نشهد كعرب ومسلمين اليوم تحديات فكرية غير مسبوقة، مشفوعة بانكسارات وجودية وهزائم تاريخية قصمت ظهورنا. لكن هل الارتهان لهذه الانكسارات حتمي؟ وهل ليس لنا فكاك من هذه الهزائم المستمرة؟ وهل العجز عن مواجهة هذه التحديات والوقوع صرعى أمامها هو مصيرنا؟

إن أحد أهم أبعاد الوجود الإنساني هو الزمن، ففيه يعيش الإنسان (الحاضر) مستحضرا إياه (الماضي) ومتطلعا إليه (المستقبل). وعلاقة الإنسان بالزمن علاقة مصيرية تعكس وجود الإنسان كله، وتحدده في الوقت ذاته، فالإنسان ابن الزمان والمكان وفيهما يقيم البنيان ويؤسس العمران. وعلاقة الإنسان بالزمن تثير أسئلة التجدد التاريخي والفاعلية والحركية الإنسانية والتقدم والتأخر.

تجاوز ابن خلدون عبء التاريخ وفسّر الواقع عبر دراسة الماضي وركز كل جهوده على تطوير مفهوم جديد سعى من خلاله إلى دفع الإنسان المسلم إلى استعادة زمام المبادرة والحركة التاريخية الفاعلة. وهو مفهوم العمران الذي يحوي مسؤولية الإنسان عن العالم والعمران وضرورة سعيه إلى التحول من التوحش إلى التأنس

“لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟”، هكذا صاغ شكيب أرسلان ما اصطُلح على تسميته بـ”سؤال النهضة” في أواخر القرن التاسع عشر-أوائل القرن العشرين. وهو السؤال الذي اعتبر بداية للفكر العربي المعاصر. قُدمت العديد من الإجابات عن سؤال النهضة هذا، وتفرق دم هذه الإجابات بين قبائل التيارات الفكرية المتعددة والمتناقضة.

لكن في نهاية الأمر فشلت كل مشاريع الإصلاح والنهضة في القرن الماضي من مختلف المدارس الفكرية والحركية. ورغم ذلك، فإن العقل العربي يبدو وكأنه لا يزال أسيرا لسؤال النهضة ومنطقه وثنائياته البائسة فيما يمثل “ارتهانا” للتاريخ يمنع العقل من التوثب للإجابة عن أسئلة الحاضر ويعكس جبنا فكريا عن المواجهة الحاسمة مع الماضي.

إن الحل هو في التخلص من عبء الماضي وأثقاله، والتضلع بـ”بالراهنية” بمعنى العيش في الوقت الراهن، والحياة الآن وهنا، والسعي للإجابة عن أسئلة الواقع وتحديات الحياة ونسيان الأسئلة الكبرى السابقة إلا ما يفيدنا منها. فالأسئلة السابقة قد تكون خاطئة، وقد تكون محدودة بسياق من سألها أو عقله أو تجربته، وقد يكون ما هو أولى منها أجدر بالتناول والاستجابة.

ولا تعني الدعوة للتخلص من عبء التاريخ وتجاوز وطأته تخلصا من التاريخ ذاته أو تجاهل دروسه و”عِبَره” بالتعبير الخلدوني، بالعكس. كما أنها لا تعني إنجاز قطيعة معرفية كاملة معه وإنما تعني أولا وبالأساس تحقيق قطيعة نفسية معه، فللماضي والتاريخ وطأة تثقل الروح وتزعزع النفس فيضطرب الفكر ونظامه.

والتخلص من عبء التاريخ يعني ثانيا التخلص من الأحكام القيمية في التعامل معه، وبالأخص أحكام الانتصار أو الهزيمة الكاملة والشاملة والنهائية، إذ ليس في الحركة التاريخية سكون أو جمود أو نهاية، كما قال الجبرتي: “وما الدهر في حال السكون بساكن، لكنه مستجمع لوثوبِ”.

فما دمنا أحياء ما زالت ثمة إمكانية للانتصار وما زال هناك أمل في غد أفضل. والتخلص من عبء التاريخ يعني ثالثا تجاوز أسئلة الماضي إلا ما يستثير الفكر ويحفز العقل فيما بتعلق بالحاضر والمستقبل. فكما أن هناك أفكارا مميتة وأفكارا ميتة، فكذلك ثمة أسئلة مميتة وأسئلة ميتة.

ونتيجة لهذه الأسئلة المميتة والميتة فإن مخيال التيارات الفكرية والسياسية مرتهن للماضي. وكل يبكي على ليلاه. فالتيارات القومية والاشتراكية والبعثية كل منها يتحسر على مجده عندما كان في السلطة ولو بدرجة ما. والتيار العلماني يتحسر على أيام الميني جيب في الشوارع.

وهناك الارتهان السلفي لولاية ذي الشوكة وطاعة ولي الأمر والترضي على أصحاب الأيادي السوداء من الفئة الباغية. والارتهان الصوفي لخرافات الأولياء وكراماتهم. والارتهان الحركي الإسلامي لتصور لا تاريخي عن تاريخ المسلمين وعمرانهم ومحاولة فرضه قسرا على الواقع.

لقد تجاوز ابن خلدون عبء التاريخ ووطأته من خلال التاريخ ذاته، إذ فسّر الواقع عبر دراسة الماضي وركز كل جهوده على تطوير مفهوم جديد تمام الجدة سعى من خلاله إلى دفع الإنسان (المسلم) إلى استعادة زمام المبادرة والحركة التاريخية الفاعلة. وهو مفهوم العمران الذي يحوي بداخله نزعة مثالية مؤداها مسؤولية الإنسان عن العالم والعمران وضرورة سعيه إلى التحول من التوحش إلى التأنس.

رأى ابن خلدون أن للتاريخ وجهين، ظاهرا وباطنا، وظاهر التاريخ يتناول الأحداث والوقائع والأيّام والدول وما فات من تاريخ البشر، أمّا باطنه فكما قال: نظر، وتدقيق، وتعليل للكائنات، وعلم بكيفيّة الوقائع، وأسباب حدوثها.

ومن ثم لم يتعلق ابن خلدون بالأحداث من حيث وقوعها وإنما وضعها في سياق أوسع هو الاجتماع الإنساني أو العمران البشري الذي تحكمه قوانين كبرى وسنن جارية لا تتبدل. وفي قلب هذا العمران البشري يوجد الإنسان الفاعل الذي يصنع التاريخ ويغيره.

علينا أن نستحضر الماضي ونتشبث بالتاريخ ولكن ليس تشبث الطفل اليتيم، ولا استحضار من ينظر إلى الهزائم بمرارة وانكسار، ولكن بتفاؤل وثقة ونظرة للأمام تتجاوز صدمة تروما الحداثة بشراستها والدولة بتوحشها والتوحش المضاد.

علينا كذلك الانتقال من الحوار المتشكك مع الذات وجلدها (ناهيك بالانكفاء عليها أو التقهقر الاستسلامي والنكوص عن مهمة التجديد) إلى الاشتباك المباشر مع تحديات العصر وأسئلة الإنسان (المسلم) المعاصر، لا على نحو يتوهم أسئلة غير موجودة أو يستعيرها قسرا من الماضي أو من الآخر، وإنما على شاكلة الثقة بالذات والانغماس في الحاضر الراهن وشروطه مع استلهامٍ لدروس الماضي وتطلعٍ إلى المستقبل.

إن الفيصل في أي عمل فكري أو إجابة عن الواقع وأسئلته الحاسمة هو راهنيته، فضلا عن المرجعية والقيم التي تؤطر حركتنا، والتي من خلالها نفهم البنية التي نصدر عنها، وعلى أرضيتها نفكك البنى المضادة ونعيد بناءها. وهو جهد ضروري إن أردنا العبور إلى المستقبل، وتجاوز أخطاء من سبقونا، وتجديد ديننا ودنيانا. وإذا كانت خريطة الطريق واضحة إلى الأمام، فلن نضطر للنظر إلى الوراء.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply