عكار (شمالي لبنان)– في الطريق نحو عكار تنتشر يافطات الحملات الانتخابية في محافظة تظهر عليها ملامح غياب الدولة وانهيار البنى التحتية في نحو 21 بلدة وقرية، تتداخل آخر نقاطها بوادي خالد مع الحدود السورية البرية.

تاريخيا، ورغم اختزان عكار “الخضراء” -التي تتجاوز مساحتها 775 كيلومترا- موارد طبيعية ومرافق إستراتيجية كانت كفيلة للنهوض بها ولبنان نسبيا فإنها بقيت محافظة طرفية منسية دفعت ثمن الإهمال والتفلت الأمني ونشاط خطوط التهريب بين لبنان وسوريا التي يديرها المتنفذون سياسيا وعشائريا وكبار التجار.

وهكذا، بقي أهل عكار بلا تنمية ولا خدمات، فارتفعت معدلات الفقر والبطالة والتسرب المدرسي، وتحولت بعض قراها إلى عشوائيات وأحزمة بؤس، واشتد وضعها سوءا بفعل انتشار مخيمات النازحين السوريين.

ولهذه المحافظة الشمالية 7 مقاعد برلمانية، وتتنافس فيها 8 لوائح انتخابية تمثل عددا من القوى السياسية، ويحمل بعضها شعارات التغيير، لكن عكار التي كانت تجسد الخزان الشعبي لتيار المستقبل تتكثف فيها مظاهر ما يمكن تسميتها “الزبائنية السياسية”، وتدور معركتها على المال الانتخابي الذي يستخدمه مرشحون أداة وحيدة لجذب أصوات الناخبين.

سعر الصوت مليون ليرة

في بلدة ببنين العكارية تحدث مجموعة من الشبان للجزيرة نت عن عمليات شراء الأصوات المنتشرة على امتداد المحافظة.

يقول هؤلاء الشبان إن أغلب المرشحين يقدمون الرشى المادية والعينية خلال جولاتهم الانتخابية بين أهالي القرى، كمقابل لأصوات الناخبين الذين سيتجهون نحو صناديق الاقتراع في 15 مايو/أيار الجاري، منهم مثلا من يدفعون لكل صوت مليون ليرة (نحو 40 دولارا)، أو يقدمون خدمات أخرى كتزفيت الطرقات أو تسديد فواتير استشفائية ودوائية، أو توفير المحروقات مجانا بعدما صار اللبنانيون يتكبدون أثمانا باهظة إثر رفع الدعم عن استيرادها بالدولار.

لكن عكار مجرد عينة عن ظاهرة انتشار الرشى الانتخابية في شتى دوائر لبنان الانتخابية.

مناطق لبنانية تتوفر فيها شبكات حماية خدماتية من قبل الأحزاب المسيطرة عليها (الجزيرة)

المال وتشوه القانون

يخوض اللبنانيون انتخابات 2022 البرلمانية في ظروف استثنائية لا تقتصر على الاستقطاب السياسي الحاد، بل لأنها تُجرى لأول مرة بعد انهيار تاريخي يعصف بالبلاد منذ نهاية 2019، ودفع نحو 80% من السكان إلى الفقر، وفق تقديرات أممية.

الجزيرة نت تحدثت عن أشكال الإنفاق الانتخابي مع كل من المدير التنفيذي للجمعية اللبنانية لتعزيز ديمقراطية الانتخابات “ليد” (LADE) علي سليم، وجوليان كورسون المدير التنفيذي في الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية “لا فساد” (الفرع الوطني لمنظمة الشفافية الدولية).

وينطلق سليم وكورسون من مكمن أزمة القانون، لأن المادة 62 من قانون الانتخابات تحظر في فقرتها الأولى على المرشحين تقديم خدمات ومساعدات عينية ونقدية للناخبين بفترة الحملات الانتخابية وتعتبرها غير قانونية.

لكن الفقرة الثانية من المادة نفسها تقول “لا تعتبر محظورة التقديمات والمساعدات المقدمة من مرشحين أو مؤسسات وجمعيات يديرها مرشحون أو أحزاب درجوا على تقديمها بذات الحجم والكمية بصورة اعتيادية ومنتظمة منذ ما لا يقل عن 3 سنوات من بدء فترة الحملة الانتخابية”.

وهذا اللبس القانوني -وفق سليم- يضعف آلية تتبع المرشحين والأحزاب، للتأكد في ما إذا كانت تقدم مساعداتها بصورة متواصلة منذ 3 سنوات، خصوصا أن مدة عمل هيئة الإشراف على الانتخابات سنة واحدة، مقسمة 6 أشهر قبل الانتخابات و6 أشهر بعدها.

وقال إن تشوهات الاقتصاد اللبناني بفعل الأزمة المصرفية عززت الاعتماد على المال النقدي (الكاش) بدل البطاقات المصرفية، فغرق لبنان في ضبابية حركة المال السياسي، مذكرا بأن القانون الانتخابي لا يفرض رفع السرية المصرفية للمرشحين، وإنما فقط فتح حساب مصرفي لحملة المرشح الانتخابية، دون مراقبة حساباته الأخرى وحسابات أفراد عائلته.

450 مليون دولار

ومع انهيار الليرة أمام الدولار وتجاوزها في السوق السوداء 26 ألفا و500 ليرة بعدما كان سعر صرف الدولار الرسمي (1507) معتمدا في انتخابات 2018 عدل القانون مؤخرا سقف الإنفاق الانتخابي ليقدر بنحو 450 مليون دولار لجميع المرشحين، ويوازي نحو 21% من إجمالي نفقات الدولة، بحسب مركز الدولية للمعلومات.

وقانونيا، تشمل النفقات الانتخابية للمرشحين كل ما يتعلق بتأمين المكاتب والماكينات، وإقامة المهرجانات والاجتماعات والحملات الإعلامية واللوحات الاعلانية وتنقلات الناخبين وسفرهم ونفقات المندوبين وغيرها.

وهنا، يشير كورسون إلى أن السقف الانتخابي مقونن شكليا، إذ لكل مرشح لائحة كمية من المال يحق لهم صرفها، لكن قيمتها تختلف من دائرة لأخرى وفق حجمها وعدد وناخبيها، وتاليا “هذا السقف لا يؤمّن تكافؤ الفرص طالما أن القانون لم يرفع السرية المصرفية مقابل الاعتماد على الاقتصاد النقدي وغياب العمل بالشيكات المصرفية”، مضيفا أن “الأزمة الاقتصادية خلقت بيئة حاضنة لفوضى المال الانتخابي”.

وفي العام 2018 أجرت الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية إحصاء على عينة مؤلفة من 1200 شخص وفق كورسون، وتبين فيه أن 48% منهم تم الاقتراح عليهم إما شراء أصواتهم مقابل مال أو خدمة، أو أنهم يعرفون آخرين تعرضوا لذلك.

وإلى جانب المال درجت أشكال كثيرة للخدمات المقدمة للناخبين، ومنها مثلا قسائم شرائية من المتاجر الغذائية أو تقديمها على شكل كراتين معونات، ودفع مستحقات أقساط مدرسية وبدل إيجار منازل ومحال وفواتير استشفائية وطبية، وتسديد فواتير مولدات الكهرباء الخاصة والمحروقات، أو استخدام بعض الناخبين للعمل مندوبين مؤقتا مقابل وعود وظيفية، وغيرها من التقديمات التي تؤثر تلقائيا على خيارات الناخبين وحريتهم.

الترويج وشراء الأصوات

ومقابل إغداق المال السياسي خلال الحملات الانتخابية ثمة أحزاب وتيارات تقليدية في لبنان توفر منظومة رعاية متكاملة لبيئتها الحاضنة بمناطق نفوذها، خدماتيا وصحيا وتعليميا وبمختلف الشؤون المعيشية، ويرى كثيرون أنها بمثابة حضور مواز للدولة ودورها.

وهذا الواقع -بحسب سليم- يشكل غطاء لحركة المال الانتخابي الذي يؤثر على خيارات الناخبين، لأن معظم التقديمات تكون عبر جمعيات يستثنيها القانون الانتخابي من الرقابة.

ويوضح أن “ليد” ترصد هذه الظواهر منذ ما قبل فتح باب الترشح للانتخابات، أي من يناير/كانون الثاني 2021، وقال إنهم ينظرون إلى كل المساعدات المقدمة من الجهات المرشحة للانتخابات راهنا للناخبين، وفي فترة الحملات الانتخابية وقبلها وعبر جمعياتها كعملية شراء أصوات.

ومع استعار المواجهة الانتخابية قبل أيام من الاقتراع فإن الأزمة الفعلية -حسب سليم- هي بالسلوك الإعلاني والإعلامي المحلي.

ووفقا للقانون، من المفترض على وسائل الإعلام المحلية أن ترسل لهيئة الإشراف على الانتخابات جدولا بأسعارها لكل دقيقة استضافة للمرشحين.

لكن ما تبين مع “ليد” أن جدول الأسعار المرسل من معظم وسائل الإعلام غير مطابق للجدول المعتمد مع المرشحين الذين يروجون لأنفسهم دون توازن وتكافؤ بالفرص، وبينما يجب أن تكون التغطية الإعلامية مجانية “لكنها تباع للمرشحين -وتحديدا الإعلام المرئي- كمساحات للاستثمار”.

Ahead of 2022 Lebanese general election
الحملات الانتخابية على أشدها بانتخابات لبنان وسط انتشار واسع لاستخدام المال السياسي (رويترز)

25 ألف دولار

في 2018 مثلا -حسب سليم- بلغ سعر الظهور في وقت الذروة قبل الانتخابات نحو 25 ألف دولار، و”يتراوح حاليا بهذا المعدل صعودا وهبوطا”.

وقال إن الدعاية الانتخابية من المفترض قانونيا أن ترفق بعبارة “إعلان مدفوع الثمن”، لكن ما يحدث “هو خلق برامج ووسائل دعائية لا ترفق بهذه العبارة، لكنها عمليا مدفوعة الثمن”.

ويعتبر سليم أنه بعد انحلال مؤسسات الدولة وارتفاع مؤشرات الفقر أصبحت الرشى سلوكا تعتمده معظم الأحزاب التقليدية كونها تملك الموارد، كما أن بعض القوى الناشئة حديثا تستخدم نفس أدوات تلك الأحزاب لكسب أصوات الناخبين.

وعليه، فإن “شرعية نتائج الانتخابات تبدأ بتتبع الخط البياني لعمليات شراء الأصوات”، لأنه سلوك يكرس الزبائنية مقابل عجز الدولة عن تقديم الخدمات لمواطنيها، وتنتهجه معظم القوى حفاظا على تبعية قواعدها الشعبية وضمان أصوات الناخبين، وذلك عبر الضغط عليهم بأبسط حقوقهم المعيشية تعزيزا لنفوذها وسيطرتها حتى لو كان تمثيلها مشوها بالرشى”، وفقا لسليم.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply