كانت خطواتها مثقلة بالتردد والقلق تحسبا لأن تطلب منها صديقاتها أخذ صورة “سيلفي” لتوثيق اللحظة التي جمعتهن في أحد أجمل المتاحف التاريخية في العالم، وهذا ما حدث بالفعل، وبمجرد أن التقطت إحداهن تلك الصورة، بدأت رحلتها مع أسئلة لا تنتهي حول ما إذا كان وجهها وشكلها في الصورة نجحا في تلبية المعايير المطلوبة للجمال والجاذبية، وهل يمكن نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وما سيكون انطباع المتابعين عنها؟ وكعادة هذه الرحلة، كانت النهاية هي تهدُّم جزء صُلب من الثقة التي تستند عليها كيان الفتاة وعالمها، لكنها هذه المرة سارعت لتسأل جمهور أحد منصات التواصل الاجتماعي: كيف أخفي عيوب وجهي عند التقاط صورة “سيلفي”؟

 

من لوحة المفاتيح إلى غرفة العمليات

بينما اكتفت تلك الفتاة بسؤال المحيط الافتراضي عن حلول تساعدها في التقاط صورة أجمل، تقوقعت أخريات على ذواتهن، متجاهلات إلحاح التيار المندفع بقوة نحو ضخ ملايين صور السيلفي في الشبكات الاجتماعية التي علقنا بها جميعا، في حين قررت فئة ثالثة طلب المساعدة من جراحي التجميل لتغيير ما يمكن تغييره لدخول مسابقة الجمال التي يشارك فيها الملايين دون إدراكهم لما يحدث.

 

تظهر الأكاديمية الأميركية لجراحات الوجه الترميمية والتجميلية “The American Academy of Facial Plastic and Reconstructive Surgery”، أحد أكبر اتحادات جراحي تجميل الوجه في العالم، مجموعة من الحقائق الصادمة حول هذا الموضوع، لعل أبرزها أن الوباء الذي حاصر حياتنا ودفعنا بشكل أكثر إلى المنصات الافتراضية مثل برنامج “زووم” تسبب في زيادة هوس الصورة، لينتقل الناس من عدم الرضا عن صورة “السيلفي” إلى عدم الرضا عن فيديو “السيلفي” إن أمكننا تسميته كذلك.

MOSCOW, RUSSIA - MAY 24, 2019: Snapchat multimedia messager with 3d face mask filter on smartphone in woman hands at home. Face detection technology, AR, social media, selfie, entertainment concept

فبحسب البيانات الصادرة عن الأكاديمية، اندفع كثير من النساء والرجال لرفع ثقتهم بأنفسهم عند الظهور في غرف “زووم” عبر الخضوع لإجراءات تجميلية جراحية وغير جراحية، فيما عرفته الأكاديمية بـ”تأثير زووم”، وتشير الإحصاءات أن هذه الإجراءات تخطت حاجز المليون ونصف المليون إجراء في الولايات المتحدة وحدها خلال العام 2021، بزيادة بلغت 40% عن العام السابق له، وكانت الإجراءات الأكثر شيوعا هي تلك المتعلقة بتجميل الأنف، وشد الوجه، وتجميل الجفون (العلوية أو السفلية)، إضافة لإجراءات أخرى كرفع ونفخ الشفتين، وشد الرقبة، ورفع الجفون، وعلاجات الليزر (1).

 

اندفع الكثيرون لإجراء التعديلات التجميلية منتقلين من مرحلة الـ”فلاتر” إلى مرحلة التدخل الجراحي، أما عن عمر الفئات المتأثرة أو جنسها، فكان جيل الألفية هو الأكثر ظهورا في عيادات التجميل، وفي حين لا تزال النساء يسيطرن على الأغلبية في هذا الصدد، إلا أن الفجوة الجنسانية توشك على الاختفاء مع تزايد أعداد الذكور المقبلين على الإجراءات التجميلية، وفي حين تشيع بين الإناث الإجراءات التجميلية كالسموم العصبية (مثل البوتكس)، وتجميل الأنف، وحقن الحشو التجميلية (فيلرز)، تنتشر جراحات زراعات الشعر، وتجميل الجفون باضطراد بين الذكور (2).

 

كيف نبدو على مرآة السلفي؟

MOSCOW, RUSSIA - MAY 24, 2019: Snapchat multimedia messager with 3d face mask filter on smartphone in woman hands at home. Face detection technology, AR, social media, selfie, entertainment concept

بعيدا عن طاولة الباحثين والمتخصصين، دعونا نتساءل: ينظر الناس إلى كاميرا السيلفي؟ وإلى أين وصلت أفكارهم حول الأمر؟ تظهر نقاشات الواقع الافتراضي تفاوتات عدة في هذا الصدد، فهناك من ينشغلون حقا بتحسين مظهرهم في الصور، وهناك في المقابل من يدعو إلى الرضا بالهيئة التي يظهر عليها، وأخيرا هناك من يهاجمون محبي السيلفي ويطلقون الاتهامات بسذاجة هذا الفعل أو دلالته على الغرور أو النرجسية، لكن وقبل اتخاذ ردات الفعل المختلفة، هل تساءلنا حقا: ما الذي يدفعنا لالتقاط صور السلفي؟

 

تشير الأدلة البحثية إلى أن الدوافع تنبعث من الرغبة في استكشاف الذات وعرضها، يلتقط أحدنا الصورة، ويلاحظ نفسه، ويحلل ما يرى، ليتمكن من الإجابة على سؤال من أنا؟ لكن الأهم أن هذه الصور تساعدنا في الجواب على سؤال كيف يرانا الناس؟ ولحسن الحظ، أو لسوئه ربما، فإن منصات التواصل الاجتماعي منحتنا القدرة على التحكم في هذه النظرة باختيار الصور والمناسبة وتعديلها، ما يمنحنا إحساسا بالسيطرة على صورتنا ونظرة الآخرين تجاهنا. (3)

 

إن عرض الذات هو أحد أهم الأسباب النفسية التي تدفع الأشخاص لالتقاط صور السلفي، فالدوافع الرئيسية لذلك هي الرغبة في جذب الانتباه، والتواصل، والتسلية، وتوثيق اللحظات، وبينما يشكل الدافع الأخير جانبا إيجابيا في حفظ الذكريات وتوطيد الروابط مع الأشخاص تتصل الدوافع الثلاثة الأخرى بالنرجسية، وتسلط الضوء على العالم المُظلم لصور السيلفي.

 

هل هم نرجسيون؟

selfie

في بحث قاده دكتور “بيوتر سوركوفسكي” “Piotr Sowrkoweski” مع علماء في جامعتين في بولندا وألمانيا، لتحليل ارتباط التقاط السيلفي بالنرجسية بين قرابة 1,300 رجل وسيدة، اختُبر مستوى النرجسية باستخدام أحد الأدوات المعتمدة علميا وهو “مقياس الشخصية النرجسية”. وخلصت النتائج إلى أن هناك علاقة طردية قوية بين نشر صور السيلفي على مواقع التواصل الاجتماعي والنرجسية، لكن الرابط بين الاثنين ظهر بشكل أقوى بين الرجال أكثر من النساء، ففي حين كانت الحاجة للحصول على الإعجاب هي الجانب الوحيد على مقياس النرجسية الذي يدفع النساء لنشر صور السيلفي لأنفسهن، فإن الوضع يختلف بين الذكور (4).

 

يوضح البحث أن هناك عدة دوافع متصلة بالنرجسية تقف خلف توجه الذكور لالتقاط صور السيلفي، فبالإضافة إلى الحصول على الإعجاب كما هو الحال بين النساء، يظهر الذكور أرقاما أعلى في جوانب إظهار القوة والتعطش لتحقيق ذلك باستخدام صور السلفي خاصة الصور الجماعية. يحدث ذلك غالبا بسبب رغبة هؤلاء في عرض أنفسهم كمؤهلين للحصول على المناصب القيادية أو الحفاظ عليها (5). أظهرت النتائج أيضا أن الغرور كان مرتبطا باستخدام الكثير من صور السلفي، بسبب الرغبة الزائدة في عرض الذات (6).

 

لكن في حين يُعتقد أن الترويج المبالغ فيه لصور السيلفي يرتبط مع زيادة تعزيز الصفات النرجسية لدى الأشخاص (7)، فإن لجوء البعض لتحرير الصور يكون لإخفاء عيوب لديهم وهذا أمر لا يتعلق كثيرا بالنرجسية، أضف لذلك أن الدراسات في هذا النطاق تشير إلى أن مشاركة الصور وحدها لا تكفي للحكم على شخص ما أنه نرجسي.

 

تشوه السلفي

selfie

في الحقيقة، ربما يعكس هذا الإفراط في المشاركة صفات مناقضة للنرجسية تماما. تلتقط إحداهن الصورة وتعدلها وتشاركها، ثم تبدأ في عد الثواني انتظارا لجمع أعداد المعجبين بالصورة، أو التعليقات المثنية على جمالها، لكن شيئا ما يشدها إلى صفحات أخرى تقارن فيها نفسها بالأخريات من المشاهير أو غيرهن ممن حصد الكثير من الإعجاب، فترتد الأمور إلى حالة عدم رضا عن المظهر أو الوزن، مع نقص ملحوظ في معدلات الثقة.

 

على مواقع التواصل، يبدو كل شئ مثاليا، حيث يمتلك الجميع الجسم الرياضي والملمح الجذاب والشعر المنسدل واللحية المصممة هندسيا. الجميع تقريبا كذلك إلا أنت المشاهد الذي يعرف حقيقة نفسه. من الطبيعي إذن أن تكون أكثر قلقا وأقل ثقة، وهو ما تسعى للتغلب عليه بتحرير الصور أولا، ثم بالتدخلات التجميلية ثانيا. يبدأ الأمر مع نقرات على لوحة المفاتيح، وينتهي في أحد عيادات التجميل. لكن تذكر أن المشكلة الرئيسية ليست في كوننا أقل جمالا، لكن في كون هوس الصورة جعلنا أكثر قلقا وأقل ثقة (8)، (9).

——————————————————-

المصادر

  1. Aafprs announces annual survey results: demand for facial plastic surgery skyrockets as pandemic drags on
  2. المصدر السابق
  3. The Selfie Paradox: Nobody Seems to Like Them Yet Everyone Has Reasons to Take Them. An Exploration of Psychological Functions of Selfies in Self-Presentation
  4. Selfie posting behaviours are associated with narcissism among men
  5. المصدر السابق.
  6. المصدر السابق.
  7. The Kind of Selfies Most Often Taken by Narcissists
  8. Excessive posting of selfies is associated with an increase in narcissism
  9. “Selfie” harm: Effects on mood and body image in young women

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply