بيروت – تُرخي الحرب الروسية على أوكرانيا ظلالها القاتمة في بلاد عربية تستورد قمحها ومشتقاتها النفطية، وفي طليعتها لبنان الذي يرزح تحت وطأة أزمة تاريخية، سياسية ومعيشية ومالية.

ومنذ أيام تتوالى التحذيرات الرسمية في بيروت من النقص الحاد بمخزون القمح، كما يحذر المستوردون من النقص بمشتقات الزيوت، خصوصا أن لبنان يستورد أكثر من نصف حاجته منهما من أوكرانيا، في حين تتصاعد أسعار البترول عالميا وتنعكس على كلفة الاستيراد والإنتاج ومصادر الطاقة.

ما أبزر تحديات لبنان بالحرب الدائرة؟

يتحدث للجزيرة نت المدير العام للحبوب​ والشمندر السكري في وزارة الاقتصاد جريس برباري عن خلفيات أزمة القمح، ويتطرق نقيب مستوردي المواد الغذائية هاني البحصلي إلى مشكلة كبيرة تواجه لبنان في استيراد الزيوت.

لبنان يعجز عن تخزين القمح والحبوب التي يستورد كامل حاجته منها بعد تدمير صوامع مرفأ بيروت (الأوروبية)

شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا صفعة إضافية للبنان، لأنه يعجز عن تخزين القمح والحبوب التي يستورد كامل حاجته منها، بعد تدمير صوامع مرفأ بيروت جراء انفجار الرابع من أغسطس/آب 2020. ومنذ ذلك الحين، تتولى المطاحن والأفران تخزين الحبوب والقمح بعد تفريغها من البواخر، خارج السلطة المباشرة للدولة التي كانت مفروضة على الصوامع وكانت توفر حاجة البلاد لنحو 6 أشهر قادمة.

وهنا، يوضح برباري نقاطا عدة منها:

  • يستورد لبنان سنويا 600 ألف طن من القمح، أي بمعدل 50 ألف طن شهريا؛ 60% منها من أوكرانيا، ونحو 20% من روسيا ورومانيا.
  • حاليا، لا يوجد لدى المطاحن سوى 60 ألف طن من القمح، تكفي لنحو شهر ونصف، ومن الصعب توفير احتياطي أكبر بعد تدمير الصوامع.
  • يدعم مصرف لبنان المركزي 100% استيراد القمح على سعر صرف رسمي (1515) ليرة لبنانية للدولار، وهناك صعوبة بفتح اعتمادات جديدة لاستيراده من مصادر دول أخرى، مثل أميركا والأرجنتين والهند وبلغاريا وفرنسا ورومانيا، نتيجة أعبائها المالية وكلفة شحنها وارتفاع مؤشرات الأسعار عالميا.
برباري: الحكومة ووزير الاقتصاد أمين سلام يعملان بالتنسيق مع البنك المركزي على التواصل مع دول أخرى مصدرة للقمح (الأوروبية)

ومع ذلك، لا يجد برباري أن لبنان سيقع في أزمة شح كلي من مادة القمح، لافتا إلى أن الحكومة ووزير الاقتصاد أمين سلام يعملان بالتنسيق مع البنك المركزي على التواصل مع دول أخرى مصدرة للقمح لفتح اعتمادات لها، وأكد “لن نسمح بانقطاعه من لبنان كي لا نمس مباشرة بلقمة الفقراء”.

وللإشارة، فإن القمح من السلع القليلة جدا الذي أبقى المركزي على دعم استيرادها 100% مع بعض أدوية الأمراض المزمنة.

لذا، يسلط الخبير المصرفي علي نور الدين الضوء على المشكلة الفعلية، فيقول للجزيرة نت إن كل ما يمر بالمركزي نتيجة صعوبة فتح الاعتمادات، بسبب شح الدولارات لديه وتضاؤل قيمة الاحتياطي الإلزامي بالعملات الصعبة (المقدر بأقل من 12 مليار دولار).

وما أصاب لبنان بعد الحرب بأوكرانيا، وفق نور الدين، هو أن ارتفاع سعر القمح عالميا فرض على المركزي دفع مبالغ أكبر بالدولار لاستيراد كمية القمح نفسها؛ فـ”أصبح يماطل ويحاول التقنين بالاستيراد، وذلك يدحض محاولة السلطات التقليل من حجم أزمة القمح أمام الرأي العام”.

وإذا استمرت الحرب في أوكرانيا مدة طويلة، حسب نورالدين، ستتقلص قدرة المركزي على دعم استيراد القمح على المدى المتوسط، وستُعجّل ببلوغه عتبة العجز عن دعم استيراده.

وعليه، ثمة علاقة مباشرة بين قدرة المركزي على دعم استيراد القمح، وارتفاع أسعاره عالميا، وذلك قد ينعكس تلقائيا على سعر ربطة الخبز في لبنان.

وهنا، يشير المدير جريس برباري إلى أن التجنب المرحلي لرفع سعر ربطة الخبز سيقابله التوجه للتقليل من وزنها. وقال “إن استيراد القمح من بلدان أخرى كالولايات المتحدة سيرفع مباشرة كلفة نقله علينا مع ارتفاع سعره”.

زيوت
البحصلي: لبنان يعجز حاليا عن استيراد الزيوت ومشتقاته وهو يحتاج منها 100 ألف طن سنويا (الجزيرة)

هل الزيوت بخطر؟

ينطلق نقيب مستوردي المواد الغذائية في لبنان هاني البحصلي من 3 عناصر أساسية للأمن الغذائي: وجود الغذاء، والوصول إليه، وصحته. وقال إن لبنان يواجه أساسا مشكلة في العنصر الثاني نتيجة الارتفاع الباهظ بأسعار السلع، لكن الحرب الروسية على أوكرانيا فاقمت تحديات وجود الغذاء برأيه.

ويوضح للجزيرة نت أن لبنان يعجز في الوقت الحالي عن استيراد الزيوت ومشتقاتها، وهو يحتاج منها 100 ألف طن سنويا، ونحو 90% منها من دوار الشمس، وتنقسم وفق الآتي: 60 ألف طن من المواد الخام من الزيوت للصناعات المحلية، و40 ألف طن من الزيوت المصنعة والمعلبة. وإجماليًّا، فإن 60% من الصنفين يُستورد من أوكرانيا مباشرة.

وتشكو حاليا معظم المتاجر الغذائية من نقص بعبوات الزيوت، دفع شريحة من المواطنين إلى التهافت على شرائها وتخزينها تحسبا من الاحتكار والارتفاع المرتقب لأسعارها.

اللبنانيون يتتبعون يوميا ارتفاع أسعار المحروقات التي سبق أن رفع الدعم عنها (الأوروبية)

تعميق المعاناة

وحسب مؤسسة “الدولية للمعلومات”، يوجد خلل كبير في الميزان التجاري بين لبنان وأوكرانيا لمصلحة أوكرانيا، إذ إن لبنان لا يصدّر شيئا لها، في حين تبلغ قيمة الواردات من أوكرانيا نحو 354 مليون دولار كمتوسط سنوي بين 2012 و2020.

وإلى جانب القمح الذي يتصدر المرتبة الأولى من الواردات إلى لبنان، وبقيمة سنوية تقدّر بنحو 119 مليون دولار، يستورد لبنان أيضا من أوكرانيا الزيوت الخام (بقيمة 44.3 مليون دولار)، والحبوب الأخرى والحديد وبعض الحيوانات الحية.

وبينما يشمل الفقر المتعدد الأبعاد نحو 80% من اللبنانيين، وفق تقديرات دولية، يراقب معظم سكان لبنان الحرب الروسية بعين الريبة من تداعياتها الاقتصادية المباشرة عليهم، ويتتبعون يوميا ارتفاع أسعار المحروقات التي سبق أن رفع الدعم عنها، في حين تتكبد الأسر أكثر من نصف مداخيلها على تسديد فواتير مصادر الطاقة.

الأسر اللبنانية تتكبد أكثر من نصف مداخليها على تسديد فواتير مصادر الطاقة (الأوروبية)

ويجد الكاتب الاقتصادي منير يونس أن الأزمة ستتفاقم على كل الدول العربية غير النفطية والتي تستورد قمحها، إذا طالت الحرب. وقال للجزيرة نت إن السلطات اللبنانية ستستمر غالبًا بالسعي لشراء الوقت وتوفير تكاليف استيراد القمح تفاديًا لردود الفعل الشعبية ولو على حساب استنزاف احتياطي المركزي.

ويرى علي نور الدين أن مواصلة ارتفاع سعر برميل النفط إلى أعلى مستوى منذ 2013 سيرفع كثيرا أسعار المحروقات في لبنان، بصرف النظر عن سعر صرف الدولار في السوق المحلية، وذلك ينعكس تلقائيًّا على أسعار مختلف السلع الغذائية والاستهلاكية.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply