بعد الإفطار، ربما وأنت تتابع برنامجك المفضل، هناك مَن يأتي إليك بطبق من “الكنافة”، انتهى البرنامج ونفد ما في الطبق، وبينما تغادر الغرفة تفكر للحظات: كم قطعة تناولت؟ ماذا أكلت إلى جانب الكنافة؟ لكنك لا تذكر على وجه التحديد وتشعر بالرغبة في البحث عن شيء تأكله أيضا، الدائرة لن تُغلَق إلا بحلول موعد أذان الفجر، وهذه هي آفة الأكل دون انتباه التي لا يجدي معها أي نظام غذائي.

 

يمتد هذا الأمر إلى كل سلوكياتنا الغذائية تقريبا، على سبيل المثال: غالبا ما يلتهم أحدنا حفنة من الزبيب مرة واحدة، لكن ماذا لو أمسكت بحبة واحدة بين يديك، تأملت لونها والتفاف ثناياها وملمسها قبل أن تضعها في فمك لتمضغها ببطء، وتستشعر مذاقها وانسياب سكرها؟ هذا ما نعنيه بالانتباه أو اليقظة، أن يكتمل حضورك في اللحظة الحالية، فتميز كل المدخلات التي تغمر حواسك، ماذا لو مارست اليقظة عند تناولك لطبق الغداء، ففكرت في شكل الطعام وألوانه ومذاقه ورائحته، قوامه وطعمه في فمك، وما يثيره لديك من ذكريات، وشعورك بينما تختبر كل هذا؟

 

حسنا، يجعلك هذا أكثر وعيا بما يدخل جسمك من طعام، وسيكون لديك ولو لحظات قليلة لتتذكر ما إذا كنت حقا في حاجة إلى تناوله، قد تتذكر مثلا أن تكتفي بقطعة واحدة من الشوكولاتة لأن وزنك ازداد في الفترة الأخيرة، أو تتوقف عن احتساء المزيد من القهوة لأن نومك ليس على ما يرام، هذا هو أسلوب الأكل الواعي الذي يفضله كثيرون على كل الأنظمة الغذائية ويرون أن فائدته تمتد من الجسم إلى العقل والروح.

 

درب دماغك

الأكل الواعي تحديدا هو أن تدرك ما تحتاج إليه حقا بحيث تقرر بهدوء تناوُل ما تحتاج إليه وتدع بالهدوء ذاته ما لا يحتاج جسمك إليه في اللحظة الحالية دون إغراءات. (شترستوك)

يعني الأكل الواعي (أو اليقظ) بشكل عام الانتباه إلى طعامنا وعيش التجربة الحسية لتناوله بشكل كامل، إنه ملاحظة ما تأكله والوعي به دون إصدار أي حكم، بعيدا عن اختيار مقدار السعرات الحرارية أو نسب الكربوهيدرات والدهون، المفاجأة أن هذا السلوك البسيط يؤثر في التجربة بكاملها ومن ثَم في النتائج، فبعد أن تجد نفسك واعيا بما تأكله، سواء الأصناف أو الكميات، فإن قراراتك تبدأ في التغير شيئا فشيئا.(1)

 

تلعب أنظمة الدماغ المختلفة دورا كبيرا في تحديد النجاح أو الفشل في اتباع نظام غذائي والحفاظ عليه على المدى الطويل، وتُعلِّمنا طريقة الأكل الواعي كيف نُعمِل عقولنا لنميز بين الجوع الجسدي والعاطفي، وكيف نعي جيدا أن بعض المقرمشات، التي نلتهمها دون أن يكون لدينا شعور بالجوع، ليست سوى سعرات حرارية فارغة لا تمنح أجسامنا سوى بعض الكيلوجرامات الإضافية لا يكون التخلص منها سهلا لاحقا، فنتوقف في اللحظة المناسبة.(2)

 

يرتبط تناول الأطعمة غير الصحية غالبا بالاندفاع، في كثير من الأحيان نلجأ إلى هذه الأطعمة ليسكن “انزعاجنا العاطفي”، ولهذا يكون الإجهاد والمشاعر السلبية والقلق أكثر ما يزيد رغبتنا في تناول هذه الأطعمة، ودور الأكل الواعي تحديدا هو أن تدرك ما تحتاج إليه حقا بحيث تقرر بهدوء تناوُل ما تحتاج إليه وتدع بالهدوء ذاته ما لا يحتاج جسمك إليه في اللحظة الحالية دون إغراءات، ليس الغرض هنا إنقاص الوزن، لكنه في الحقيقة طريق ممهد نحو ذلك بالفعل، ونحو فوائد كثيرة أخرى، لكن دعنا نعرف أولا ماذا يحدث حين نتناول طعامنا بسرعة دون تركيز.(3)(4)

 

في غياب الانتباه

حسنا، من المؤكد أن التعرض لكثير من عوامل التشتت حولنا يُفقِدنا الوعي بالتجارب والإشارات التي ترسلها لنا أجسامنا، حين تأكل بسرعة فإن إشارة الشعور بالشبع تصل بعد أن تتجاوز مرحلة الشبع، وتكون قد تناولت الكثير، ونتيجة لذلك غالبا ما تفشل حمياتنا الغذائية التي تهدف إلى إنقاص الوزن، إذ بمرور الوقت يحدث أن تتسلل عناصر أخرى من الأغذية غير الضرورية، من ثغرة واحدة، هي عدم الانتباه إلى ما نأكله.(5)

 

عادة ما نتناول الطعام بسرعة بينما نحن منهمكون في متابعة شيء ما، ربما رسائل الهاتف أو إشعارات الفيسبوك، إذا ما حاولت تذكُّر ما تناولته في الساعات الماضية فربما لن تذكر، وهذا هو الطريق المختصر إلى السمنة، فقدانك الاستمتاع بالطعام نتيجة فقدان التركيز فيما تفعله يحرمك الشعور بالرضا والشبع، ومن ثَم تشعر بالرغبة في الاستمرار في تناول الطعام ريثما تشعر بالرضا.(6)

 

قطع الحلوى التي تتسلل في أثناء مشاهدتنا التلفاز وتفلت من الذاكرة فتضيف فقط سعرات حرارية دون أي شعور بالشبع، هذا ما تؤكده دراسة نشرتها مجلة “بلوس وان (PLOS ONE)”، عام 2012، تشير إلى أن درجة الجوع التي نشعر بها تتحدد -في جزء منها- وفق الذاكرة والوعي، وليس فقط بمقدار ما تناولناه فعليا من طعام، أجرى الباحثون تجربة على عدد من المتطوعين، فأخبروا مجموعة منهم أنهم سيتناولون طبقا من الحساء يحمل 300 ملم، فيما ستتناول المجموعة الأخرى 500 ملم.

 

عند تناول الحساء مُلِئت الأطباق بكميات مغايرة دون أن يعرف المشاركون، وبعد ساعتين من تناول الحساء كان بعض المشاركين الذين اعتقدوا أنهم تناولوا فقط 300 ملم، يعلنون شعورهم بالجوع، بينما كان لدى الآخرين -الذين تصوروا أن أطباقهم امتلأت بكمية أكبر- شعور أقل بالجوع، لقد تأثر شعور المشاركين بما أُخبِروا به، وليس بما تناولوه بالفعل، وأمكن التلاعب بهم من خلال الذاكرة والوعي.(7)

 

إعادة النظر للطعام

المضغ الجيد وتذوق الطعام بتمهل يبطئ وتيرة تناول الوجبة ويسهم في إطلاق إنزيمات الأمعاء التي تساعد على الهضم.
المضغ الجيد وتذوق الطعام بتمهل يبطئ وتيرة تناول الوجبة ويسهم في إطلاق إنزيمات الأمعاء التي تساعد على الهضم. (شترستوك)

لا تقتصر فوائد الأمر على تقليل كميات الطعام التي نتناولها وبالتبعية إنقاص الوزن، حيث يعزز الأكل الواعي أو اليقظ شعورك بالمتعة، ويعيد إليك شعور التجربة الأولى لتذوق طعامك المفضل، كما يمنحك الشعور بالرضا بعد تناول أجزاء أصغر، هكذا نحصل على إشباع أكبر بكميات أقل، وتفرز أجسامنا هرمون الدوبامين الذي يساعد في الحد من التوتر.

 

كما أنه يحسن علاقتك بالطعام، لن يعاودك ذلك الشعور بالذنب الذي يعقب إقبالك على تناول طعامك المفضل، وكما ذكرنا سابقا لا يتعلق الأكل الواعي بفرض قواعد بتناول طعام ما، فقط ستكون أمامك فرصة قبل البدء بالتفكير قليلا فيما تحتاج إليه بالفعل، كما أنك لن تلتهم الطعام، ستتناوله ببطء يسمح لك بمزيد من التفكير كما يسمح لعقلك باستقبال إشارات الشبع، هكذا دون كثير جهد تجد أنك تناولت فقط نصف -أو ربما أقل- ما اعتدت تناوله، أنت هنا الممسك بزمام الأمور وليس الطعام، وهذا الشعور بالسيطرة يزيد الثقة بالنفس والرضا عن الجسم.(8)

 

الوقت الذي يمنحه لك الأكل الواعي يتيح لك معرفة المحفزات والتفكير في الاستجابة المناسبة، تشير دراسة نشرتها مجلة “جورنال أوف إديوكيشن نيوتريشن آند بيهافيور (Journal of Nutrition Education and Behavior)”، عام 2011، إلى أن اتباع الأكل الواعي وتعلُّم إستراتيجيات تغيير السلوك في تناول الطعام يؤدي لفقدان الوزن، وتقليل تناول الدهون وتناول سعرات حرارية أقل بشكل عام، وقد لاحظ الباحثون هذه النتائج على مجموعة من النساء اتبعن أسلوب الأكل الواعي عند تناول الطعام خارج المنزل وخسرن بالفعل عددا من الكيلوجرامات.(9)

 

كما يفيد الانتباه إلى ما نأكله في تحسين صحة الأمعاء، المضغ الجيد وتذوق الطعام بتمهل يبطئ وتيرة تناول الوجبة ويسهم في إطلاق إنزيمات الأمعاء التي تساعد على الهضم، ووفق دراسة نشرتها مجلة “جورنال أوف كرونز آند كوليتيس (Journal of Crohn’s and Colitis)”، عام 2014، يقلل الأكل اليقظ من الأعراض التي يعانيها مرضى التهاب الأمعاء، كما كشفت دراسة أخرى نشرتها مجلة “جورنال أوف ذا أكاديمي نيوتريشن آند دايتيتيكس (journal of the Academy of Nutrition and Dietetics)”، عام 2012، أن الأكل اليقظ يسهم في تخفيف أعراض مرضى السكري من النوع الثاني، إذ يساعدهم على التحكم في جودة النظام الغذائي، ما يؤدي لفقدان الوزن ويخفض نسبة ارتفاع السكر في الدم.(10)(11)

 

كيف تمارس الأكل الواعي؟

ينصحك الخبراء بوضع الطعام الصحي في المتناول ليكون الخيار الأول، وإبعاد الطعام غير الصحي عن نظرك، لزيادة فرص إعادة النظر في تناوله.
ينصح الخبراء بوضع الطعام الصحي في المتناول ليكون الخيار الأول، وإبعاد الطعام غير الصحي عن نظرك، لزيادة فرص إعادة النظر في تناوله. (شترستوك)

لكي يمكنك ممارسة اليقظة عند تناول الطعام ينصحك الخبراء بأن تفكر في مواعيد الوجبات، أعد المائدة حين تكون في بداية شهيتك، لا تنتظر للحظات الجوع الشديد لأن تركيزك حينها سيكون منصبّا على ملء معدتك بدلا من الاستمتاع بالطعام، وقبل البدء تخلَّ عن أسباب التشتت حولك، أبعِد الهاتف وأطفئ أجهزة التلفاز أو الكمبيوتر وتناول طعامك في هدوء.(12)

 

وخصِّص وقتا كافيا لتناول الطعام بتأنٍّ، عشرون دقيقة مثلا تسمح لك بمضغ الطعام ببطء، ضع الشوكة أو الملعقة بجانب الطبق عقب كل مرة تستخدمها، امضغ كل قضمة 30 مرة، ستفاجئك النكهات المختلفة الموجودة في طعامك، وسيكون لديك فرصة للتفكير فيما إذا كنت بحاجة إلى الإمساك بالشوكة مرة أخرى أم لا.(13)

 

وبشكل عام ينصح الخبراء بعدم ربط عادات بعينها بتناول الطعام، لا داعي لتناول الطعام في أثناء مشاهدة التلفاز مثلا، حدِّد العادات التي يدخل فيها الطعام وحاوِل كسرها، وعندما ترغب في تناول الطعام في بعض الأوقات على غير العادة، تعرَّف حقيقة شعورك، هل هو الملل، أم شيء من الإرهاق، أم الحزن؟ عند إدراك أن الأمر يعود لمشاعر سيئة سيكون الأجدى هو البحث عن بدائل أخرى، مثل بعض الاسترخاء أو الاستماع إلى الموسيقى.

 

كما ينصحك الخبراء بوضع الطعام الصحي في المتناول ليكون الخيار الأول، وإبعاد الطعام غير الصحي عن نظرك، لزيادة فرص إعادة النظر في تناوله، وأخيرا ضع كميات قليلة في صحنك لتستمتع بمذاقها وكي تترك فرصة للدماغ للتحقق من الشبع، وتذكَّر أن تناول الطعام بهذه الطريقة يدمج، إلى جانب الفوائد الصحية، فوائد تمارين اليقظة الذهنية، التي تخلق لحظات هدوء تقلل التوتر والقلق، وتدعم النوم بعمق وتفيد الصحة الجسدية والعقلية.(14)

————————————————————————-

المصادر:

  1. Mindful Eating — Studies Show This Concept Can Help Clients Lose Weight and Better Manage Chronic Disease
  2. Prefronto-cerebellar neuromodulation affects appetite in obesity
  3. Alimentación consciente, cómo entrenar al cerebro para seguir bien una dieta
  4. Prefronto-cerebellar neuromodulation affects appetite in obesity
  5. Mindful Eating 101 — A Beginner’s Guide
  6. Slow down—and try mindful eating
  7. Episodic Memory and Appetite Regulation in Humans
  8. What are the benefits of mindful eating? 
  9. The effect of a mindful restaurant eating intervention on weight management in women
  10. Mindfulness-based therapy for inflammatory bowel disease patients with functional abdominal symptoms or high perceived stress levels 
  11. Comparative Effectiveness of a Mindful Eating Intervention to a Diabetes Self-Management Intervention among Adults with Type 2 Diabetes: A Pilot Study
  12. Overeating? Mindfulness exercises may help
  13. Slow down—and try mindful eating
  14. Alimentación consciente, cómo entrenar al cerebro para seguir bien una dieta

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply