي الضحايا المختفين من الحرب اللبنانية. وحين دخلنا إلى غرفة تحليل رفات الضحايا، وركَّز الجميعُ بصره على العاملين من وراء الحوائط الزجاجية لمراقبة عملهم، بدأت في البكاء فجأة ثم ابتعدت عن المجموعة غير قادرة على مواجهة المشهد.

(غيتي)

وقد صرَّحت أستاذة العدالة الانتقالية بجامعة الروح القدس “كارمن أبو جودة” في حديث مع “ميدان” بأن الفترة السابقة على زيارة الوفد لكولومبيا كانت فترة تأسيسيَّة لوضع الأنظمة الإدارية والمالية والنظام الداخلي لعمل الهيئة، وكذلك وضع إستراتيجية لعمل الهيئة في السنوات القادمة. ثم بدأت محاولات للتواصل مع الرأي العام بعد العودة من الزيارة الكولومبية من خلال مؤتمر صحفي لإطلاع عائلات الضحايا على عمل الهيئة، لكن الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة تُبطئ من عملها. ووضَّحت أبو جودة بأن أول خطوة قد تكون بناء قاعدة بيانات تخص المفقودين والمخفيين قسرا بالتعاون مع منظمات محلية ودولية، والمؤسسات التي تمتلك معلومات عن المفقودين.

وأضافت كذلك أن البحث يشمل المفقودين أثناء فترة الحرب الأهلية 1975-1990، وكذلك فترة الوصاية السورية بين عامي 1990-2005. وذكرت أبو جودة أن بين عامي 2000-2005 شُكِّلت ثلاث لجان لم تكن إجاباتها مُرْضية في هذا الملف، لذلك ظل الأهالي يطالبون بتشكيل هيئة، ولم يتحقق ذلك إلا بقانون 105 لعام 2018. كما أوضحت أن مهمة الهيئة هي البحث عن مثاوي جثث المفقودين أثناء الحرب في الأراضي اللبنانية، وكذلك بحث مصائر المخفيين قسريا بعد الحرب، الذين يُشكّ في قبوع كثيرين منهم في السجون السورية، ولكي يتحقَّق ذلك فلا بد من الحوار مع الأحزاب المختلفة لإقناعها بالتعاون في عملية البحث.

دروس للبنان

فيما يخصُّ الزيارة إلى كولومبيا، أشارت أستاذة العدالة الانتقالية إلى أنها كانت في غاية الإفادة، حيث اطلع الوفد اللبناني على تجربة شديدة التعقيد والطول إبان نزاع كولومبيا المسلح، ولكن تلتها إرادة سياسية لتشكيل هيئات ونظام كامل للعدالة الانتقالية والسلام الشامل. وتُكرِّر أبو جودة في لقاءات ومحاضرات تُلقيها عن قضية فقدان الذاكرة أن التاريخ إذا لم يُكتب فلن يكون بالإمكان بناء وطن متعافٍ للوصول إلى سلام إيجابي وحقيقي.

يبقى هناك سؤال يفرض نفسه إذ نقارن بين الحالتين الكولومبية واللبنانية، وهُما مثالان لحالات أخرى كثيرة قد تخطر على أذهاننا، منها ما يتعرَّض له الفيلم الأرجنتيني الأخير “أرجنتينا 1985″، الذي يروي محاكمة أعضاء المجالس العسكرية المسؤولة عن آلاف حالات الإخفاء القسري والتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان أثناء الديكتاتورية الأرجنتينية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. لقد أُجريت هذه المحاكمة كذلك بعد إنشاء الهيئة الوطنية المسؤولة عن البحث في إخفاء المواطنين عام 1983، وكانت مهمتها البحث والتحقيق في حالات انتهاك حقوق الإنسان في الأرجنتين، وخاصة عمليات الإخفاء التي جرت في الحقبة الديكتاتورية.

ليس السؤال هل نحن راغبون في البحث عن المفقودين وتحديد مصائرهم، ولكن هل نحن جادون في ذلك حقا، لأن هذا البحث لا يمكن أن يكون بحثا جزئيا أو انتقائيا. إن تحديد مصير المخفيين والمفقودين جزء من حقيقة ما حدث في لبنان، وما يحدث في بلدان استبدادية كثيرة إلى اليوم. وما أثبتته التجربة الكولومبية، وما تُصارع التجربة اللبنانية لإثباته، هو أنه لا عفو بلا حقيقة.

_______________________________________________

المصادر:

  1. لتكوين صورة مبسطة عن فترة النزاع المسلح في كولومبيا يمكنك قراءة مقالة سابقة على موقع ميدان هنا.
  2. دليل للصحفيين: مفاتيح للتعريف بالعمل، والتقرير النهائي، وإرث لجنة الحقيقة الكولومبية. منشور بالإسبانية
  3. الموقع الرسمي للجنة الحقيقة الكولومبية.
  4. المصدر نفسه

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply