تتبع روسيا في حربها بأوكرانيا إستراتيجية تقوم على حصار المدن واستهداف البنى التحتية بقصف جوي ومدفعي مدمر، قبل تفعيل “ممرات آمنة” لإجلاء المدنيين، في خطوات تذكّر بتدخلها العسكري في سوريا التي شكلت حقل تجارب لعسكرييها وأسلحتها.

لكن موسكو -التي لم تنشر قوات على الأرض مع قوات النظام السوري- واجهت في سوريا مجموعات معارضة مقاتلة مشتتة غالبا، وتفتقر إلى السلاح والتجهيزات والدعم الدولي، لكنها تواجه اليوم في أوكرانيا مقاومة من جيش منظم، وسط تعبئة سياسية دولية رافضة للحرب على أوكرانيا.

وبدأت روسيا تدخلها العسكري المباشر إلى جانب قوات النظام السوري في سبتمبر/أيلول 2015، وكانت من أبرز داعمي نظام دمشق منذ اندلاع الثورة في 2011، وسرعان ما أسهم تدخّلها في قلب موازين القوى على الأرض لصالح حليفتها سوريا على جبهات عدة، بعدما كانت القوات السورية التابعة للنظام خسرت جزءا كبيرا من الأراضي.

ومنذ بداية حربها بأوكرانيا في 24 فبراير/شباط الماضي، زجّت روسيا بعشرات الآلاف من قواتها في الهجوم، ويشارك هؤلاء في قصف وحصار مدن رئيسية باتت تحت مرمى نيرانهم، مما دفع عشرات الآلاف إلى الفرار.

وتقول موسكو إنها لا تستهدف مناطق مدنية، رغم حديث منظمات حقوقية وقوى غربية -بينها واشنطن- عن “تقارير موثوقة” تشير إلى ارتكاب روسيا جرائم حرب في هجومها على أوكرانيا، خاصة باستهدافها مدنيين.

ويقول مصدر عسكري فرنسي -تحفّظ على ذكر اسمه- لوكالة الصحافة الفرنسية إن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا شكلت “تغيرًا في النطاق”، مبينا أن “سوريا كانت مسرحًا صغيرًا”.

لكن العديد من التكتيكات المتبعة في أوكرانيا مستمدة من تجربة روسيا في سوريا، حيث اكتسب عسكريوها خبرة عملية، واختبرت موسكو جزءا مهما من مكونات ترسانة الكرملين العسكرية.

ومن بين كبار الجنرالات الروس الذين شاركوا في مهمات بسوريا برز مؤخرا اسما اللواء أندري سوكوفيتسكي نائب قائد جيش الأسلحة المشتركة 41، الذي قتل الشهر الحالي في أوكرانيا، والجنرال فيتالي غيراسيموف الذي أعلنت كييف مقتله، ولم تؤكد ذلك موسكو.

ويقول الباحث المتخصص في الجغرافيا السورية فابريس بالانش لوكالة الصحافة الفرنسية “بالنسبة إلى روسيا، تشكل سوريا حقل تدريب للعتيد والعتاد”.

السيطرة على المدن الكبرى وفتح الممرات

لطالما اتهمت منظمات حقوقية ودولية روسيا بدعم النظام السوري في حصاره للمناطق الخارجة عن سيطرته وتضييق الخناق عليها عبر استهداف البنى التحتية والمرافق الصحية والخدمية، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية من أجل دفع السكان ومقاتلي المعارضة إلى إخلاء مناطقهم.

ويوضح بالانش أنه على الدوام “كان هدف روسيا الأول في سوريا إعادة السيطرة على المدن الكبرى”، بدءًا من حلب في نهاية 2016 إلى الغوطة الشرقية قرب دمشق عام 2018؛ بهدف منح الرئيس بشار الأسد “شرعية”.

ويشير إلى تشابه مع أوكرانيا؛ حيث تتقدم القوات الروسية باتجاه مدن كبرى أبرزها كييف “التي تشكل مصدر شرعية للسلطة”، وتسعى إلى تجريدها منها.

وكما في سوريا سابقا، تتبع روسيا في أوكرانيا -وفق بالانش- أسلوب ترويع المدنيين عبر الانتقال من “قصف مواقع عسكرية إلى بنى تحتية في مجالي الصحة والطاقة لجعل حياة المدنيين مستحيلة، ودفعهم إلى المغادرة”؛ وبالتالي “تسهيل مهمة تقدم القوات” في الميدان.

وخلال هجمات عسكرية عام 2016 على مدينة حلب (شمالي سوريا) ثم على محافظة إدلب (شمال غرب) بين عامي 2019 و2020، شنّت موسكو مع قوات النظام السوري غارات استهدفت “بشكل متعمّد” عشرات المدارس والمستشفيات والأسواق، موقعة الكثير من الضحايا، غير آبهة بنداءات دولية لتحييد المنشآت المدنية.

وقبل يومين من بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، أبدى كينيث روث مدير “هيومن رايتس ووتش” قلقه من “إمكان استنساخ ما وصفها بإستراتيجية جرائم الحرب” في سوريا مجددا في أوكرانيا.

ومع بدء الحرب، اتهمت منظمات حقوقية -بينها هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية- روسيا باستخدام قنابل عنقودية في قصف على مدرسة ومستشفى في مدينة خاركيف (ثاني أكبر مدن البلاد)، بما يرقى إلى “جرائم حرب”.

واتهمت كييف موسكو بقصف مستشفى للأطفال والتوليد أمس الأربعاء في مدينة ماريوبول (جنوبي أوكرانيا)، مما أثار موجة استنكار دولية وتنديد بما وُصف بأنه “جريمة حرب”.

وفي سيناريو كانت روسيا المهندس الرئيسي له في سوريا لإخلاء السكان من مناطق خارجة عن سيطرة النظام السوري، أعلنت موسكو فتح “ممرات إنسانية” في أوكرانيا لإجلاء الآلاف، في إستراتيجية شكّك محللون في جدواها.

تباينات

لا يحول التماهي في التكتيكات التي اتبعتها روسيا في البلدين دون وجود تباينات على مستويات عدة؛ يتعلّق أبرزها في نطاق الهجوم وطبيعة المنخرطين فيه.

ويوضح نيكولاس هيراس الباحث في معهد “نيولاينز” لوكالة الصحافة الفرنسية أن “روسيا اعتمدت في سوريا -بشكل أساسي- على قوّتها الجوية وبعض الوحدات المتخصصة لتقديم المشورة والمساعدة للقوات الموالية للأسد”، لكن الروس “هم القوة المقاتلة” الرئيسية في أوكرانيا.

ويشير هيراس إلى تباين كذلك على صعيد قدرات القوات العسكرية؛ إذ تواجه روسيا في أوكرانيا جيشًا نظاميًّا مدعومًا من حلف شمال الأطلسي (ناتو) ومن دول أوروبية تمدّه بالسلاح، عدا عن أنه يمتلك أساسًا قدرات مضادة للطائرات والدروع.

في المقابل، خاضت روسيا في سوريا “حربًا على نطاق أصغر كانت لها فيها سيطرة كاملة”.

ويرى الباحث غير المقيم في مجلس الشؤون الدولية الروسي أنطون مارداسوف أن لروسيا بعد تجربتها القتالية في سوريا تصورا أوضح عن أنظمة أسلحتها وكيفية عملها.

ويقول “صحّحت كثيرا من أوجه القصور في أسلحتها عالية الدقة برًّا وبحرًا وجوًّا التي تم اكتشافها خلال استخدام أنظمة الصواريخ في سوريا”. ويضيف أنه “في أوكرانيا يتم استخدام الأسلحة عالية الدقة بشكل فاعل ودقيق للغاية”.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply