بات مشوار وداع الأهالي بالمحطات والمعابر عنوانا يوميا لعشرات الآلاف من الرجال، بما فيه من صعوبات وهموم جمة. وهذا الأمر يشمل الأوكرانيين وغيرهم ممن يعيشون مستقرين بهذا البلد ويعتبرونه وطنا لهم.

كييف – شيئا فشيئا، تتحول مدن أوكرانية مستهدفة بالقصف الروسي إلى مدن أشباح، فالكل يلتزم بيته أو الملاجئ، والأرصفة، والشوارع خالية على عكس عادتها، إلا من حركة سيارات أمن وإطفاء وإسعاف وجيش.

تستثنى من هذه القاعدة الجديدة محطات القطارات والمعابر الحدودية فقط التي تكتظ بأعداد هائلة من السكان، ووجهة الجميع واحدة: مكان آمن ما.

فمنذ وقت مبكر من أيام الحرب، منع الرجال (بين سن الـ 18 والـ 60) من السفر أو النزوح، فبات مشوار وداع الأهالي في المحطات والمعابر عنوانا يوميا لعشرات الآلاف منهم أو يزيد، بما فيه من صعوبات وهموم جمة، وهذا الأمر يشمل الأوكرانيين وغيرهم ممن يعيشون مستقرين في أوكرانيا، ويعتبرونها وطنا لهم.

موجات من اللاجئين الأوكرانيين على الحدود البولندية (رويترز)

صبرنا حتى آخر رمق

موجات النزوح بدأت مع ساعات الحرب الأولى، لكن كثيرين صبروا وبقوا في منازلهم، متعلقين بآمال وأماني انتهاء سريع للحرب، أو التوصل إلى تفاهمات سياسية معينة، قبل أن يتبدد كل شيء.

شاب عربي من أصول سورية (طلب عدم الكشف عن اسمه) يقول للجزيرة نت “بالنسبة لي، أوكرانيا باتت وطنا وحيدا لا بديلا. بنيت فيها حياتي وكونت فيها أسرتي، ولم أتقبل -حتى آخر لحظة- أن أترك بيتي للمجهول، وأتجه لأبني حياتي وحياة أسرتي من الصفر”.

لحظة تحول الموقف بالنسبة له كانت عمليات القصف العنيف التي تعرضت لها مدن أوكرانية، ويقول “أيقنت أن القصف الذي تعرضت له خاركيف وتشيرنيهيف آت إلى كييف لا محالة، خاصة إذا ما أبدت مقاومة عنيفة، وهنا حسم الأمر. عليّ ترحيل أسرتي سريعا”.

بكاء عند كل منعطف

الطريق إلى محطة القطارات في كييف لم يكن سهلا، فعلى كل الطرق الرئيسية حواجز أمنية تفتش الأوراق وما تحمله المركبات، ناهيك عن إغلاق طرق رئيسية بالكامل، لتطول فترة الوصول ويطول معها التفكير بلحظة الفراق.

يقول الشاب العربي للجزيرة نت “كنت أقود سيارتي وأنا أفكر بأني قد أرى أولادي وزوجتي بجانبي لآخر مرة بعد دقائق، فأنا لا أعرف ما ينتظرهم وينتظرنني، وكنت أتوسل إلى الله أن ينجيهم بمكان آمن”.

أما لحظة الفراق في محطة القطارات بالنسبة له فكانت لا تنسى، ويقول “كنت أعتبر نفسي جسورا صلبا، لكن قواي انهارت أمام الأولاد، فبكيت أكثر منهم، حتى أن دهشتهم طغت على حزن الفراق، وهذا كان حال كثيرين غيري”.

ويتابع “بكيت طوال طريق العودة إلى البيت، وعلى كل الحواجز. عدت وحيدا إلى بيتي وعملي الذي لا أستطيع تركه حتى في هذه الظروف، فأحسست سريعا بمعنى الفراغ، وأن الحياة ومادياتها لا قيمة لها إذا كانت خالية من الأحباب”.

وختم بالقول “كل شيء من حولي يذكرني بهم، وعزائي الوحيد لاحقا كان أنهم تمكنوا من صعود القطار وسط الزحام، والوصول إلى مكان آمن”.

لن أغادر.. سنعمر ما دمّر

في إحدى ضواحي العاصمة يتجول سيرهي أمام بيته جيئة وذهابا، ولا يكاد يتوقف عن التدخين والسرحان ناظرا إلى الأفق البعيد.

يقول للجزيرة نت “حيّنا فارغ، لكنني لن أغادر، سأقاتل حتى بأسناني. وصول الروس إلى هنا يعني تحول البلاد إلى جحيم، واستحالة عودة مع رحلوا”.

ويضيف “آلمني فراق أولادي جدا فبكيت، وأبكي يوميا عندما أنظر إلى القطة التي تركها الأطفال في البيت. أرى فيها ضحكاتهم وأسمع أصوات مداعبتهم لها. ستمر هذه الأيام، وسيعود كل شيء كما كان. الأوكرانيون توحدوا بصورة عجيبة تدعو للفخر. سنعمر ما تم تدميره. هذا أسهل من الاستسلام والتسليم بالواقع”.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply