باريس – على مدى أكثر من ربع قرن، استثمرت أحزاب اليمين الفرنسي والأوروبي في كل الأزمات والتقلبات العالمية، بدءا بالحرب الباردة وأحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 ومرورا بقضية الرسوم الكاريكاتيرية في الدانمارك والأزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة في العام 2008، وصولا إلى الهجمات المسلحة في عدد من الدول الأوروبية وموجات اللجوء الناتجة عن الربيع العربي، وانتهاء بتداعيات جائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، استثمرت في كل هذه الأحداث والأزمات لتتمدد وتوسع نفوذها وتكسب قواعد انتخابية شعبية ومناصرين جددا.

جذور تاريخية

تعود الجذور التاريخية للأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا إلى فترة ما بين الحربين العالميتين التي ازدهرت فيها الأنظمة النازية والفاشية، وفي فرنسا كانت حكومة فيشي المساند الرسمي لهذه الأنظمة اليمينية.

وبعد فترة خفوت واضمحلال لعقود، عادت الأحزاب اليمينية المتطرفة أكثر هيكلية وحركية في فترة الثمانينيات والتسعينيات، لتحجز لها مكانا بارزا ضمن الخارطة السياسية الحزبية الأوروبية، وبرهنت على ذلك من خلال النجاحات المتكررة التي حققتها في الانتخابات التشريعية والمحلية والأوروبية وحتى الرئاسية.

ولأن السمة الغالبة والمميزة لهذه الأحزاب القومية ترتكز على رفض التنوع العرقي والديني والثقافي وكره المهاجرين ومعاداة الإسلام والمسلمين والأجانب، لذلك فقد ازدهرت موجة المد اليميني المتطرف، وقدم نفسه كبديل بحجة الحفاظ على المكتسبات الوطنية والدفاع عن البلدان من الأخطار الخارجية وخاصة الإسلام الذي يمثل أكبر تهديد للثقافة الأوروبية.

الثمار الأولى

جاءت الثمار الأولى لهذا المد اليميني القوي سريعا في فرنسا، بوصول مرشح حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف جان ماري لوبان المعروف بطروحاته المتشددة تجاه المهاجرين والمسلمين، لأول مرة إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2002. وتأهل لوبان الأب إلى جانب مرشح اليمين التقليدي الرئيس الراحل جاك شيراك الذي فاز بالانتخابات.

وأدى هذا الصعود المطرد والقوي والمتواصل للأحزاب اليمينية الفرنسية والأوروبية، إلى تحقيق نجاحات ومراكمة تجربة وخبرة لافتة خاصة في المحطات السياسية المهمة والاستحقاقات الانتخابية الكبرى. وانتقلت هذه الأحزاب اليمينية من مجرد هامش صغير وظاهرة سياسية قابلة للزوال، إلى رقم صعب ومكون جوهري ومركزي في المشهد السياسي الأوروبي.

مؤسس الجبهة الوطنية الفرنسية اليمينية المتطرفة جان ماري لوبان (الجزيرة)

عدوى اليمين المتطرف

استفاد حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان، وبقية الأحزاب اليمينية الأوروبية المتطرفة، كثيرا من صعود وفوز اليمين الشعبوي القومي في الولايات المتحدة بقيادة دونالد ترامب، في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016. ومن تصويت اليمين البريطاني على خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي.

كما استفادت الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية الأخرى من هذا الصعود القومي الأميركي، ومن النجاحات المهمة التي راكمها حزب “التجمع الوطني” بقيادة مارين لوبان في فرنسا.

وهو ما ترجمه عالم الاجتماع الفرنسي المتخصص في حركات اليمين المتطرف سيلفان كريبون بقوله “صعود اليمين المتطرف موجود منذ عدة أعوام، وما ساعد على انتقال عدواه إلى باقي الدول الأوروبية، هو نجاح حزب الجبهة الوطنية الفرنسي في الانتخابات”.

تراكم الخبرة والنجاحات

في فرنسا ومنذ تأسيس حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف على يد المحامي جان ماري لوبان عام 1972، نجح هذا الحزب القومي في تغيير جلده وإستراتيجيته وإعادة إنتاج خطابه، متكئا في كل ذلك على مواضيع الهوية ونظريات “الاستبدال الكبير” و”التذويب”، في ظل تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا بعد الهجمات المتكررة التي تعرضت لها فرنسا، ومع تدفق أمواج اللاجئين وتزايد أعداد المهاجرين.

وفي دراسة وإحصائيات سابقة نشرها معهد إيفوب IFOP، المختص في استطلاعات الرأي للانتخابات، تفيد الأرقام بتحقيق حزب “الجبهة الوطنية” أول نجاحاته في الانتخابات المحلية عام 1983، التي حصل فيها لوبان على 11.3% من الأصوات في إقليم باريس، وحصل على 12% من الأصوات في الانتخابات التشريعية الجزئية.

وزاد جان ماري لوبان تثبيت أقدام حزبه اليميني المتطرف في المشهد السياسي الفرنسي بتحقيقه نتائج مبهرة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 1988، وحصوله على 14.4% من إجمالي الأصوات المشاركة في الانتخابات.

مارين لوبان تفوقت على والدها في اجتذاب أصوات التيار اليميني المتطرف (الجزيرة)

إفلاس الأحزاب التقليدية

كما استفاد حزب “الجبهة الوطنية” الذي أصبح اسمه لاحقا “التجمع الوطني” منذ عام 2017، بعد وصول رئيسته الجديدة مارين لوبان إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، من إفلاس برامج الأحزاب اليمينية واليسارية التقليدية، لكي يحقق نجاحات جديدة.

حيث تمكن الحزب عام 2014 لأول مرة في تاريخه من دخول مجلس الشيوخ في انتخابات تجديد نصف أعضاء المجلس وحصوله على مقعدين. وقد وصفت مارين لوبان حينها هذا الحدث بـ”النصر التاريخي”، ورأت فيه “دينامية تتسارع من انتخابات إلى أخرى”.

ووفقا للدراسة السابقة نفسها لمعهد ايفوب، عادت مارين لوبان لتحقق نتائج متميزة في الانتخابات الأوروبية عام 2014، حيث تصدر حزبها “التجمع الوطني” نتائج الانتخابات بـ 24.8% من الأصوات مقابل 20.8% لحزب “الاتحاد من أجل حركة شعبية” اليميني المعارض، بينما جاء الحزب الاشتراكي الحاكم في المركز الثالث، ولم يحصد إلا 13.9% من الأصوات.

وعقب هذه النتائج، استطاعت لوبان عام 2015 من تكوين كتلة برلمانية يمينية في البرلمان الأوروبي تحت اسم “أوروبا الأمم والحريات”، مكونة من 40 نائبا من مختلف الأحزاب اليمينية المتطرفة الأوروبية، مثل حزب رابطة الشمال الإيطالي وحزب الحرية النمساوي.

من البرلمان إلى الرئاسة

وعلى صعيد الانتخابات الرئاسية الفرنسية تعتبر الأحزاب اليمينية الفرنسية، وخاصة التقليدية منها، لاعبا رئيسيا في هذه الاستحقاقات السياسية الكبرى، بل إنها تعتبر أكثر من قدم رؤساء لفرنسا خلال الجمهورية الخامسة منذ شارل ديغول (1958-1969)، وجورج بومبيدو (1969-1974)، وجاك شيراك (1995-2007)، ونيكولا ساركوزي (2007-2012).

وأما حزب “الجبهة الوطنية” بقيادة جان ماري لوبان فقد بقي يراوح مكانه في الاستحقاقات الرئاسية، فبعد أن تمكن من إحداث المفاجأة عام 2002 ووصل للدورة الثانية، تدحرج إلى المرتبة الرابعة في الانتخابات الرئاسية لعام 2007 ولم يستطع تجاوز الدورة الأولى.

ولكن الأوضاع تغيرت مع تسلم مارين لوبان لزعامة الحزب اليميني القومي، حيث حققت المرتبة الثالثة في أول انتخابات رئاسية تشارك بها عام 2012 محققة نسبة 17.9%، متفوقة بذلك على أبيها الذي حصل على نسبة 16.9% من الأصوات حين وصل للجولة الثانية في عام 2002.

وهو ما جعل لوبان الأب يصرّح إثر هذه النتائج الجيّدة التي حققتها ابنته في الدور الأول، قائلا “لست غيورا من مارين إنني سلمت المشعل إلى ابنتي التي تركض أسرع مني”.

وعلى وقع شعار حملتها الرئاسية لعام 2017 “إعادة ترتيب فرنسا”، واصلت مارين لوبان ترتيب إستراتيجيتها وركضها لتتبوأ المرتبة الثانية (21.30%) وتمر إلى الجولة الثانية صحبة مرشح الوسط إيمانويل ماكرون (24.01%).

السرعة القصوى

ولكن بحسب المتابعين للشأن الفرنسي، فإن مرشحة حزب “التجمع الوطني” بلغت سرعتها القصوى في الانتخابات الرئاسية الحالية لعام 2022، حين حصلت في الدورة الأولى على 23.15%، في حين حصل الرئيس المنتهية ولايته على 27.84% من الأصوات، ليتأهل المرشحان للمرحلة الحاسمة في الاقتراع التي ستكون يوم 24 أبريل/نيسان. وتعتبر هذه أعلى نسبة حققتها لوبان في الحملات الرئاسية الثلاث التي شاركت فيها.

ويرى الكثير من المراقبين أن مارين لوبان تبدو قريبة جدا من قصر الإيليزيه أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع هذا التقارب الكبير وتضاءل النقاط بينها وبين ماكرون.

كما أن اليمين المتطرف الفرنسي أخذ زخما كبيرا في هذه الانتخابات الرئاسية، حيث تظهر النتائج حصوله على ثلث الأصوات تقريبا باحتساب نسبة الأصوات التي حصل عليها مرشح حزب “الاسترداد” إيريك زمور (7.1%) ونيكولا ديبون إينيان “انهضي فرنسا” (2.1%)، وكلاهما دعوا للتصويت لصالح مارين لوبان في الدورة المقبلة. محققا بذلك (اليمين المتطرف) النتيجة الأعلى ليس خلال 64 سنة من عمر الجمهورية الخامسة وحدها، بل على امتداد تاريخ فرنسا الحديث بأسره.

ويمكن القول إن هذا الزخم الكبير والصعود الصاروخي والنجاح الذي يعيشه اليمين المتطرف اليوم، كان نتيجة عقود من التجربة والخبرة التي اكتسبتها مارين لوبان من أبيها ومن محيطها السياسي، وهو ما عبرت عنه عقب نجاحها في الدورة الأولى، قائلة “نواجه هذه الدورة الثانية متسلّحين بخبرة اكتسبناها قبل 5 سنوات ستعود علينا بنفع كبير”.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply