القدس المحتلة- منذ احتلالها فلسطين، طوّعت السلطات الإسرائيلية الرواية الدينية اليهودية لخدمة أهدافها الاستعمارية، وكان الدين على الدوام ورقتها الرابحة لجذب المستوطنين وربطهم ببقعة ما.

وتظهر هذه السياسة جليّا في حيّ الشيخ جراح بالقدس المحتلة، الذي دقّ الاحتلال فيه “مسمار جحا” من خلال قبر “شمعون الصّديق” الذي يُعد النواة الأساسية للتوسع الاستيطاني شرقي الحيّ.

تحت مستوى الشارع الرئيس على أرض كرم الجاعوني شرقي حي الشيخ جراح، تقع مغارة محفورة في الصخر، مُحكمة الإغلاق والحراسة، وحولها مركبات متوقفة، وتملؤها اللافتات العبرية، ويحظر على غير المستوطنين دخولها. حاولت الجزيرة نت الاقتراب لاستطلاع الموقع، لكن حارس المكان منع ذلك وسط صراخ المستوطنين وتهديدهم.

أقرب نقطة استطاعت الجزيرة نت الوصول إليها، ويظهر مدخل المغارة الحديث الذي بناه المستوطنون (الجزيرة)

واقع المغارة

منذ احتلال شرقي القدس عام 1967، استولى المستوطنون على المغارة واتخذوها كنيسا، وملؤوها بأسفارهم، ونقشوا بالعبرية على معظم جدرانها بعد مدّها بالكهرباء والماء.

وتُظهر صور نشرتها المواقع العبرية للمغارة، اكتظاظها بالرجال والنساء، إلى جانب فقرات مصورة من الصلوات والرقص والعزف، و حفل “تشلاكا” الذي يُقص خلاله شعر الطفل اليهودي حين يبلغ سنواته الثلاث.

من شمعون الصديق؟

تزعم الرواية اليهودية أن القبر يعود لسمعان العادل البار أو شمعون الصديق، وبالإنجليزية تلفظ “سايمون ذا جست” (Simeon the just)، الذي تقول إنه رئيس الكهنة في عهد “الهيكل الثاني” وزمن الإسكندر المقدوني (313 قبل الميلاد)، وتتغنى بأخلاقه وأمثاله المشهورة الواردة في التوراة الشفوية (المشناه)، وتعتبره شخصية يهودية ذات تقوى ومعجزات.

مخطط للمغارة عام 1882 رسمها المؤرخان البريطانيان تشارلز وارن وكلود كوندو ضمن مسوحات القدس (مواقع التواصل)

شُح المراجع

ولكن اللافت أن المغارة لم تُذكر في كتب الرحالة أو المؤرخين المسلمين الأوائل باسم شمعون الصديق أبدا، كما أن ذِكرها في المراجع العربية الحديثة شحيح جدا، بسبب منع علماء الآثار العرب من دراستها. بينما وردت في كتب المستشرقين وعلماء الآثار الأوروبيين أثناء وقبل الاحتلال البريطاني، دون أن تولى اهتماما علميا بحثيا قبل تلك الفترة.

ويقول الباحث في تاريخ القدس إيهاب الجلاد للجزيرة نت إن المستشرقين آنذاك اجتهدوا للبحث عن آثار تثبت العهد القديم، مشيرا إلى أن أفراد طائفة “البروتستانت” من إنجلترا وأميركا اهتموا بعلم الآثار أكثر من الكاثوليك والأرثوذوكس، وذلك لإثبات أن فلسطين هي أرض التوراة والإنجيل.

تواصلت الجزيرة نت مع عدة مؤرخين فلسطينيين، وقد نفوا بدورهم وجود معلومات دقيقة لديهم عن المغارة، وعلل المحاضر الجامعي في التاريخ والآثار مروان أبو خلف ذلك بأن الاهتمام قديما تركز على الآثار داخل سور القدس أكثر من خارجه.

تباين الروايات

يفنّد أبو خلف الرواية الإسرائيلية قائلا إن اليهود ينسبون القبر لشمعون الصديق الذي عاش في زمن الإسكندر الكبير قبل 2400 عام، لكن الثابت أن جميع الآثار والمتعلقات اليونانية في القدس هدمها الرومان، كما أنها تعرّضت للهدم بعدها عدة مرات آخرها في عهد هدريانوس عام 137 للميلاد.

وتواتر لدى علماء الآثار الإسرائيليين لقب “شمعون الصديق” واصفا عدة شخصيات يهودية، ولا إجماع ثابتا حول أيّها يعود للكاهن الأعظم، كما أن هناك روايات متناقضة بخصوص مكان وتاريخ دفن تلك الشخصية، فقد دوّن الرحالة اليهودي بنيامين توديلا في القرن 12 أن قبر شمعون يقع بين طبريا وصفد شمالي فلسطين.

ويضيف الباحث أبو خلف للجزيرة نت “أنا كدارس للآثار، لا يوجد أمامي بقايا أو وثائق أثرية. الصهيونية تكذب الكذبة وتصدقها؛ لأن الاستغلال الديني أقوى من السياسي. لماذا في ثورة البراق عندما جاءت اللجنة البريطانية لم يطالب اليهود بملكية هذا القبر؟ أليس لكبير كهنتهم في عهد الإسكندر الكبير؟”.

صورة عام 1918 وفيها يهود يتجهون لما يزعمون أنه قبر شمعون الصديق عبر شارع نابلس بالشيخ جراح (مكتبة الكونغرس)

نقش روماني داحض

الدحض الأكبر للرواية اليهودية، كان نسبة بعض علماء الآثار تاريخ القبر إلى الفترة الرومانية، أي بعد قرون من ذكر شخصية شمعون الصديق المزعومة. ويروي المستشرق وعالم الآثار الفرنسي تشارلز سيمون كليرمون جانو في كتابه “البحوث الأثرية في فلسطين” الصادر عام 1899، أنه اكتشف في 1871 داخل المغارة نقشا رومانيا منحوتا على شكل مستطيل بنهايات مثلثة، محفورا على الجدار الخلفي لإحدى غرف المغارة أعلى الباب المنخفض على ارتفاع نحو مترين فوق أرضية الغرفة.

يقول كليرمون جانو إن النقش متضرر بشدة، ولم يلاحظ وجوده أو يذكره علماء الآثار الذين سبقوه، ويؤكد أنه استطاع قراءة اسم “جوليا سابينا” بوضوح على النقش، موضحا أنها كانت زوجة أو ابنة “يوليوس سابينا” أحد أبرز قادة الفيلق الإمبراطوري الروماني.

عظام منقولة

واستنادا إلى ذلك النقش، أجمع عدة مؤرخين وعلماء آثار على أن القبر المقصود لا يمكن أن يكون قبر شمعون الصديق، وأبرزهم رئيس الأساقفة البريطاني ميرفي أوكونور في كتابه “الأرض المقدسة: دليل أكسفورد الأثري” عام 2008، وعالم الآثار الإسرائيلي دان باهات في كتابه “أطلس القدس المصور” عام 1990، والكاتب والمؤرخ البريطاني سيمون مونتفيوري في كتابه “القدس: السيرة الذاتية” عام 2011.

وبين ثنايا كتاب “كهوف سمعان العادل” عام 2002 لمؤلفيه عالما الآثار الإسرائيليين عاموس كلونر وبواز زيسو، نقرأ توقعا يشكّك في الرواية اليهودية، ويقول إن المغارة تحتوي على نظام مدافن محفورة بالصخر كانت تستخدم لتخزين بقايا عظام أشخاص دفنوا في مكان آخر. وبسبب التحريم اليهودي للدفن داخل سور القدس، نُقلت عظام الموتى بعد البناء الثالث لسور القدس وتوسعته.

ويرجّح العالمان أن بعض العظام التي “اكتشفت في العصور الوسطى” ونُقلت إلى المدافن الصخرية، كانت تحمل اسم شمعون الشائع آنذاك.

بؤرة استيطانية

ورغم تلك الأدلة الأثرية، أسس اليهود نواة بؤرة استيطانية حول المغارة عام 1890، أطلقوا عليها اسم “نحلات شمعون” (أي إرث شمعون)، توسعت مع مرور السنوات وما زالت قائمة حتى اليوم، وتحمل اسمها أيضا أبرز الجمعيات الاستيطانية التي تعمل على طرد المقدسيين من منازلهم في حي الشيخ جراح.

وبعد تأسيس البؤرة، بدأ اليهود خلال الانتداب البريطاني (قبل الاحتلال الاسرائيلي) يزورون المغارة ويحيون احتفالاتهم الدينية فيها، وتحديدا عيد الشعلة الذي يبدأ بعد عيد الفصح اليهودي بـ33 يوما.

المقدسي درويش حجازي السعدي يشرح ملكية عائلته للعديد من الأراضي في الشيخ جراح ومنها أرض المغارة (الجزيرة)

مغارة صدّيق السعدي

وقبل كتابات المستشرقين وتبني اليهود لرواية قبر شمعون الصديق، حُررت وثيقة في المحكمة الشرعية بالقدس عام 1733، تثبت شراء الشيخ الصدّيق بن عبيد بن سلامة السعدي الأرض التي تضم المغارة من عبد الله بشّة غباري، ليتخذها لاحقا خلوة له، ويجتمع فيها مريدوه لدراسة طريقته الصوفية، ولتعرف بعدها باسم مغارة الشيخ صديق السعدي، ولم يتسنّ للجزيرة نت التأكد من صحة دفن الشيخ داخل المغارة.

أطلَعنا على هذه الوثيقة المقدسي درويش سليمان حجازي السعدي، الذي يحتفظ في بيته بالعديد من سجلات المحكمة الشرعية والوثائق التي ورثها عن والده، الذي امتلك مساحات كبيرة من أراضي الشيخ جراح ومنها أرض المغارة، قبل أن يحتلها المستوطنون.

صورة وثيقة ملكية الشيخ صديق السعدي لأرض المغارة من سجلات المحكمة الشرعية في القدس (الجزيرة)

يقول درويش سليمان للجزيرة نت إنه ينحدر من نسل الشيخ صديق السعدي، وإن عائلته جاءت مع القائد صلاح الدين الأيوبي إبان فتحه للقدس، وتملّكت معظم “الأراضي الجرّاحية” أو ما يعرف اليوم بحي الشيخ جراح ومنها أرض المغارة، قبل أن يشتريها في ثلاثينيات القرن الماضي “باشكاتب” أراضي الانتداب البريطاني حنا بندك، ومن ثم يشتريها والده سليمان حجازي السعدي.

وضمّت الحكومة الأردنية أثناء حكمها شرقي القدس أرض المغارة، ومن ثم تحوّلت إلى دائرة “حارس أملاك الغائبين” بعد الاحتلال الإسرائيلي، لتصل في النهاية إلى أيدي المستوطنين الذين احتلوها مباشرة بعد احتلال 1967.

ويختم درويش حجازي قائلا “قارع أبي المحاكم الإسرائيلية 15 عاما ليدافع عن أراضيه المسلوبة في الشيخ جراح والقدس، وكان يقول: كذب مصفّط بغلِب صدق مخربط، كناية عن تفاني الاحتلال في تدعيم كذبته، مقابل تبعثر وتشتت التوثيق والرواية التاريخية الفلسطينية”.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply