لم يكن الإبعاد وسيلة الاحتلال الوحيدة لعقاب النساء الفلسطينيات، فقد اعتقلت مئات منهن تزامنا مع عمليات الإبعاد، وسجَّل نادي الأسير الفلسطيني 16 ألف حالة اعتقال للمرأة الفلسطينية منذ عام 1967.

نابلس – كان الهدف إفراغ الضفة الغربية وقطاع غزة من قياداتها المؤثرة، فالنضال الفلسطيني عقب نكسة حزيران عام 1967 واحتلال إسرائيل للمكانين اشتد عوده وصار يلملم نفسه للتصدي لمشروع الاحتلال التهويدي، وبرزت المرأة الفلسطينية كأحد أركان هذا النضال المهمة، فكان القمع الإسرائيلي على أشدّه، وكان “الإبعاد” أول أشكاله وأكثرها صلفا.

وفي يوم المرأة العالمي 8 مارس/آذار نستذكر عصام وفيحاء وهدى عبد الهادي، ريما نزَّال ونوال التيتي وزليخة الشهابي وسحاب شاهين وعائشة عودة وعشرات غيرهن، أسماء لمعت أواخر ستينيات القرن الماضي ولا يزال صيتهن حاضرا إلى اليوم، كيف لا؟ وهن من أول من عاقبتهن إسرائيل بالإبعاد خارج الوطن، في نهج لم يكن مستهجنا آنذاك فحسب، بل كان “جريمة” دلّت على حجم الفعل الذي خاضته تلك السيدات وقابلته إسرائيل بهذا الردع.

ريما نزال أبعدها الاحتلال 27 عاما وعادت عام 1996 لحضور جلسة المجلس الوطني (الجزيرة)

ذاكرة فلسطينية خالدة

وبما تخلده ذاكرتهن عدنا بالسيدتين هدى عبد الهادي (86 عاما) وريما نزَّال (71 عاما) ليحكين لنا قصة “عام المبعدات” (بين 1968 و1969)، حين أبعدت إسرائيل ما لا يقل عن 30 امرأة حينئذ، وهو ما دل على النشاط النسائي الذي برز إلى جانب الرجل في النضال الفلسطيني بكل أنواعه ضد مشروع الاحتلال الاستعماري.

وكانت أصغر المبعدات سنا (18 عاما حينئذ) حين اعتقلت ريما نزّال مرتين، كانت أول مرة عام 1968 واستمر اعتقالها ساعات مكثتها داخل أقبية التحقيق، ثم ما لبثت في عام 1967 حتى اعتقلت خلال سفرها عبر الحدود الفلسطينية الأردنية (جسر الملك حسين) واتهمت بحيازة “بيانات سياسية لمنظمات فلسطينية” ثم وضعت رهن الإقامة الجبرية شهرين قبل أن يُجدّد إبعادها.

وتقول نزَّال للجزيرة نت عن تلك الفترة إن مجرد العمل السياسي كان تحظره إسرائيل آنذاك، ورغم ذلك ظهرت المرأة بكامل عنفوانها وشاركت سياسيا واجتماعيا وحتى عسكريا في المقاومة، “كشادية أبو غزالة التي كانت أول شهيدة فلسطينية حينئذ بعدما انفجرت بها عبوة كانت تحضرها لعمل عسكري ضد الاحتلال”.

الشهيدتان لينا النابلسي (يمين) وشادية أبو غزالة (مواقع التواصل)

موجات إبعاد

وشهدت الضفة الغربية “موجات إبعاد” كما تسميها نزَّال منذ لحظة احتلالها حتى الآن، بشكل فردي وجماعي، لكن موجة الإبعاد في أواخر الستينيات حتى مطلع الانتفاضة الأولى عام 1987 تميزت بكثرة أعدادها وتتابعها بشكل سنوي تقريبا، فقد أبعد أكثر من 1500 فلسطيني بينهم 100 امرأة، “30 منهن أبعدن أواخر الستينيات ومعظمهن من مدينة نابلس” كما تقول نزّال.

وعلى الرغم من عدم ظهور العمل التنظيمي في الأراضي المحتلة آنذاك فإن الحراك الثوري نشط بقوة وشهد حالة نهوض عارمة في مختلف الصفوف والقطاعات، وهو ما صعَّد عمليات الاعتقال والإبعاد معا.

وتنقلت نزَّال خلال اعتقالها بين سجني نابلس وطولكرم، فرسَّخت تلك التجربة فكرة المقاومة لديها في الأردن الذي كان محطة المبعدين، فأكملت دراستها الجامعية وسهَّل نشاطها بالضفة انخراطها رسميا في تنظيم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الأردن، وعزَّزت ذلك بزواجها بالقيادي في الجبهة خالد نزَّال الذي اغتالته إسرائيل عام 1986 في اليونان.

وعن هذه المحطة تقول نزَّال التي تعيش وتعمل في مدينة رام الله إن تلك الحقبة (الستينيات) شهدت نهوضا كبيرا للحركات النسوية لا سيما مع تشكل تنظيمات وفصائل العمل الوطني، حيث ظلت شعلة النضال متقدة في الداخل الفلسطيني وفي المنفى، ولم يعد تزعّم الثورات مقتصرا على القبائل والعشائر، بل برز قادة من كل الأطياف في المدن والقرى والمخيمات.

وهنا تصاعدت وتيرة الإبعاد الإسرائيلي بفعل النشاط الثوري والجماهيري عبر المظاهرات بخاصة داخل فلسطين المحتلة، فاستهدف الاحتلال نخبة المجتمع ذكورا وإناثا من معلمين وقيادات نقابية وأطباء وصحفيين وكتاب وسياسيين وثوريين.

ولعلَّ أكثر ما خفف من حدة الإبعاد حينئذ إحجام الأردن عن استقبال المبعدين، وكانت خطوة جيدة، فلجأ الاحتلال إلى الإبعاد عبر “وادي عربة”.

هدى عبد الهادي من أوائل المبعدات وأول العائدات واستمرت كغيرها في نشاطها المقاوم حتى بعد العودة (الجزيرة)

المبعدة سرا.. وأول العائدات

ومن بين المبعدات بفعل نشاطهن الثوري هدى عبد الهادي (أم عزات) التي كانت تشغل منصب مديرة مدرسة وكالة الغوث الإعدادية بمدينة نابلس وقتئذ، وكانت من أوائل المبعدات وأول العائدات، ولذلك قصة معاناة روتها عبد الهادي للجزيرة نت خلال زيارتها بمنزلها بمدينة نابلس.

ففي أواخر نوفمبر/تشرين الثاني عام 1968 وقبيل منتصف إحدى ليالي شهر رمضان دهم جنود الاحتلال منزل هدى واقتادوها بعدما طلبوا منها إحضار “فرشاة أسنانها وجواز السفر” إلى سجن نابلس (المقاطعة حاليا)، وأطفالها الخمسة نيام بفرشهم وزوجها خارج المنزل، وفي الصباح اقتادوها إلى جسر الملك حسين وأخبروها أنها “مبعدة”.

وتقول هدى عبد الهادي إن 6 معلمين من مدينة جنين أُبعدوا معها، وسيدة أخرى سمعت صوتها خلال دخولها إلى مرحاض الجسر عند الحدود، كانت نوال التيتي مدير مدرسة العائشية للإناث، وتضيف “وكل ذلك ولم يكن أبنائي وزوجي يعرفون أين أنا، حتى سمعوا الخبر عبر إحدى المحطات الإذاعية”.

واتهم الاحتلال عبد الهادي بالتحريض وتنظيم المسيرات وتدريس “القضية الفلسطينية” وهو مقرر في المنهاج الفلسطيني حظرته إسرائيل كما غيره عقب احتلالها للضفة.

ورغم حالة “الاكتئاب” التي عاشتها بعد الإبعاد فإنها لم تستسلم، وواصلت نضالها في عمَّان، لا سيما بعد شغلها منصب مديرة لإحدى مدارس وكالة الغوث هناك ولحاق زوجها وعائلتها بها.

كما كان لاختيارها عضوة في المجلس الوطني الفلسطيني وانتخابها بالاتحاد العام للمعلمين الفلسطينيين في الأردن كالسيدة الأولى والوحيدة فيه دور في مواصلة نضالها، فمثلت فلسطين بزيارات للقاهرة وتعرَّفت عن قرب على معسكرات تدريب الفدائيين في الأردن ولبنان، “وعشت تماسا عن قرب بالمقاومة، وعدت وقد ازدادت ثقتي بنفسي قوية ووطنية أكبر” كما تقول عبد الهادي.

وفي مطلع عام 1972 عادت هدى عبد الهادي بعد 4 سنوات من إبعادها مع صديقتها نوال التيتي، وكانت عودتها بعد ضغوط كبيرة بذلت على مستويات دولية تمثلت بالمدير العام لوكالة الغوث في بيروت، ومن الحاج معزوز المصري رئيس بلدية نابلس حينئذ، ومن شخصيات وطنية كثيرة، ومؤسسات نسوية كانت عبد الهادي عضوة فيها كجمعية الاتحاد النسائية.

وقضت جُلّ المبعدات ربع قرن أو يزيد خارج وطنهن، وبعضهن مثل ريما نزّال عادت بعد 27 عاما تحت إطار الدعوة لانعقاد المجلس الوطني الفلسطيني عام 1996.

نساء فلسطينيات يتظاهرن في نابلس في يوم الأسير الفلسطيني (الجزيرة)

لم تنطفئ جذوة النضال

وعلى الرغم من حالة السكون التي أصابت بعض النسوة بعد عودتهن فإن نزّال وعبد الهادي والتيتي تميزن وأخريات بعملهن المشترك في منفاهن، وواصلن بعد العودة نضالهن رغم كل محاذير الاحتلال واعتداءاته، فانضمت ريما إلى اتحاد المرأة الفلسطينية وشاركت ولا تزال في معظم الحراكات والفعاليات الوطنية.

أما هدى فآثرت العمل الثوري بعيدا عن الحزب السياسي، ولم تستسلم لعقاب الاحتلال سواء بملاحقة أبنائها واعتقالهم أو بنقلها إلى المدرسة الابتدائية بمخيم بلاطة التي وجدت فيها أرضية خصبة لزرع بذور النضال، فأنشأت مركز “النشاط النسائي” ومركزي بلاطة والمنهل الثقافيين محاولة إعادة النضال الوطني إلى الطليعة، “ولم أستسلم لضغوط الاحتلال اليومية باحتجازي ساعات في مقر المقاطعة وعلى مدار شهرين” كما تضيف عبد الهادي.

ولم يكن الإبعاد وسيلة الاحتلال الوحيدة لعقاب النساء الفلسطينيات، فقد اعتقلت مئات منهن تزامنا مع عمليات الإبعاد، وسجَّل نادي الأسير الفلسطيني -وفق بيان له وصل إلى الجزيرة نت- 16 ألف حالة اعتقال للمرأة الفلسطينية منذ عام 1967.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply