يتحدث “وايت” كثيرا عن الشعر، وله دواوين تتميز بحس شعري فريد، إلا أنه لا يريد أن يُدْعى شاعرا، كأنه يرى في اقتراض الشعر منقصة؛ فكلما تحدث عن الشعر قال “نَعَمْ”، غير أنه سرعان ما يستدرك بـ”لَكِنْ”، مُبْهِما بذلك الأمر. ولعل الوجوه التي يشرف بها الشعر ويحسن في نظر “وايت” أقل بكثير من الوجوه التي يرذل بها ويَسْمُج؛ فالشعر عنده ليس مجرد خياطة لغوية أو انتظام للكلمات في هندسة نغمية، في الأوزان والقوافي؛ كما أن الشعر لا يكون مع الأغراض التقليدية مثل المدح والهجاء والتفاخر.

كنت -وأنا أقرأ أعمال “وايت”- ألوذ “بالحداثة الشعرية” العربية عسى أن أتلمس خيوط نظرية تمكنني من الإحاطة بمعاني الشعر كما تتجلى في هذه الأعمال. صحيح أن القارئ العربي مثلي كان يلمس عند شعراء أمثال محمود درويش ونازك الملائكة ويوسف الخال ونزار قباني وأدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي هِمّةً منصرفة إلى تعرية واقع المجتمعات العربية السياسي، والمطالبة بحقوق الشعوب والأمة المهضومة؛ إلا أن أشعار هؤلاء كانت لا تسلم من التجريد والغموض ولا تخلو من التدفق العاطفي؛ فهذه الخصائص التي كان القارئ مثلي يُثْبِتها للحداثة الشعرية العربية كانت هي ذاتها الخصائص التي يحاول “وايت” تخليص العمل الشعري منها.

كنت لا أتوانى في الإفصاح لـ”وايت” عن كل ما يجول في خاطري من أفكار وخواطر متعلقة بالبحث؛ وأذكر أني حدثته عن الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة وعلاقتهما بالأرض في القرآن الكريم

أمام استحالة بلوغ شيء من التوفيق بين التصورات الجديدة التي كنت أجدها مبثوثة في كتب “وايت” والرصيد النظري الذي تراكم عندي من خلال التفاعل مع “الحداثة الشعرية” العربية؛ لم أجد مندوحة من العودة إلى التراث العربي الشعري والنقدي، بحثا عن “نظرية” تُقرّب من الحقل المفاهيمي الجديد. وعند هذه النقطة بالذات، نقطة الاحتكاك بين المدرسة النقدية الغربية المعاصرة، ممثلة في مدرسة “وايت”، وبين التراث العربي القديم؛ صرت أدرك أن من يطلب نظرية جاهزة في التراث إنما يلاحق سرابا.

فالتراث -أي تراث- رغم كل ما يزخر به من غنى وتنوع، فإنه لا يقدم سوى “حقول للطاقة”، حسب تعريف “وايت”، قد يجد فيها القارئ المعاصر ما به يستطيع أن يركب نظرية جديدة. وهكذا بدأت التجوال في التراث العربي النقدي والشعري، أفتش فيه عن كلام مبثوث هنا وهناك يُقرّب المعنى الذي يرتجيه “وايت” من حديثه عن الشعر.

قبل أن أقوم بصياغة جملة الأفكار التي كانت تَعِنّ لي وأنا أتفاعل مع أعمال “وايت” الأدبية والنقدية، من جهة، ومع الحداثة الشعرية العربية والتراث النقدي العربي، من جهة ثانية؛ شاءت الأقدار، وأنا أقرأ كتاب “وعود الإسلام” (Promesses de L’Islam)  لرجاء غارودي أن أصادف كلاما من ذهب؛ هذا الكلام كان له الفضل في تنوير عقلي وتبصيري بأبعاد ستجعلني أرتقي في الإدراك مرتقى يُمكّن من النظر بوضوح في مشروع “وايت” الشعري، وسيفتح أمامي نافذة ما زلت إلى حد اليوم أطل منها على الفكر الغربي عموما.

يقول رجاء غارودي في معرض تزكية فكرة “ماركس” القائلة بنهاية الفلسفة الغربية ما يلي: “بعد أن سقط الستار على هذه التراجيديا البئيسة، انتهى زمن التفلسف. الناجون الوحيدون من هذا الغرق (أي غرق المشروع الفلسفي الغربي) تحولوا إلى علماء لاهوت مع كيركغارد، وثوار مع ماركس، وشعراء مع نيتشه… الباقون -ممن لم يدركوا بعد أن المسرحية قد انتهت، وأن مسرح الظل قد غُلِّقت أبوابه- ظلوا يقتاتون على فُتاة مائدة العملاق هيجل”.

على ضوء هذا الكلام صرت أفهم تعلق “وايت” بـ”نيتشه” وإكثاره الإحالة عليه، صرت أدرك أن الشعر عندهما أكبر من أن يكون مجرد “عاطفة وضعت في ميزان”، أو مجرد “كلام موزون مقفى”؛ بل هو وسيلة للقفز على أكثر من ألفي سنة من التفلسف لربط العقل بمرحلة “ما قبل سقراط”، أي قبل أن يتحول الكلام إلى مجرد مقولات عقلية مجردة؛ وقبل أن يتحول الفكر الإنساني إلى مجرد قول فلسفي هو أقرب إلى ما يصطلح عليه الفيلسوف “مارتن هايدغر” (Martin Heidegger) بـ”الثغثغة” (Das Geplapper) منه إلى شيء آخر. فالقول الفلسفي الغربي -سواء عند “وايت” أو “نيتشه” أو “هيدغر”- هذا القول الذي بلغ ذروته مع “هيغل”؛ هو قول مُجْثَتّ، يُفقد العقل الإنساني نقاط الاسترشاد في الأرض.

يقول “وايت” في كتابه “العقل الجائل” إن “طريق الفكر الغربي يذهب، منذ ما يقرب من 100 سنة، من تفكيك الخطاب الميتافيزيقي باتجاه جغرافية العقل الشعري، عقل من نوع جديد، أو لنقل إنه ذو نفس جديد”. لاحظ عزيزي القارئ كيف يرتبط الحديث عن الخروج من مضايق الخطاب الميتافيزيقي الفلسفي المجرد بالحديث عن إعادة وصل الشعر بالجغرافيا، أو الكلام بالأرض. فكيف لا يدعوك هذا الكلام إلى التأمل في قوله تعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار)!

كنت لا أتوانى في الإفصاح لـ”وايت” عن كل ما يجول في خاطري من أفكار وخواطر متعلقة بالبحث؛ وأذكر أني حدثته عن الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة وعلاقتهما بالأرض في القرآن الكريم، فلم يزده كلامي إلا حبا في الاستطلاع، ولم يزدني كلامه إلا شعورا بأهمية الرصيد الفكري الذي كنت أحمله معي كطالب مسلم في سياق ثقافي كان يسود فيه عموما ضرب من التبخيس لكل ما له صلة بالإسلام والقرآن. وأذكر أن “وايت” قد أحالني حينها على “هكذا تكلم زراديشت” ودعوة “نيتشه” معاصريه للبقاء أوفياء للأرض وترك الأمل في بلوغ السعادة خارجها أو فوقها.

بعد قراءة “هكذا تكلم زراديشت” باللغة الإنجليزية في بداية الأمر، قبل أن أقرأه باللغة الألمانية بعد مرور سنوات، صرت أشعر بما كان يصبو إليه “نيتشه” ومن يسيرون على دربه، كما يقول “غارودي”، من فكر يضع عن العقل الغربي أغلال الخطاب الفلسفي ويكثف شعور الإنسان بالانتماء إلى الأرض مجددا. وبعد التعمق في البحث والقراءة صرت أشعر كذلك بأن الحديث عن وَصْل الكلام الفلسفي المجرد بالأرض والحس ليس حديثا معزولا، بل وثيق الصلة بمنظومة فكرية جعلت ملامحها الكبرى تتجلى أمامي شيئا فشيئا.

قرأت في كتاب “كاثرينا مومزن” (Katharina Mommsen) عن الشاعر الألماني “غوته” والعالم العربي (Goethe und die Arabische Welt) كلاما يعزز شعوري بأن مطلب وصل التجريد العقلي بالحس والأرض كان مطلبا ثقافيا ملحا، تخوض فيه النخب المثقفة، كل على طريقته؛ فقد بعث ” هردر” (Johann Gottfried Herder) رسالة إلى “غوته” يستوضح رأيه قائلا: “لو كان لأمة الألمان كتاب باللغة الألمانية، كما للأمة العربية القرآن، لكفانا شر اللغات اللاتينية التي لا تربط الحس بالتجريد”. وقد أعرب “غوته” عن اتفاقه مع ما ذهب إليه “هردر”.

قد يسارع البعض إلى القول إن في الحديث عن الفرق بين اللغة الألمانية واللغات اللاتينية ما يدل على نزوع الدراسات اللسانية القومية في السياق الألماني خلال القرن 19، غير أن النظر بإمعان يجلي لنا أن الأمر متعلق بشعراء يحاولون أن ينفثوا روح الشعر في منظومة الأنوار الفلسفية.

أذكر أن “وايت” لما علم بأني أحاول قراءة أعمال “غوته” بالألمانية، قال لي إنني سأجد عنده -أي “غوته”- ما لا يحلم المرء بأن يجده عند “شكسبير”، لأن “غوته” -وبكل بساطة- ليس شاعرا فحسب، لكنه شاعر بمعنى الكلمة وأشياء أخرى، على خلاف “شكسبير” الذي يظل رَخْوًا، يُستحسن شعره لجرس كلماته أكثر مما يُتذوَّق لعمق معانيه.

كان لا بد أن أصادف في طريق البحث والقراءة الشاعر “هولدرلن” (Friedrich Hölderlin)، وأستسمحك عزيزي القارئ أن أفتح قوسا هنا لأبوح لك بأني كنت أقضي الساعات الطوال أقرأ أشعار هذا الشاعر، جالسا أمام صخرة في ممر الفلاسفة المعروف بمدينة “هيدلبرغ” نقشت فوقها أبيات من قصيدته في وصف جمال المدينة وعلاقته بها. وأذكر كذلك أني وأنا أزور المنزل الذي كان يأوي “هولدرلن” في مدينة “تيبنغن” الجامعية (Tübinge) وقعت عيني على عبارة كتبها أحدهم بطلاء أحمر على حائط المبنى أثارت حينها -وما تزال إلى حد اليوم- داخلي مشاعر قوية؛ كانت العبارة تقول: “هولدرلن لم يكن أحمق أبدا”.

نجد عند “هولدرلن” اختصارا بليغا لمشروع “وايت” الجيوـ شاعري، وكذا لمشروع “هيدغر” الفكري من قبله؛ حيث يقول: “يحيى الإنسان شعرا فوق هذه الأرض”، ويقول كذلك: “لا شيء يدوم سوى ما يؤسس له الشعراء”. في هاتين المقولتين تأكيد على أن نسبة الشعر للوجود فوق الأرض هي نسبة النحو للّغة؛ فكما يعصم النحو اللسان عن الوقوع في اللحن والخطأ، كذلك يعصم الشعر الكائن عن سوء التمثل للوجود فوق الأرض.

وقد أفضى التفكير على خطى “هولدرلن” في علاقة الشعر بالوجود الإنساني فوق الأرض بـ “هيدغر” إلى حد القول إننا حين نصغي للغة، في صفائها الشعري الأول، بعيدا عن القوالب والمقولات الفكرية العقلية المجردة؛ نجدها تنطق بحقيقة الوجود، هذا الوجود المعطى، لا الوجود الذي يحاول الإنسان أن يؤسس له بعقله. وبهذا يدعونا “هيدغر” إلى الصمت كي نحسن الإصغاء إلى اللغة، أو إلى “الكلام يتكلم”.

ترددت كثيرا قبل أن أرفع يدي لأطلب التدخل أثناء حديث “وايت” عن “هيدغر” والشعر واللغة والصمت، وبعدها قلت: “إذا كان الشعر في أرقى مراتبه يفضي إلى الصمت، ألا يكون في صمت الشعراء تعبيد للطريق لتدخل النبوة في التاريخ؟”

سألني “وايت” إن كنت مستعدا لتقديم عرض حول الموضوع، في حدود نصف ساعة، بعد أسبوعين أو 3 أسابيع، ولم تكن العادة أن يلقي الطلبة عروضا خلال ندوات “شعرية القرن العشرين”. لم أتردد في قبول الدعوة، وكيف أتردد وقد شعرت حينها بأني قد حظيت بما لم يحظ به غيري من الحضور. وكذلك كان.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply