كشأن غيرها من الأحداث التاريخية الكبرى، سوف تعيد الحرب الروسية على أوكرانيا تشكيل العلاقات الدولية وبنية النظام الدولي لعقود قادمة. كذلك من شأنها أيضا إعادة ترتيبات خريطة التوازنات والتحالفات الإقليمية بشكل لم يكن ليخطر على بال أحد. رأينا ذلك بعد الحربين العالمتين الأولى والثانية، وكذلك عقب نهاية الحرب الباردة، حيث انتقل النظام الدولي والأنظمة الإقليمية الفرعية إلى مرحلة جديدة من التفاعلات والديناميات التي ساهمت في صعود دول وأنظمة وسقوط أخرى.

وفيما يخص المنطقة العربية وجوارها الإقليمي، فإن عملية إعادة ترتيب خارطة التحالفات والتوازنات تجري على قدم وساق حتى من قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. رأينا ذلك خلال السنوات الست الماضية، وتحديداً منذ وصول إدارة الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض عام 2016، ووقوع الأزمة الخليجية وحصار قطر في يونيو/حزيران 2017، وذلك تزامنا مع انتكاسة ثورات الربيع العربي.

وخلال العامين الأخيرين، شهدنا إعادة تموضع من كافة الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة، خاصة مع وصول إدارة بايدن إلى السلطة والتي ساهمت في دفع عملية إعادة رسم خريطة التحالفات الإقليمية. وقد ساهم متغيران أساسيان في تسريع هذه العملية، هما: أولا ما يبدو أنه انسحاب أميركي من المنطقة العربية خاصة منطقة الخليج العربي، وذلك من أجل التركيز على مواجهة الخطر الصيني المتصاعد في منطقة شرق وجنوب شرق آسيا. والثاني -وهو مترتب بدرجة أو أخرى على الأول- هو سعي إدارة بايدن لإحياء الاتفاق النووي مع إيران.

بالنسبة للمتغير الأول، فلا شك أن الولايات المتحدة ترى الصعود الصيني، اقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا، بمثابة تهديد لهيمنتها الدولية، ولمصالحها ومصالح حلفائها في آسيا، خاصة اليابان وكوريا الجنوبية والهند والفلبين وفيتنام وتايوان. وفي سبيل ذلك تسعى واشنطن بكافة الطرق من أجل احتواء هذا الخطر من جهة، وتدعيم تحالفاتها مع تلك البلدان من جهة أخرى. لذلك لم تسحب أميركا أيا من قواتها وأساطيلها المرابطة في آسيا منذ عقود، والتي يتجاوز عددها 80 ألف جندي معظمهم متمركزين في اليابان وكوريا الجنوبية، بل على العكس من ذلك دعمتها عسكريا وتكنولوجيا واستخباراتيا. كذلك شكلت تحالفاً جديدا مع أستراليا والمملكة المتحدة (أوكوس) بهدف تقوية الردع البحري في منطقة المحيط الهادي. وثمة قناعة داخل الدوائر السياسية في واشنطن بأن صعود الصين لن يكون صعودا سلميا، وأنه قد آن الأوان لمواجهة هذه الحقيقة قبل أن تصبح أمراً واقعاً.

الإمارات تخشى من أن يؤدي الانسحاب الأميركي من المنطقة إلى انكشافها بشكل كامل عسكريا وإستراتيجيا وأمنيا، ليس فقط أمام إيران ولكن أيضا أمام حلفائها ووكلائها في المنطقة، خاصة الحوثيين الذين ضربوا أبو ظبي في العمق خلال الشهور الماضية.

هذا التركيز الأميركي على الخطر الصيني يعني عمليا إعادة تموضع إستراتيجي وعسكري وسياسي أميركي في مختلف بقاع العالم بما فيها المنطقة العربية، وهو ما يعني تقليل الانخراط الأميركي في صراعات المنطقة، بل العمل على تبريدها بشكل أو بآخر. كذلك يعني التخفف -ولو قليلا- من أعباء الدفاع عن الحلفاء بشكل مباشر، كما كانت هي الحال خلال العقود الخمسة الماضية. ولذلك لم يكن غريبا أن يكون رد فعل واشنطن على هجمات الحوثيين على أبو ظبي والرياض باردا ولا يرقى لعلاقة وطيدة بين حلفاء إستراتيجيين. وهو الأمر الذي شهدناه حتى أيام ترامب، حين ضربت إيران منشآت نفطية سعودية دون أن يكون هناك رد فعل أميركي قوي وحاسم عليها. ولعل هذا هو ما يعطي جرأة أكثر لإيران وحلفائها في المنطقة بالتمادي في تهديدهم للإمارات والسعودية.

أما المتغير الثاني فهو إحياء الاتفاق النووي بين إيران والغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة التي كانت قد انسحبت من الاتفاق بشكل أحادي في مايو/أيار 2018 تحت إدارة ترامب. فقد تعهد بايدن أثناء حملته الانتخابية بالعودة للاتفاق، وذلك من أجل ضمان عدم تحول إيران إلى قوة نووية قد تؤدي إلى عدم استقرار الأوضاع في المنطقة. ولذلك فقد تم تعيين مبعوث خاص لملف إيران في إدارة بايدن، وهو روبرت مالي، وتم استئناف المفاوضات غير المباشرة بين الطرفين على مدى عام كامل، وقد وصلت المفاوضات إلى محطتها الأخيرة وربما يتم توقيع الاتفاق خلال الأسابيع المقبلة. وهو الاتفاق الذي حاولت -ولا تزال- دول عربية وإسرائيل تعطيله بكافة الطرق، وذلك لمخاوفها من تداعياته على دور إيران في المنطقة، وبالتالي تهديد مصالحها ودورها الإقليمي.

وقد كانت نتيجة هذين العاملين ما شهدناه على مدى الشهور والأسابيع الماضية من حركة دؤوب من أجل تشكيل تحالف إقليمي جديد يضم محور المطبّعين مع إسرائيل (الإمارات والبحرين والمغرب ومصر والأردن والسودان) ومن خلفهم السعودية من جهة، وتل أبيب من جهة أخرى، وذلك بحجة ملء فراغ ما يرونه انسحابا أميركيا من المنطقة ومواجهة ما يرونه خطراً إيرانياً وجودياً على دولهم وأنظمتهم. ورأس الحربة في هذا التحالف الجديد، هما: الإمارات وإسرائيل.

فالإمارات تخشى من أن يؤدي الانسحاب الأميركي من المنطقة إلى انكشافها بشكل كامل عسكريا وإستراتيجيا وأمنيا، ليس فقط أمام إيران ولكن أيضا أمام حلفائها ووكلائها في المنطقة، خاصة الحوثيين الذين ضربوا أبو ظبي في العمق خلال الشهور الماضية. وفي هذا الصدد يمكن فهم الامتعاض الإماراتي من إدارة بايدن من خلال الامتناع عن التصويت على قرار مجلس الأمن بإدانة الغزو الروسي على أوكرانيا في بداية الحرب. كذلك يمكن أيضا فهم استقبال الإمارات للرئيس السوري بشار الأسد قبل أيام، وذلك فيما يبدو نكاية بأميركا التي تنادي بعزل الأسد دوليا وإقليميا، كما تفعل حاليا مع بوتين. كذلك فإن ثمة قناعة إماراتية متزايدة بأهمية الدخول ضمن مظلة الحماية الأمنية والاستخباراتية الإسرائيلية، وذلك لمواجهة الخطر الإيراني، وعلى ما يبدو فقد جرّت خلفها كلا من البحرين والسعودية في هذا الصدد.

أما إسرائيل، فترى أنها الآن أمام فرصة تاريخية لن تعوّض حيث تقدّم نفسها لمحور التطبيع باعتبارها الوكيل الحصري لأميركا في المنطقة، وأنها تستطيع إقناع -بل الضغط على- إدارة بايدن بعدم التخلي عن حلفائها في المنطقة خاصة الإمارات والسعودية ومصر. وهي قد فعلت ذلك حرفياً خلال المرحلة الماضية. فخلال لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت مع بايدن في أغسطس/آب الماضي، طالبه بعدم الضغط على مصر والسعودية فيما يخص ملف حقوق الإنسان. كذلك ثمة تقارير إخبارية بأن إسرائيل لعبت دورا مهما في حصول مصر على الطائرات المقاتلة “إف 15” التي رفضت واشنطن إعطاءها لمصر لمدة 40 عاما.

ولذلك لم يكن غريبا أن تستضيف إسرائيل، لأول مرة منذ تأسيسها، قمة عربية لوزراء خارجية كل من مصر والإمارات والبحرين والمغرب، وذلك في مدينة “النقب” المحتلة، فيما يعد تدشينا لتحالف إقليمي جديد تقوده إسرائيل في المنطقة بشكل لم يكن لأحد أن يتخيل حدوثه قبل أعوام قليلة.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply