تحدثت في مقال سابق بـ”الجزيرة نت” عن تجربتي في دراسة العلوم السياسية قبل 3 عقود، وعن أوهام صناعة النخبة في مصر. واليوم أستأنف الحديث عن الموضوع من خلال تجربة شخصية مررت بها قبل نحو 20 عاما.

كان ذلك في مايو/أيار 2003 حين وصلني خطاب من ديوان رئيس الجمهورية يطلب مني الحضور إلى مبنى مجاور لقصر الاتحادية بمنطقة مصر الجديدة (هليوبوليس)، وذلك فيما يشبه الاستدعاء الرسمي. في البداية، أصابني القلق والتوتر من الاستدعاء وترددت في الذهاب، وكنت وقتها أعمل باحثا مبتدئا بمكتب وزير التجارة الخارجية الأسبق يوسف بطرس غالي، وقد اعتقدت لأول وهلة أن الاستدعاء يخص عملي بالوزارة أو شيئا من هذا القبيل. كذلك كنت قد بدأت في التعاون البحثي مع مجلة “السياسة الدولية” ونشرت بها دراسة عن آثار الغزو الأميركي للعراق الذي كان قد وقع قبل ذلك التاريخ بشهرين تقريبا. فقلت ربما يكون الاستدعاء بهدف مناقشة ما جاء في الدراسة، خاصة أنها لاقت استحسان كثير من الباحثين والكتّاب وقتها. وقد طافت في ذهني كل الاحتمالات والأسباب التي تجعل ديوان رئيس الجمهورية يقوم باستدعائي، بما في ذلك عملي بجامعة القاهرة الذي امتد لنحو 4 سنوات أواخر التسعينيات، أو بسبب سفري للسعودية للعمل صحفيا في جريدة “الوطن” التي كانت وقتها تحت التأسيس أواخر عام 2000، واستقالتي منها بعد 3 أسابيع فقط وعودتي للقاهرة.

على أي حال، وصلت المكان المقصود في الموعد المحدد، وقد كان عبارة عن مبنى أقرب إلى منشأة عسكرية (عرفت لاحقا أنه كان أحد القصور التي كان يستخدمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر)، والجميع يتحرك فيه بحساب وحذر، ولا يتحدث المارة مع بعضهم البعض. وبعد أن تم تفتيشي بشكل صارم عند بوابة الدخول، وتأكد أحد أعضاء الشرطة العسكرية الذين يقفون عند الباب الخارجي للمكان من هويتي، اصطحبني أحد الأشخاص العسكريين إلى مبنى داخلي يبدو من شكله الخارجي أنه قد بُني لتوه، إذ تفوح رائحة الدهان الجديد في المكان، وتعكس ألواحه الزجاجية ضوء الشمس الساطع.

وصلت إلى قاعة لاستقبال الضيوف داخل المبنى، حيث طلب مني مرافقي الانتظار. وبينما أنا جالس لمحت 4 شباب آخرين قريبين منيّ في السن، وقد بدوا وكأن على رؤوسهم الطير؛ فازداد القلق والتوتر من هذا الاستدعاء، الذي بدا وكأننا نستعد لمغامرة غير محسوبة العواقب. وبعد فترة من الصمت، آثرت أن أفتح معهم الكلام. وبعد عدة دقائق اكتشفت أنه قد وصلهم خطاب الاستدعاء نفسه الذي وصلني. وقد كان من بين هؤلاء الشباب اثنان يعملان معيدين بجامعتين مصريتين، وآخران كانا يعملان بالمجال البحثي، ومن خريجي كليتي وجامعتي أيضا (كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة).

بعد دقائق، اصطحبنا أحد الأشخاص إلى مكتب أحد لواءات الجيش المتقاعدين الذين كانوا قد تركوا الخدمة والتحقوا بالمجال البحثي خاصة في مجال البحوث العسكرية والأمنية. رحب بنا سيادة اللواء، وقد بلغنا منا التوتر والقلق مبلغه، وبادرنا بالقول “متقلقوش (لا تقلقوا)، الموضوع بسيط”، موضحا أنه قد تم استدعاؤنا من أجل العمل في “مشروع بحثي وطني كبير”، وأنه تم اختيارنا من بين مجموعة كبيرة من شباب الباحثين، بعدما أجريت التحريات الأمنية والاستخباراتية اللازمة عنا، وذلك من أجل إنجاز “هذه المهمة الوطنية العظيمة!” هكذا قالها بفخر على طريقة الممثل يوسف شعبان (في شخصية اللواء محسن ممتاز) مع الممثل محمود عبد العزيز في المسلسل الشهير “رأفت الهجان”، ولم يكن ينقصنا سوى سماع الموسيقى التصويرية للمسلسل في الخلفية. ثم دخل لاحقا في التفاصيل، قائلا: “سوف تقومون بعمل توثيق لتاريخ مصر المعاصر منذ ثورة (انقلاب) 1952 وحتى الآن (كان ذلك عام 2003)”، وإن هذا المشروع الوطني العظيم سوف يبدأ بتأريخ فترة حكم الرئيس مبارك منذ أن كان نائبا للرئيس السادات في منتصف السبعينيات.

وفي الوقت الذي تحمّس فيه الزملاء للمشروع ورأوه نقلة مهنية، وربما سياسية، بحكم أن العمل يتبع ديوان رئاسة الجمهورية، ساورني القلق من المشروع برّمته، وشعرت بأن ثمة شيئا ما خلفه يتجاوز ما قاله سيادة اللواء حول “المشروع الوطني الكبير”. ولم يدم ظني طويلا، فحين التقينا سيادة اللواء في المرة الثانية دخل في تفاصيل المشروع، قائلا “نريد منكم أن تقوموا بتوثيق رحلات الرئيس مبارك الخارجية، وذلك بالعودة لقصاصات الجرائد الرسمية (الأهرام والأخبار والجمهورية) التي تم حفظها وأرشفتها على آلاف الشرائح من الماكروفيلم”. وقتها صدقت شكوكي بأن “المشروع الوطني الكبير” ما هو إلا مجرد “فنكوش” على طريقة عادل إمام في فيلم “الفنكوش”، وأنه ليس له أي علاقة بالوطنية من قريب أو بعيد. وفي حين انتشى بقية الزملاء بـ”البرستيج” والمكانة الاجتماعية التي يمكن أن يضفيها عليهم عملهم بديوان رئيس الجمهورية، رغم أن سيادة اللواء كان قد أكدّ في أول لقاء معه أن الموضوع يجب أن يظل سرّا وألا يعلم أحد بطبيعة “المشروع الوطني الكبير” الذي سوف نعمل عليه، فإنني قررت ألا أشارك في هذه المهزلة “الفنكوشية”.

لذلك في اللقاء الثاني لاستلام العمل، الذي كان هذه المرة في قصر عابدين مع لواء آخر من لواءات الجيش المتقاعدين، وبينما كان بقية زملائي منهمكين في توقيع وإنهاء أوراق استلام العمل الجديد، طلبت الحديث مع سيادة اللواء منفردا، وقلت له: “عذرا سيادة اللواء، ولكني لن أوقع هذه الأوراق، ولن أشارك في هذا المشروع!” ففوجئ الرجل بما قلته، وسألني مستغربا ومستنكرا “لماذا؟”، فقلت بعد أن استجمعت كل ما أستطيع من قوة ورباطة جأش “بصراحة هذا مشروع فنكوش؛ وليس له علاقة من قريب أو من بعيد بمسألة الوطنية أو بتأريخ تاريخ مصر المعاصر، وإنما هو مجرد أرشفة للسجل السياسي للرئيس مبارك”. وتابعت أنني “لم أدرس سياسة واقتصاد كي أعمل أرشفجيا في بلاط سيادة الرئيس!” وقعت كلماتي على سيادة اللواء وكأنها “دُش بارد” في ليلة شتوية، فلم يرد إلا بكلمة واحدة: “براحتك!” فخرجت من قصر عابدين وقدماي تسابق الريح، وكأنني أركض من سجن كبير نحو باب الحرية. وكانت تلك هي المرة الأولى والأخيرة التي أدخل فيها قصر عابدين، وللحديث بقية.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply