تزداد، مع تصاعد الضجيج الإعلامي وفي وسائل التواصل، فرص الاستدراج، مما يجعل كثيرا من الناس يتبعون الآخرين دون تفكير. قد لا يدرك بعضهم ما يردده -بحماس- حتى وإن تعارض مع قناعاته، وهم في ذلك يجسدون المثل الشعبي “الزن على الودان أمر من السحر”.

تبدأ صناعة القطيع منذ الصغر، بوأد أسئلة الصغار وتخويفهم من التفكير خارج السرب، حيث نلاحقهم بتعليقات مثل: عيب، حرام، لا تسأل. وهكذا، يُحرمون من الاستفسار والتفكير الحر، ويتعلمون الخوف من البوح، ويتدربون على الانسياق في مستقبلهم وراء أول قطيع يستقطبهم.

صناعة الفزاعات هي الحاضنة التي يتم فيها تربية عقول “القطيع، فالخوف هو أقوى وسيلة لقيادة الناس دون تفكير. قال أبيكتتيوس: “الناس لا يخافون من الأشياء بحد ذاتها، بل من الأفكار المرتبطة بها”. والفزاعة هي دمية لها حجم إنسان تُستخدم لإخافة الطيور فلا تأكل ثمار الأشجار، وهي وسيلة تناسب فقط من لا عقل لهم، ولا يفترض أن تكون فعالة مع الناس، ولكنها للأسف كذلك.

وربما كان أصدق ما قيل عن القطيع هو: “لا تتبع القطيع، فالراعي يسعى للاستفادة منه”. الراعي لا يضيع وقته دون سبب، بل يستغل القطيع لمصلحته، وفي مقابل هذا المثل، هناك أمثال أخرى تشجع على التقليد الأعمى مثل: “من دخل بين العوران عور عينه”، و”عندما تكون في روما، افعل كما يفعل أهل روما”، و”من عاشر الناس 40 يوما صار منهم”.

يختار البعض حياة القطيع ويتنازل عن فرديته واستقلاله من أجل الأمان والهروب من انتقادات الناس. يتجمد عقله، ويذبل قلبه، وتتلاشى أحلامه ويقتنع بأحلام الآخرين، وهو في ذلك رضي بالموت وإن كان عمر طويلا وعمل وتزوج وأنجب.

يقول الروائي الفرنسي ستندال: “يحاول الراعي دائمًا إقناع الخراف بأن مصلحته ومصالحها واحدة”، ولكن الخراف تنقاد طمعًا في المأكل والشعور بالأمان وسط الجموع ولا تنتبه لتناقص عددها. أما الإنسان، فهو مختلف. وكل واحد من أبناء آدم له حكاية خاصة لا تتكرر، وعلينا أن ندرك ذلك ونكون أول من نبادر إلى إكرام أنفسنا، يقول حاتم الطائي:

ونفسك أكرمها فإنك إن تهن         ***        عليك لن تجد لك الدهر مكرما

والسير وراء القطيع هو أول امتهان للكرامة الإنسانية، وهو يجفف إبداعها ويحرمها من تفردها، ومن أجهزة إنذارها التي خلقها الله لها، لو أن قطيعا رأى قائده يندفع إلى الهاوية لاندفع وراءه دون تفكير في عملية انتحار جماعي لا يردعها عقل. هذا سلوك لا نتوقعه من إنسان، فالعقل هو أداته الكبرى التي حباه الله بها، لتنقذه وتهديه، وهو يستخدمها بالضرورة إذا كان وحده، فلماذا يقرر تعطيلها إذا كان في جماعة؟

يقول الأديب الروسي دوستويفسكي: “لا ينبغي للإنسان أن يشبه جمهرة الناس، كن مختلفًا حتى وإن كنت وحيدًا”.

والاختلاف الذي يقصده ليس مجرد تمرد من نوعية “خالف، تعرف”، فهذا سلوك المراهقين، أما الاختلاف المقصود فهو احترام للفردية والبعد عن تجميد العقل.

البعض يختار الاختباء في القطيع لتجنب تحمل تبعات اختياراته في الحياة، ولكن تذكر أن من يفعل ذلك سيحصد فقط ما يتساقط من الآخرين.

يتميز الإنسان عن سائر المخلوقات بالعقل الذي يتيح له التفكير النقدي قبل أي تصرف، ولكن غالبًا ما يتم قمع هذا التفكير من قبل القطيع. ومن يجرؤ على التفكير قد يتعرض للتنمر والعقاب إذا لم يتراجع.

طريق النجاة

كيف إذن نتحاشى أن نكون من القطيع؟

هذا سؤال مهم جدًا. والإجابة تكمن فيما يلي:

  • كن نفسك دومًا، فأنت تعيش مرة واحدة. افعل ما تثق أنه الصواب، ولا تهتم بآراء الناس.
  • أنشد أغنيتك الخاصة، ولا تردد أغاني الآخرين مهما أحببتهم، فالحب الزائد يقلل من استقلاليتك ويجعلك تابعا ولو بعد حين. وكن بطلاً لحياتك، ولا تتأثر بالأكاذيب المتكررة. وتذكر قول لينين: “تصبح الكذبة حقيقة إذا تكررت بما فيه الكفاية”.
  • لا تبرر أخطاء الآخرين، واحتفظ بحرية عقلك. تجاهل رأي الآخرين في استقلاليتك ولا تبحث عن رضاهم.
  • لا تخف من إعادة النظر في معتقداتك. فالمراجعة لا تأتي إلا بخير، فإما أن تزداد ثقة بما تؤمن به، أو ستجد ما هو أفضل منها لتتبناه.
  • جرب وتعلم، فالأخطاء تعلمك والنجاح يؤكد لك الطريق الصحيح.
  • لا تنس قول أحمد شوقي: “يا له من ببغاء عقله في أذنيه”. فلتتفكر فيما تسمع بعيدًا عمن قاله؟ وكيف قيل؟ لا تسمح لأحد بجذبك إلى القطيع لا بعصا ولا بجزرة، وكن عصيا على الإغراءات والتهديدات.
  • كن حذرًا من التضليل، فقد يحذرك أحدهم من الانضمام لقطيع ليجذبك إلى قطيع آخر. ولا تنس قول نيتشه: “وأنت تخوض حربًا للتحرر من قطيع، احذر من الانضمام لقطيع آخر دون أن تشعر”.
  • تذكر أن وسائل التواصل الاجتماعي هي حاضنة لتفريخ القطعان، فإذا استخدمتها فاحذر.

وأخيرا، لا يعني ذلك أن عليك “ألا تتفق” أبدا مع أحد، فالاتفاق جيد، ولكن بشرط أن يكون عن فهم وقناعة، كما أن الاختلاف محمود و”رحمة” إذا آمنا بجدواه، وتعلمنا آدابه، وأولها أن تعود نفسك أن تقبل اختلاف الآخرين معك، وألا تبحث عمن يشبهك، فهؤلاء ليس لهم وجود، واعلم أنك إذا قبلت اختلاف الآخرين معك قبلوا اختلافك معهم، ولا تتشبه بمن يختلفون معك طلبا للأنس بهم، فهذا ليس أنسا بل محوا لما يميزك، وإطفاء لنورك الذي منحه الله لك.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply