في عام 2019، أظهر استطلاع للرأي أن الأطفال في بريطانيا يطمحون أن يصبحوا في المستقبل من مؤثري مواقع التواصل الاجتماعي، ويفضّلون هذه الأمنية على أن يصبحوا رواد فضاء. هل تتذكر كم الصور والأفكار والخيالات التي كانت تقفز أمام عينيك عندما تسمع كلمة “رائد فضاء” عندما كنت طفلا؟ يبدو أن الأمر لم يعد بهذه الإثارة، فأطفال هذه الأيام يُفضلون الجلوس في غرفهم وفتح الكاميرا أكثر من تخطي حدود السماء ومعاينة النجوم والكواكب (1).

صناعة بمليارات الدولارات

بشكل أساسي، يبيع لك المؤثرون على مواقع التواصل أو مَن يُطلق عليهم الـ”إنفلونسرز (Influencers)” حياتهم الخاصة، يعرضون عليك تحولاتهم وكيف أصبحوا في وضع أفضل، ويُشاركونك في إعداد واختيار أثاث منازلهم الجديدة الفارهة، ويطلبون رأيك في اختيار لون دهان لحائط أو مكان لقطعة أثاث، وفي غضون ذلك تتحول أنت إلى رقم من بين مئات الآلاف وربما ملايين المشاهدات التي تدرّ عليهم الأرباح.

بإمكانهم التأثير على القرارات الشرائية للمستخدمين أكثر من أي وسيلة دعائية أخرى بسبب ثقة الناس في نصائحهم وترشيحاتهم. (شترستوك)

في عام 2021، قُدرت قيمة سوق المؤثرين العالميين نحو 14.2 مليار دولار (11.2 مليار جنيه إسترليني) وفق “بي بي سي”، قبل أن ترتفع القيمة إلى 16.4 مليار دولار (حوالي 12.9 مليار جنيه إسترليني) عام 2022. في غضون ذلك، تبلغ قيمة العلامة التجارية لبعض المؤثرين العالميين مثل “Zoella” و”Deliciously Ella” حوالي 4.7 ملايين جنيه إسترليني (6 ملايين دولار) و2.5 مليون جنيه إسترليني (3.2 ملايين دولار)، على الترتيب (2)(3).

يرجع هذا الارتفاع الكبير في حجم سوق المؤثرين إلى تنافس العلامات التجارية على التعاون معهم أكثر من أي وقت مضى، حيث يمكن للشراكات مع منشئي المحتوى المعروفين أن تفتح الباب للشركات للوصول إلى جماهير كبيرة محتملة، والأهم من ذلك أن بإمكانهم التأثير على القرارات الشرائية للمستخدمين أكثر من أي وسيلة دعائية أخرى بسبب ثقة الناس في نصائحهم وترشيحاتهم (4).

ما تحت السطح اللامع!

المشكلة أن الأمر بالنسبة إليك (وبالنسبة إلى معظم الناس على الأغلب) لا يقف عند حدود المشاهدة، فسرعان ما ستتداعب خيالك أحلام الثراء السهل التي تشاهدها يوميا أمام ناظريك، ربما تُحدّثك نفسك أن كل ما عليك فعله هو فتح كاميرا هاتفك والتحدث، وكل شيء بعدها سيحدث من تلقاء نفسه، لكن الأمور لا تسير على هذا النمط إلا في الخيال.

غالبا ما يظهر المؤثرون لمتابعيهم باعتبارهم نماذج يحتذى بها، يروجون لأنماط حياة مثالية خالية من المشكلات، وهو ما يضع عليهم ضغوطا للحفاظ على هذه الصورة المثالية. (شترستوك)

يبدأ الأمر عادة بتمرد داخلي على حياتك الحالية ووظيفتك، تحدثك نفسك أنك سوف تحظى بحياة أفضل وتتخلص من مديرك إلى الأبد، وتتخلى عن وظيفتك المرهقة التي لا يكاد يكفي دخلها لتلبية متطلباتك، لكن بعد أن تبدأ في فتح الكاميرا، سرعان ما تكتشف أن المحتوى الذي تُقدّمه غير قادر على جذب الملايين من المشاهدين كما توقعت، وهنا تبدأ مسيرة الانحدار.

تفتح بيتك وغرفك للكاميرا أكثر فأكثر، وربما تبدأ في مشاركة تفاصيل خاصة، وإن لم يكن ذلك كافيا، فسوف تبدأ في إشراك أفراد من عائلتك أو أصدقائك. الأمور لا تتحسن أيضا، لا بد من محتوى مثير أو فكاهي يحقق المزيد من المشاهدات والإعجابات، ربما تلجأ هنا إلى “المقالب” المزيفة، أو اختلاق الأزمات والمشكلات الحياتية التي لا تُخفق عادة في لفت الانتباه وجذب الاهتمام.

مع الوقت، يزداد الأمر سوءا، ويصبح كل ما يشغل بالك وتفكيرك هو كيفية جذب الأنظار. لم يعد هناك عمل يشغلك سوى عرض كل لحظة من حياتك من أجل المشاهدة، والمشكلة في معظم الأحيان أن ذلك لن يكون كافيا أيضا. في غضون ذلك، سوف تبدأ في جني “الثمار المظلمة” للحضور المتزايد على مواقع التواصل، وأبرزها التنمر الإلكتروني والرسائل المسيئة وانتهاك خصوصية عائلتك (5).

المرحلة التالية هي أن صحتك العقلية والنفسية سوف تبدأ في التدهور، وللمفارقة فإن هذا الأمر يحدث حتى للمؤثرين الناجحين، فوفقا للدكتور “روبرت ت. مولر”، عضو هيئة التدريس في جامعة ماساتشوستس سابقا، والذي يعمل في جامعة يورك في تورنتو حاليا، فإن الوجود في دائرة الضوء يأتي مع العديد من التحديات الشخصية، وبمجرد أن يتمكن المؤثر من جذب عدد كبير من المتابعين، يبدأ في الشعور بالقيود وعدم الحرية فيما يتعلق بما يمكنه نشره.

كل ما ينشره المؤثرون مُصمَّم ليبدو مثاليا ويدعم الصورة الإيجابية والحياة السعيدة التي تجذب الأعين وتجعل المتابعين يستمرون في المتابعة. (شترستوك)

غالبا ما يظهر المؤثرون لمتابعيهم باعتبارهم نماذج يحتذى بها، يروجون لأنماط حياة مثالية خالية من المشكلات، وهو ما يضع عليهم ضغوطا للحفاظ على هذه الصورة المثالية (6). قد يبدو للمشاهد أن المؤثرين أحرار تماما في اختيار ما يشاركونه مع متابعيهم، لكن، واقعيا، هذا لا يحدث، فكل ما ينشره المؤثرون مُصمَّم ليبدو مثاليا ويدعم الصورة الإيجابية والحياة السعيدة التي تجذب الأعين وتجعل المتابعين يستمرون في المتابعة.

هذا يحول المؤثر في معظم الأحيان إلى شخص أشبه بالمهرج، لكنه مهرج بدوام كامل، وظيفته على مدار الساعة هي الحفاظ على الصورة المثالية. يستعرض معك المؤثر بيته الجديد وسيارته، لكنه لا يشعر بمتعة حقيقية في كل هذا، لأنه أشبه بعرض مسرحي مستمر. المشكلة التالية هي أن المؤثرين يبدؤون بعد ذلك في التنافس مع بعضهم بعضا على إبهار المشاهدين وجذب التعليقات الإيجابية، وهو ما يوقعهم أسرى التداعيات السلبية لـ”مقارنات الأقران”، التي تشمل انخفاض الرضا عن المظهر والذات، والمزاج السلبي المستمر، وانعدام الشعور بالأمن، ناهيك بالقلق والتوتر المستمرين (6).

سوف تخبر نفسك الآن أن بإمكانك تحمل كل هذه الأمور إن كنت ستحصل في المقابل على منزل فاخر وسيارة فارهة ورصيد بنكي متخم، لذا دعنا نخبرك بالحقيقة الأخيرة وهي أن الغالبية العظمى من العاملين في الصناعة لا يحققون أحلامهم بالثراء الفاحش، وربما لا يحققون الدخل الكافي من الأصل. في تقرير صدر في أبريل/نيسان 2022، حددت اللجنة الرقمية والثقافية والإعلامية والرياضية في البرلمان البريطاني (DCMS) التفاوت في الأجور باعتباره مشكلة رئيسية في صناعة المؤثرين (7).

البحث عن رضا المتابعين

(شترستوك)

دعونا الآن نفرد مساحة أكبر لمخاطر العمل في وظيفة تعتمد بالأساس على عرض حياتك أمام الناس (8). ربما أصبح التنمر الإلكتروني مشكلة شائعة في العصر الرقمي، لكن المؤثرين يتحملون جرعة مضاعفة منه بسبب اختيار مشاركة حياتهم بشكل علني. تطرَّق استطلاع رأي أُجري على المؤثرين في عام 2018 إلى موضوع التنمر والمضايقة على موقع تبادل الصور والمقاطع المُصوّرة إنستغرام، وكانت نتائجه كاشفة للغاية.

من بين 750 مشاركا، يعتقد 68% أن التنمر والتحرش على المنصة يمثل مشكلة حقيقية، وأفاد 25% أنهم تعرضوا للتنمر أو المضايقة بشكل مباشر. أفاد المؤثرون المشاركون أيضا بأنهم تعرضوا للنقد على الكثير من الأشياء، بدءا من الأشياء السطحية، ووصولا إلى الأشياء الشخصية للغاية مثل الصفات الجسدية وحتى المعتقدات الدينية. وجد الاستطلاع أيضا أن المضايقات قد تمتد إلى عائلات المؤثرين في كثير من الأحيان (9).

يؤدي هذا التعرض المستمر للتنمر إلى الكثير من الأعراض السلبية التي تبدأ من القلق والوحدة ولا تنتهي بالاكتئاب. في بعض الحالات يمكن أن يُصاب الشخص الذي يتعرض للتنمر باضطراب الإجهاد الحاد أو اضطراب ما بعد الصدمة، ناهيك بمشكلات النوم وصعوبات التركيز، وقد يصل الأمر في حالاته الأكثر تطرفا إلى كراهية الذات وتعاطي المخدرات أو الكحول ومكابدة الأفكار الانتحارية (10).

___________________________________________

المصادر:

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply