خلال الأسبوع الأول والثاني من شهر يوليو/تموز، أعلن فريق من الفيزيائيين الكوريين الجنوبيين في ورقتين بحثيتين منفصلتين أنهم قاموا لأول مرة في التاريخ بابتكار مادة -ونحن هنا نقتبس حرفيا- “تُمثِّل حدثا تاريخيا يفتح حقبة جديدة للبشرية”، وهي موصل فائق في درجة حرارة الغرفة والضغط الطبيعي، وهو ادعاء جريء جدا في الحقيقة، حيث طالما كانت الموصلية الفائقة في درجة حرارة الغرفة هي أقدس الكؤوس في فيزياء المادة المكثفة. انتشر الخبر في وسائل التواصل، واندلعت بسببه موجة من الجدل بين الباحثين، وموجة من الحماس بين عامة الناس.

ببساطة.. ما الموصلية الفائقة؟

تتمتع جميع المواد التي نعرفها بقدر من المقاومة للتوصيل الكهربي، ما يعني أنها تقاوم تدفق الكهرباء بها بالطريقة نفسها التي يقاوم بها الأنبوب الضيق تدفق المياه، وبسبب هذه المقاومة فإن كمية من الطاقة المنقولة عبر الأسلاك في صورة كهرباء تُفقد في صورة حرارة، هذا هو السبب في أن أجهزة الحاسوب أو الهواتف المحمولة تصبح أسخن مع الوقت، وتحتاج الكثير من الأجهزة إلى مبردات داخلية.

أما الموصلية الفائقة(1) فهي خاصية لبعض المواد التي تقوم بتوصيل التيار الكهربائي المباشر دون مقاومة، وبالتبعية دون فقد في الطاقة عند تبريدها تحت درجة حرارة محددة، وتقوم هذه المواد أيضا بصد الحقول المغناطيسية في حالة التوصيل الفائق، وهي الظاهرة التي تُعرف باسم “تأثير مايسنر”. اكتُشف هذا النوع من السلوك للمواد قبل أكثر من 100 عام في الزئبق المبرد إلى درجة حرارة حول 273 تحت الصفر، على يد الهولندي هايك كامرلينغ أونس.

العالم الهولندي هايك كامرلينغ أونس. (مواقع التواصل)

بعد اكتشاف الموصلية الفائقة في الزئبق لوحظت هذه الظاهرة أيضا في مواد أخرى مثل النيوبيوم والتيتانيوم، التي يمكن بسهولة تحويلها إلى أسلاك. وخلال العقد الماضي، ظهرت مواد جديدة فائقة التوصيل في درجات حرارة معتدلة نسبيا (23 درجة تحت الصفر)، ولكن فقط في ظل الحاجة إلى ضغط شديد، ربما أكثر من 100000 مرة من الضغط الجوي العادي، ما يعني كذلك أنها لن تكون عملية كفاية للاستخدام في حياتنا اليومية.

ما الذي حصل بالضبط؟

في الورقة البحثية الأولى(2)، أفاد سوكباي ليي وجي-هون كيم ويونج وان كون، وثلاثتهم يعملون باحثين في هذا النطاق، أنه في ظل الظروف اليومية العادية ومن دون تدخل برفع الضغط أو خفض الحرارة، نجحت عملية تعديل أحد أشكال مادة تسمى “أباتيت الرصاص المعدني”، وهو مركب من الرصاص والنحاس والفسفور والأكسجين، ليُظهر علامات على الموصلية الفائقة، مثل تدفق التيار دون مقاومة وطرد المجال المغناطيسي.

ولتعزيز هذه الادعاءات، ظهرت ورقة بحثية أخرى(3) بعد ذلك بوقت قصير شارك في إعدادها ثلاثة باحثين إضافيين. ثم في دليل أخير على صحة ادعاءاتهم، نشر الفريق مقطع فيديو يُظهر المادة التي أطلقوا عليها اسم “إل كي 99” (LK-99) وهي مرتفعة جزئيا أعلى مغناطيس. هذا النوع من العروض بالفعل دليل على الموصلية الفائقة بالنسبة لبعض المواد، لكنه ظهر في الفيديو بدون أي دلالة على التبريد أو الضغط المرتفع، أي في درجة حرارة قريبة من درجة حرارة الغرفة.

أبلغ المؤلفون أيضا في الورقتين البحثيتين أنهم وجدوا أن المقاومة الكهربائية تنخفض انخفاضا حادا حول 378 كلفن، أي أكثر من 100 درجة سيليزية، ثم وصلت إلى ما يقرب من الصفر حول 333 كلفن (نحو 60 سيليزية).

هل هؤلاء الباحثون على حق؟

حسنا، هنا تحديدا نحتاج إلى التوقف قليلا وكبح جماح ثورة وسائل التواصل الاجتماعي المعتادة مع الإعلان عن ادعاءات من هذا النوع، فقد زعمت عدة فرق من الباحثين اكتشاف الموصلية الفائقة في درجة حرارة الغرفة في مواد مختلفة في الماضي، لكنَّ أيًّا من الادعاءات لم تصمد أمام التدقيق. وأول ملاحظة تتطلب منا أن نتحسس أدواتنا النقدية هنا هي أن الورقتين البحثيتين لم تخضعا بعد لمراجعة الأقران، أي إنهما نُشرتا على أرشيف للأوراق البحثية وليس مجلة يقوم عدد من المتخصصين فيها بمراجعة تلك المعلومات والبيانات والنتائج وتأكيد صحتها.

أضف إلى ذلك أن الباحثين الكوريين كما يبدو قد اختلفوا فيما بينهم حول مَن يستحق الاعتراف به في هذا الكشف، فقد نُشرت الورقة الأولى بثلاثة باحثين فقط، ونشرها أحدهم كما يبدو دون علم البقية، ثم نُشرت الورقة الثانية التي شابهت في جزء كبير منها الورقة الأولى لكن مع ستة باحثين، وربما كان الاختلاف متعلقا بأن إثبات صحة هذا الادعاء يعني جائزة نوبل محققة لا شك فيها، وجائزة نوبل تُعطى لثلاثة باحثين فقط على الأكثر.

على جانب آخر، العرض الذي قدمه الباحثون في شكل فيديو لا يمكن أن يكون دليلا على أي شيء، فالموصلات الفائقة ليست الأشياء الوحيدة التي تطفو فوق المغناطيس بهذه الطريقة، الجرافيت على سبيل المثال يرتفع أيضا أعلى المغناطيس. (4،5،6)

أضف إلى ذلك أن بعض الفيزيائيين مثل دوغلاس ناتلسون من جامعة رايس بالولايات المتحدة سلَّط الضوء على بعض التناقضات في بيانات الورقتين حول القابلية المغناطيسية، الأمر الذي لا يشجع على الثقة في هذه النتائج. ولكن هذه التعليقات -مثلها مثل الورقتين البحثيتين- لا يمكن أن تكون مؤكدة، يجب أن تُنشر الأوراق البحثية في مجلات متخصصة وتخضع لمراجعة الأقران.

المؤكد أنه بينما تقرأ أنت هذه الكلمات، فإن فرقا بحثية عدة في مناطق متفرقة حول العالم تحاول إعادة التجربة التي أعلن عنها الفريق الكوري الجنوبي، وخلال عدة أشهر سيتأكد الأمر، فإما أن نكون بصدد فتح علمي غير مسبوق، أو يذهب الأمر -مثل غيره- إلى غياهب النسيان إذا فشلت التجارب.

ماذا لو كان ادعاؤهم صحيحا؟

من سمات الموصلات الفائقة أنها تطرد (أي تتنافر مع) المجال المغناطيسي (تأثير مايسنر)، تُمكِّن هذه الخاصية المواد فائقة التوصيل من التحليق في وجود مجال مغناطيسي. (شترستوك)

كما أسلفنا، فإن الموصلية الفائقة في درجة حرارة الغرفة هي حلم كل فيزيائي يعمل في هذا النطاق، في الواقع فإن هذا الاكتشاف -إن تأكد- يعني جائزة نوبل مضمونة لهؤلاء الباحثين كما أسلفنا، هذا لأن تطبيقات هذا الاكتشاف واعدة لا شك، فالموصلات الفائقة تمتلك القدرة على توصيل الكهرباء بدون مقاومة، مما يعني أنها يمكن أن تحمل التيار الكهربائي دون أي فقد للطاقة ولأي مسافة، تسمح هذه الخاصية بالنقل والتوزيع الفعال للكهرباء وتقليل إهدار الطاقة وتحسين الكفاءة الكلية للطاقة في كل مكان بالعالم. (7،8)

أضف إلى ذلك أن الموصلية الفائقة تعني قدرة تحمل عالية للتيار، حيث يمكن للموصلات الفائقة أن تحمل تيارات عالية للغاية دون أي فقد للطاقة أو توليد حرارة، تجعلها هذه الخاصية مثالية للتطبيقات التي تتطلب كثافة طاقة عالية، مثل شبكات الطاقة والمحركات الكهربائية والمولدات.

إلى جانب ذلك فإن من سمات الموصلات الفائقة أنها تطرد (أي تتنافر مع) المجال المغناطيسي (تأثير مايسنر)، تُمكِّن هذه الخاصية المواد فائقة التوصيل من التحليق في وجود مجال مغناطيسي، مما يخدم تطبيقات مثل قطارات الرفع المغناطيسي (ماج-ليف) إلى جانب إمكانية صناعة قطع هندسية منعدمة الاحتكاك، وهذا وحده يُعَدُّ ثورة في كل أشكال الهندسة من السيارات إلى البترول.

إضافة إلى ذلك، يمكن للمغناطيسات فائقة التوصيل أن تولد مجالات مغناطيسية أقوى بكثير مقارنة بالمغناطيسات التقليدية. تجد هذه المجالات المغناطيسية القوية تطبيقات في مختلف المجالات مثل التصوير الطبي (MRI) ومسرعات الجسيمات ومفاعلات الاندماج النووي، والأهم من ذلك كله أن الأمر سيتم بتكلفة منخفضة مقارنة بالتكلفة الحالية لاستخدام الموصلات الفائقة في التصوير الطبي والقطارات السريعة ومسرعات الجسيمات، التي تتطلب التبريد لدرجات حرارة منخفضة جدا، وبالتبعية تكلفة هائلة.

لا تقف المنافع عند هذا الحد، حيث يمكن للمواد فائقة التوصيل تخزين كميات كبيرة من الطاقة الكهربائية في حالتها فائقة التوصيل وإطلاقها عند الحاجة دون أي خسائر بسبب المقاومة. هذه الخاصية تجعل الموصلية الفائقة مرشحا واعدا لأنظمة تخزين الطاقة المتقدمة، التي ستفيد في كل شيء بداية من السيارات الكهربائية ووصولا إلى السفر للفضاء.

وبالطبع تلعب الموصلية الفائقة دورا حاسما في تطوير أجهزة الحاسوب الكمومية، حيث تتمكن هذه المواد من حمل البتات الكمومية (كيوبت) بفاعلية كبيرة، وهو أمر ضروري لبناء أنظمة حوسبة كمومية موثوقة، وتُعَدُّ الحاسبات الكمومية أمل البشرية المستقبلي الذي سيفتح أبوابا لاستكشافات واعدة في نطاقات متنوعة مثل التشخيصات الطبية وابتكار الأدوية وفهم أصول الكون.

لهذه الأسباب مجتمعة، حصلت الإنجازات في هذا النطاق على ثماني(9) جوائز نوبل حتى الآن، بدأت عام 1913، حينما حصل الهولندي هايك كامرلينغ أونس على جائزة نوبل في الفيزياء نظير أبحاثه حول خواص المواد عند درجات الحرارة المنخفضة، التي أدت فيما بعد إلى إنتاج الهيليوم السائل، ومن ثم الموصلية الفائقة، وآخرها في 2003 حينما حصل عليها أليكسيي أليكسييفتش أبريكوسوف وفيتالي غينزبورغ وأنطوني ليجت لإسهاماتهم الرائدة في نظرية التوصيل الفائق والسوائل الفائقة.

لو صحّت هذه الادعاءات الخاصة بالباحثين الكوريين الجنوبيين، فلسنا فقط أمام جائزة نوبل إضافية لهذا النطاق، بل حقا كما قال هؤلاء الباحثون، سيكون ما حصل حدثا تاريخيا يفتح حقبة جديدة للبشرية!

____________________________________

مصادر

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply