إسلام آباد- في 26 أبريل/نيسان الماضي فجرت امرأة نفسها في حافلة توقفت أمام معهد صيني في جامعة كراتشي بإقليم السند جنوبي باكستان، وكانت هذه أحدث هجمات الحركات البلوشية وراح ضحيتها 5 قتلى.

وذكرت المصادر أن من بين القتلى مدير المعهد الصيني للغات ومعلما ومعلمة صينيين، وأعلن جيش تحرير بلوشستان -وهو أنشط الحركات البلوشية- مسؤوليته عن العملية.

ولم يكن هذا الهجوم حدثا جديدا، فبالعودة إلى جذور التمرد في إقليم بلوشستان بدأت هذه الهجمات مع تأسيس باكستان، حيث شهد انضمام الإقليم إليها حركة معارضة قوية من السكان البلوش.

وتم الاتفاق في ذلك الوقت على أن يكون للإقليم حكم ذاتي، لكن ذلك لم يتم لأسباب متعددة، وشهد التمرد البلوشي عدة مراحل، أحدثها وأهمها وأطولها المرحلة الأخيرة منذ عام 2004 في عهد الجنرال برويز مشرف.

جانب من إحدى الهجمات بإقليم بلوشستان في يناير/كانون الثاني الماضي (الأوروبية)

استهداف المشروع الصيني

لم تكن الإجراءات التي تتخذها الحكومات الباكستانية المختلفة طوال العقود الماضية كفيلة بإنهاء التمرد والنزعة الانفصالية في إقليم بلوشستان، بل تزداد وتتعزز بهجمات تشنها المنظمات الانفصالية البلوشية.

وتستهدف الهجمات القوات العسكرية والأمنية الباكستانية، لكنها تركز على المواطنين الصينيين المقيمين في باكستان، خاصة العاملين في مشاريع الممر الاقتصادي المشترك مع الصين.

كانت فترة التسعينيات من أكثر الفترات هدوءا إلى حد ما، وهو ما أثار آمالا بمصالحة سياسية في ظل صعود أحزاب سياسية بلوشية مثل حزب بلوشستان الوطني، لكن انقلاب برويز مشرف في 1999 وتعطيل الدستور أعطيا حافزا للتمرد من جديد، وزادت الأمور تعقيدا في أعقاب اغتيال زعيم البلوش نواب أكبر بوغتي عام 2006.

وشهدت الفترة بين 2015 و2020 تراجعا في التمرد، لكنه استعاد قوته وعاد إلى عهده في عام 2020.

أسباب التمرد

تعددت الأسباب التي أدت إلى التمرد البلوشي، لكنه زاد حدة في السنوات الأخيرة بعد أن دخل مشروع الممر الاقتصادي المشترك بين الصين وباكستان في مرحلة مهمة، وهذا ما جعل المهندسين والعمال الصينيين أكثر استهدافا من غيرهم.

ويقول محمد فيصل المحلل السياسي والأمني والباحث في معهد الدراسات الإستراتيجية في إسلام آباد إن الجماعات البلوشية تعتقد أن الدولة الباكستانية تستغل مواردها دون إعطائها سلطة اتخاذ القرار بشأن كيفية استخدام ثروتها الطبيعية.

ويقول فيصل للجزيرة نت إن موجة العنف المتجددة ضد المواطنين الصينيين هي وسيلة للضغط على الدولة الباكستانية، حيث يمتد الشعور بالاستغلال إلى المشاريع التي يتم تنفيذها بدعم صيني مثل ميناء جوادر، وهو في إطار الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.

ويرى البلوش المتمردون أن باكستان تحتل الإقليم، وينظرون إلى الجيش الباكستاني على أنه محتل لأرضهم وينهب خيراتها وفقا لتصريحات مسؤولين في الجماعات البلوشية.

وفي فبراير/شباط الماضي أجرت صحيفة “أخبار الكرد اليومية المستقلة” (Ekurd Daily) مقابلة مع قائد الجيش الوطني البلوشي جلزار إمام قال فيها إن حركته المسلحة سوف تسعى لتحرير بلوشستان من “الاحتلال الباكستاني”.

وأضاف “سنحاول تنفيذ العمليات العسكرية ضد الجيش الباكستاني الفاشي بطريقة منظمة”.

جنديان باكستانيان يقفان على الحدود الباكستانية الأفغانية عند بوابة باديني التجارية بإقليم بلوشستان (الأوروبية)

استمرار التمرد

اتخذت القوات الباكستانية إجراءات مختلفة على مدار العقود والسنوات الماضية، فزادت قواتها العسكرية في إقليم بلوشستان مع احتياطات أمنية مشددة، خاصة لحماية المشاريع التي تعتبر جزءا من الممر الاقتصادي.

هذا بالإضافة إلى الهجمات والحملات العسكرية التي يقوم بها الجيش الباكستاني لمحاربة الجماعات البلوشية، ففي فبراير/شباط الماضي أعلن الجيش الباكستاني مقتل ما لا يقل عن 20 متمردا في بلوشستان بعد تعرض موقعين عسكريين لهجمات في الإقليم.

وأضاف بيان للجيش أن 9 جنود باكستانيين على الأقل قتلوا في أحداث مختلفة بتلك الفترة، وفقا لوسائل إعلام محلية وأجنبية.

محاولات لحل سياسي

بالتزامن مع المواجهة الأمنية برزت محاولات لحلول سياسية للصراع التاريخي في بلوشستان، ووفقا لوسائل الإعلام الباكستانية فقد كانت هناك موافقة مبدئية من الحكومة الباكستانية في 2015 على خطة لإجراء اتصالات مع قادة الجماعات البلوشية من أجل حل الصراع في الإقليم وانهاء الهجمات المتبادلة بين الطرفين، لكن هذه المحاولات لم تنجح ولم تؤخذ على محمل الجد، مما قلل التركيز على أي حلول سياسية.

ولم تقتصر المحاولات السياسية على باكستان فقط، وإنما كان هناك توجه مشابه من الصين، ففي عام 2018 زعمت صحيفة “فايننشال تايمز” (Financial Times) البريطانية أن بكين تجري محادثات “بهدوء” مع المسلحين الانفصاليين البلوش منذ أكثر من 5 سنوات، في محاولة لحماية مشاريع البنية التحتية التابعة للممر الاقتصادي المشترك بين الصين وباكستان.

ونقلت الصحيفة في ذلك الوقت عن مسؤول باكستاني أن الصينيين “حققوا بهدوء الكثير من التقدم”، لكن يتضح من الهجمات الأخيرة التي يتم شنها ضدهم أن تلك الجهود فشلت في التوصل إلى حلول.

ويقول المحلل محمد فيصل إن إجراءات باكستان كانت تعتمد على 4 محاور، أولا إدانة سياسية شاملة، وثانيا إجراء تحقيق سريع وتعزيز الإجراءات الأمنية، وثالثا تضييق الخناق على أنصار الجماعات البلوشية المتشددة، ورابعا إشراك هذه الجماعات في إستراتيجيات مختلفة كخطط العفو وجهود المصالحة والحوار.

وحسب فيصل، أحدثت هذه الإجراءات تأثيرا قصير المدى على مستوى العمليات المسلحة، لكنها لا تزال قاصرة على المديين المتوسط ​والطويل لأنها لن تؤدي إلى حل سياسي.

Pakistan's Prime Minister Imran Khan talks to China's President Xi Jinping during their meeting at the Diaoyutai State Guesthouse in Beijing, China, October 9, 2019. Parker Song/Pool via REUTERS
تتهم باكستان الهند والولايات المتحدة بمحاولة التأثير على علاقاتها ومشاريعها مع الصين (رويترز)

دعم خارجي

تقول باكستان إن جماعات التمرد البلوشية تتلقى دعما خارجيا، خاصة من الهند والولايات المتحدة، وتختلف أسباب هذا الدعم ما بين إثارة عدم الاستقرار والضغط على الدولة والجيش الباكستاني، وبين محاربة المشاريع الصينية في باكستان وتعطيلها وتوتير العلاقة بين البلدين.

في عام 2018 أشارت صحيفة “الأخبار الدولية الباكستانية” إلى تقارير أمنية تتحدث عن قيام الهند بتخصيص أكثر من 50 مليار روبية (261 مليون دولار) لاستهداف الممر الاقتصادي من خلال خلق اضطرابات في بلوشستان.

ونقلت الصحيفة عن وكالات الأمن الباكستانية أن المخابرات الهندية تشارك في تقديم الدعم المالي للقادة البلوش المعارضين للقيام بأنشطة إرهابية في بلوشستان.

وهناك ادعاءات حول دعم أميركي أيضا، ويقول المحلل السياسي والخبير في العلاقات الخارجية محمد مهدي إن أرض بلوشستان تعتبر حاسمة بالنسبة للولايات المتحدة لمواجهة قوة إيران والصين.

ويوضح مهدي للجزيرة نت أن تطوير الصين الممر الاقتصادي سيشكل تهديدا اقتصاديا للولايات المتحدة وهيمنتها في المنطقة، وأن خلق التمرد في بلوشستان هو الطريقة الوحيدة الممكنة لمواجهة الاستثمار الصيني، مضيفا أن عناصر وكالة المخابرات المركزية الأميركية يعملون بالتعاون الكامل مع القوى الكبرى وخصوم باكستان مثل الهند.

ويقول المحلل إن للتنافس الصيني الهندي في المنطقة دورا كبيرا، حيث تحاول الهند المنافسة من خلال تطوير ميناء تشابهار في إيران لينافس ميناء جوادر الذي تطوره الصين في باكستان.

استهداف يمس العلاقات

جعل الانخراط الصيني القوي في باكستان ومشاريعها الضخمة في البلاد المهندسين والعمال والمصالح الصينية في دائرة الاستهداف الرئيسية من قبل الجماعات البلوشية المسلحة، وفي تصريحات لجلزار إمام قال إن “الصين يجب أن تعلم أن استثمارها ليس آمنا في بلوشستان”.

من جهته، قال وزير التنمية والتخطيط الباكستاني أحسن إقبال قبل أيام إن “أعداء البلاد يريدون زعزعة استقرارها لأنهم يسعون لخلق مشاكل في طريق مشروع الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان”.

من جهة أخرى، قال رئيس لجنة الدفاع بمجلس الشيوخ السيناتور مشاهد حسين إن “ثقة الصين في قدرة النظام الأمني ​​الباكستاني على حماية مواطنيها ومشاريعهم اهتزت بشكل خطير”.

وقال حسين -وفقا لصحيفة “داون” الباكستانية- “إذا استمرت مثل هذه الهجمات فليس المستثمرون الصينيون فحسب، بل سيضطر المستثمرون الأجانب الآخرون إلى مراجعة دورهم في باكستان”.

وفي أعقاب الهجمات الأخيرة تحدثت تقارير باكستانية عن مغادرة عمال صينيين البلاد بأعداد كبيرة، لكن بكين نفت ذلك وقالت إنها حركة سفر منتظمة وطبيعية لعمالها.

لكن المحلل محمد مهدي قال إن استمرار الهجمات يضيف بعض الاضطراب إلى العلاقات الصينية الباكستانية، إلا أن الصين تدرك حجم التحدي والخطر الذي يحيط ليس بمشاريعها فحسب، وإنما بعلاقاتها الإستراتيجية مع باكستان، كما أن الخلاف ليس في مصلحة البلدين بل في مصلحة أعدائهما، وسيؤدي إلى إفشال الممر الاقتصادي، مع تداعيات اقتصادية وسياسية كبيرة.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply