باريس – كثفت الأزمة الأوكرانية التكتلات الجيوسياسية الدولية، وسرّعت التحديات الأمنية والإستراتيجية، خاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي الذي تدور الحرب على أرضه وحدوده، ووجدت الدول الأوروبية نفسها لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية بين فكي كماشة التهديدات العسكرية الروسية المباشرة وبين التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تهدد استقرارها الاجتماعي والسياسي والدبلوماسي.

وكخطوة لمواجهة هذه التحديات الجيوإستراتيجية والتكتلات الإقليمية والتهديدات الأمنية صدّق رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي منذ أيام على وثيقة “البوصلة الإستراتيجية” للأمن والدفاع التي تهدف إلى تعزيز الحضور العسكري للتكتل مع عودة الحرب إلى أوروبا.

وتتضمن الوثيقة إنشاء قوة للرد السريع يصل قوامها إلى 5 آلاف جندي يمكن نشرهم بسرعة في حالة الأزمات، كما تسعى إلى تعزيز السياسة الأمنية والدفاعية للاتحاد الأوروبي بحلول 2030.

وعن جملة هذه التحديات والأسئلة الأمنية الإستراتيجية الدفاعية وعدة قضايا أخرى ذات علاقة بارتدادات الحرب الروسية على أوكرانيا تحاور الجزيرة نت الخبير الدولي ورئيس المعهد الأوروبي للاستشراف والأمن إيمانويل دوبوي، وهو متخصص في قضايا الأمن الأوروبي والعلاقات الدولية، وكان مستشارا سياسيا بارزا للقوات الفرنسية في أفغانستان، وهذا نص الحوار.

  • إلى أي مدى تمثل الحرب الروسية على أوكرانيا تهديدا وجوديا حقيقيا لدول الاتحاد الأوروبي؟

أعتقد أن التهديدات موجودة، خاصة على الجانب الشرقي من أوروبا، ولكن التهديد المباشر الأول يبقى على أوكرانيا التي تم غزوها من قبل روسيا، وتشمل التهديدات أيضا الدول التي تشترك في الحدود مع أوكرانيا والمجاورة لها، مثل بولندا والتشيك ومولدوفا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا.

كل هذه الدول معرضة لتأثيرات الحرب الروسية على أوكرانيا ومعرضة للغزو الروسي في أي وقت، على غرار ما تعرضت له جورجيا عام 2008.

وفي نفس السياق، لا ننسى أيضا شركاء أوروبا وجيرانها من دول القوقاز، على غرار أذربيجان وأرمينيا، ودول الاتحاد الأوروبي التي ليست عضوة في الناتو مثل فنلندا والسويد.

بالمحصلة الغزو الروسي لأوكرانيا عمّق السؤال الأمني لأوروبا، وأعاد طرح علاقة الدول الأوروبية بروسيا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي السابق.

  • بعد تصديق دول الاتحاد الأوروبي على وثيقة “البوصلة الإستراتيجية” للأمن والدفاع هل تعتقد أنها ستضمن الأمن لدول الاتحاد أمام التحديات التي تواجهها أوروبا؟

البوصلة الإستراتيجية ليس مهمتها أن تقوي الدفاع الأوروبي، ولكن مهمتها أن تشعر الدول الأوروبية بأهمية الأجندة والإستراتيجية الدفاعية الموحدة لأوروبا، وكذلك أن تشرح التهديدات الأمنية الحقيقية التي تواجه أوروبا حتى عام 2030، وتدفعها للاستقلال التام عن روسيا والتفكير جديا لمواجهة هذه التحديات الأمنية واختلاق حلول مستقبلية لها، ذلك أن الاتحاد الأوروبي كان يعلم بالتهديدات الروسية المباشرة منذ عام 2013، ولكنه لم يفعل شيئا تجاه هذه التهديدات ولم يمنع الغزو الروسي لأوكرانيا، وهنا تأتي أهمية البوصلة الإستراتيجية وسن سياسة دفاعية جدية لدول الاتحاد.

من قمة استثنائية للاتحاد الأوروبي في بروكسل لبحث الأزمة الأوكرانية في 17 فبراير/شباط 2022 (الأناضول)
  • ولكن عمليا هل ستحقق هذه “البوصلة الإستراتيجية” الاستقلال الأمني لأوروبا؟

لا، هي ليست سوى إستراتيجية لأنه ليس هناك جيش أوروبي، ولن تصبح فاعلة إلا حين تتدارك الدول الأوروبية هذا التأخر في السياسة الدفاعية، وتعي أهمية خلق قوة دفاعية عملية من أجل مواجهة التحديات، وروسيا ليست هي التحدي الوحيد اليوم.

البوصلة الإستراتيجية ليست إجابة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، ولكنها إجابة على كل التحديات الأمنية والإستراتيجية التي تطرح على الاتحاد الأوروبي، مثل الإرهاب والهجرة وأزمة الطاقة والحروب السيبرانية والقوى الاقتصادية الصاعدة.

البوصلة الإستراتيجية ستساهم في دفع تبني وخلق هوية إستراتيجية لكل الدول الأوروبية على حد سواء، وهذا ليس موجودا الآن.

  • ما هو رأيك في من يرى أن هذه الخطوة الإستراتيجية الأمنية جاءت متأخرة كثيرا مقارنة بالمتغيرات الجيوسياسية الدولية التي شهدها العالم منذ نهاية الحرب الباردة؟

لا بد من الأخذ في الاعتبار أن هذه البوصلة الإستراتيجية هي نتيجة لعدة خطوات وسياسات أوروبية سابقة تصب في نفس الاتجاه من أجل سياسة دفاعية موحدة.

وقد كانت الخطوة الأولى عام 2003 حين تم التصويت على إستراتيجية أوروبية للدفاع، ثم تطورت الخطوات، وفي عام 2013 تم العمل على تطوير الخطوة الأولى من خلال “وثيقة سولانا” التي كانت في عهد ممثل السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي خافيير سولانا في تلك الفترة.

إذن بالنتيجة نرى أن البوصلة الإستراتيجية هي ليست جديدة تماما، وإنما هي مرحلة متطورة من مشاريع سابقة تعود إلى 50 عاما سابقة، ولكن الفرق الوحيد هو أن الدول الأوروبية لم تكن ترى ضرورة في إنشاء قوة دفاعية مستقلة وإستراتيجية أمنية واضحة، خاصة بوجود حلف الناتو الذي كان يرى أن أي إستراتيجية دفاعية أوروبية يجب أن تتم من داخل الناتو وليس من خارجه.

لذلك، لا أعتقد أن هذه البوصلة الإستراتيجية جاءت متأخرة، وإنما السياقات والتحديات هي التي تغيرت، فالحروب التي خاضها الاتحاد الأوروبي قبل 10 أعوام ليست هي نفس الحروب اليوم، لذلك فالبوصلة تطورت لتخرج في شكلها الحالي.

  • هل يمكن اعتبار إنشاء القوة العسكرية الأوروبية تعزيزا لقوة الناتو أم بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة عليه تجسيدا لتصريح الرئيس ماكرون العام الماضي الذي أعلن فيه الموت السريري للناتو؟

بداية، لا بد من وضع تصريح الرئيس ماكرون وإقراره بالموت السريري للناتو في سياقه لتلك الفترة، أما اليوم فالمرحلة التاريخية تغيرت بعد 24 فبراير/شباط تاريخ الغزو الروسي لأوكرانيا.

حلف الناتو اليوم هو في أقوى حالاته نتيجة الأزمة الأوكرانية، وهو يتحرك ويقدم البرهان على أنه قوة عسكرية مهمة، إذ وضع 40 ألف جندي على الحدود الأوكرانية، ولديه 120 طائرة حربية جاهزة للإقلاع من حاملات الطائرات، كما يوجد 100 ألف جندي على كامل التراب الأوروبي، مع 10 آلاف جندي إضافي من الولايات المتحدة في حالة تأهب قصوى.

في المقابل، تجدر الملاحظة أن حلف الناتو ليس منظمة مستقلة، وإنما هو مجموعة من الدول المتوحدة والمتعاضدة على سياسة دفاعية معينة، لذلك فإن تقوية السياسة الدفاعية لأوروبا هي قوة مضاعفة أيضا للناتو وليست ضده، ليس هناك موقفان مختلفان للدول الأوروبية ولحلف الناتو، وإنما هناك توافق تام في المواقف وفي السياسة الدفاعية للجانبين.

  • هل الاستقلال العسكري الذي تخطط له أوروبا قادر على جعلها تحقق الاستقلال السياسي عن الولايات المتحدة والتبعية الدبلوماسية لها؟

على الورق هذا ممكن، لأن الهدف هو أن تكون أوروبا أقل اعتمادا على السلاح والعتاد الأميركي، ولكن الاستقلال الإستراتيجي للاتحاد الأوروبي يجب أن يمر بتطوير القدرات التكنولوجية والمقدرة الصناعية للاتحاد في مجال الأسلحة، وهذا المعطى لم يتحقق بعد على أرض الواقع.

والمعطى الثاني هو عدم قدرة الدول الأوروبية على الاكتفاء بالسوق الأوروبية في عتادها العسكري، إذ تشتري أغلب دول الاتحاد السلاح من الولايات المتحدة، وأبرز مثال على ذلك هو الطلبيات التي قدمتها ألمانيا منذ أيام بخصوص شراء طائرات أميركية من نوع “إف-35” (F-35)، في الوقت الذي هي شريكة فاعلة مع فرنسا وإسبانيا في مشروع “سكاف” (Scaf) لصناعة الطائرات الحربية.

لذلك، فعدم القدرة على تحقيق الاستقلالية الدفاعية تجر إلى عدم الاستقلالية السياسية والدبلوماسية، ذلك أنه حين تشتري الأسلحة الأميركية هناك بند ملزم في عقد البيع يشترط على المشتري ألا يستعمل هذا السلاح إلا بموافقة البلد البائع، وألا يصدره لبلدان أخرى، وبالتالي ينتفي شرط الاستقلال السياسي والدبلوماسي.

إيمانويل دوبوي (يمين) لمراسل الجزيرة نت: تهديد روسيا باستعمال السلاح النووي مجرد مناورة سياسية (الجزيرة)
  • كيف تقرأ العودة القوية لألمانيا في سوق التسلح والخروج من حالة الحياد التي اتخذتها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

أعتقد أن العودة الألمانية القوية للتسلح تشكل مشكلة حقيقية لفرنسا، لأن ألمانيا صارت تتفوق في ميزانية دفاعها التي بلغت 52 مليار يورو هذا العام على ميزانية الدفاع الفرنسية التي هي عند حدود 50 مليار يورو.

يضاف إلى ذلك أن ألمانيا قررت مضاعفة ميزانية دفاعها 3 مرات للعامين المقبلين، وذلك بتخصيص 100 مليار يورو لهما، وهذا يعني أنها ستواصل تكديس وشراء الأسلحة بتواتر قوي، خاصة من الولايات المتحدة، وهي في نفس الوقت بلد منتج للأسلحة.

ولذلك، فإن شركات صناعة الأسلحة الألمانية أصبحت يوما بعد يوم أكبر منافس للشركات الفرنسية المختصة في هذا المجال، وفي ظل وجود الكثير من المشاريع المشتركة الألمانية الفرنسية مثل “سكاف” و”إيرباص” (Airbus) من المتوقع أن يخلق هذا التنافس أزمات سياسية مستقبلية بين ألمانيا وفرنسا.

  • هل يمكن اعتبار الدعم العسكري الكبير والتسليح الذي تقدمه الولايات المتحدة وأوروبا إلى أوكرانيا فضلا عن تدفق المقاتلين الغربيين الأوروبيين إلى كييف بمثابة حرب عالمية ثالثة غير معلنة؟

لا أتفق مع وجهة النظر هذه، ولا أعتبر أننا أمام حرب عالمية ثالثة ولو بطريقة غير مباشرة، الحرب العالمية ستكون بين الولايات وروسيا، ونحن لا نرى هذا على أرض الواقع، فضلا على أن هاتين الدولتين لا تريدان هذه الحرب، وهذا لا يعني كون ما يجري اليوم على الأراضي الأوكرانية ليس حربا مدمرة وخطيرة ومؤثرة.

وأعتقد أن كل القوى العالمية تفعل كل شيء من أجل عدم تحويل الأزمة الأوكرانية إلى حرب عالمية كبرى خارج الأراضي الأوكرانية.

في المقابل، نستطيع أن نتحدث عن حرب عالمية باردة وتكتلات جيوإستراتيجية ومواجهات على المستويات الاقتصادية والدبلوماسية والسياسية.

  • هل السيناريو النووي مطروح اليوم في الأزمة الأوكرانية؟ وما خطورته وتبعاته إن وقع؟

لا أعتقد أن السيناريو النووي مطروح اليوم في الأزمة الأوكرانية، حتى وإن صرحت روسيا أنها وضعت قواتها النووية في حالة تأهب فإنها لن تخاطر باستعمال هذا السلاح الفتاك.

السلاح النووي سلاح إستراتيجي عند الدول العظمى، وهو وسيلة لإحداث التوازن الجيوسياسي أكثر منه سلاح عسكري يمكن استعماله في أي وقت، وروسيا تعرف هذا، لذلك فتصريحها حول السلاح النووي هو مناورة سياسية وتحذير للقوى الأخرى لعدم تجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها روسيا في معركتها مع أوكرانيا.

وفي حال استعمل هذا السلاح النووي فهي نهاية الكون ببساطة، فهذا السلاح موجود منذ عقود عند بعض الدول، ولكن لا أحد يجرؤ على استعماله مهما توترت وتعقدت العلاقات الدولية، لأن من سيستعمله سيوقع على نهايته وزواله قبل نهاية عدوه ونهاية الكون.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply