|

يمكن أن يطلق على جيلنا -جيل الثمانينيات من القرن الماضي- جيل التحولات الكبري؛ وطنيا وإقليميًا وفي النظام الدولي. وإن ما يهمنا في هذا المقال هو تحولات النظام الدولي، فقد التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية (جامعة القاهرة) أوائل الثمانينيات من القرن الماضي لندرس القطبية الثنائية كما تبلورت تدريجيا بعد الحرب العالمية الثانية 1945، وما إن بدأ يتشكل وعينا حتى فوجئنا بانهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر العقد، وكأن ذلك جرى بلا مقدمات على ما يبدو أنها لم تصل لبعض أساتذة العلاقات الدولية بالكلية. في الحقبة التالية، شهدنا النظام الأحادي القطبية الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة بمفردها، ونال فيه “الشرق الأوسط الكبير” -أي العالم الإسلامي- الأولوية الأولى لاهتماماتها، خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وكان العنوان الأبرز لهذه الفترة “الحرب على الإرهاب”، التي اتخذت وصف العالمية. وأخيرا وليس آخرا، مع عودة طالبان لكابل أغسطس/آب 2021، التي سبقها الفشل الأميركي في العراق، والأزمة المالية عام 2008، فإننا نعيش حقبة ما بعد سبتمبر/أيلول.

استوقفني طويلا تحول الصراع مع روسيا -في أيام قليلة بعد غزو أوكرانيا- إلى حالة شعبية في الغرب وشعبوية أيضا تتجاوز مقاطعة السياسيين لتمتد إلى الرموز الثقافية من موسيقى وأدب وفودكا، وتشترك فيها الجامعات والمتاحف، بالإضافة إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني وقطاعات شعبية مستعدة للتطوع العسكري، في حالة غير مسبوقة

بكل سماتها وخصائصها، هذه الحقبة لم تتضح ملامحها النهائية بعد؛ فلا تزال في مرحلة تشكل، وكما يقول علماء العلاقات الدولية: “إن أخطر لحظة في نموذج معين للسياسة الخارجية هي بدايته”، لأن الخطوط الحمراء لا تكون واضحة، ولا يفهم كل طرف دوافع ونيات وقدرات الأطراف الأخرى. إن أصعب لحظة في هذا النموذج هي ولادته وبدايته؛ لأنه في البداية وعند الولادة تظل القواعد مجهولة، والتحالفات غير مختبرة، وليست هناك إمكانية للتنبؤ. هذا هو المكان الذي نحن فيه الآن. لكن أين موقع الغزو الروسي لأوكرانيا من هذا التحول؟
دعنا نجازف في هذا المقال بالتركيز على ملمح محدد من هذا التحول، وهو كيف يجري استحضار وتوظيف الأيديولوجيا/القيم في هذا التحول؛ في ظل امتزاج شديد لسياسات القوة، وللإستراتيجي والجيوسياسي بها، والمقصود بالأيديولوجيات هنا ليست المقولات الفكرية فحسب، وإنما الممارسات والمؤسسات والنماذج والرموز والمفاهيم التي تستخدم. أليس غريبا حديث روسيا عن تطهير أوكرانيا من “النازيين الجدد”، في مقابل استخدام الغرب لمفهوم الإرهاب لوصف السلوك الروسي؛ وكأن المواجهة بين الطرفين توقفت مع بوتين عند الحرب العالمية الثانية، ومع الولايات المتحدة والغرب لغزو أوكرانيا امتداد لحقبة “الحرب على الإرهاب” التي بنيت فيها هياكل ومؤسسات وسياسات وممارسات يصعب التحول عنها؛ وإن جرى بعدها إعادة تعريف من المشمول بها انطباقا وخروجا (تأمل إطلاق لفظ الإرهاب الآن على اليمين المتطرف في الغرب وممارسات بوتين).

استوقفني طويلا تحول الصراع مع روسيا -في أيام قليلة بعد غزو أوكرانيا- إلى حالة شعبية في الغرب وشعبوية أيضا تتجاوز مقاطعة السياسيين لتمتد إلى الرموز الثقافية من موسيقى وأدب وفودكا… إلخ، وتشترك فيها الجامعات والمتاحف، بالإضافة إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني وقطاعات شعبية مستعدة للتطوع العسكري، في حالة غير مسبوقة، حتى سويسرا -الدولة المحايدة- تتخلي عن حيادها. فبرغم ما أحدثه تفجير برجي التجارة من هزة عميقة في الولايات المتحدة، فإن الخطاب الرسمي سريعا أدرك أن من مصلحته أن يحدث تمييزا بين المسلمين وبين الإرهابيين، وبين الإسلام وبين خطابات التطرف العنيف، في حين لا نجد هذا التمييز بين بوتين وبين الشعب الروسي، ولا بين عقيدته القومية التوسعية أو الباحثة عن مجد قديم انتهى زمانه وبين الإسهام الثقافي والفني الروسي الذي يستمتع به العالم في كل حين.

هذه الحالة المستجدة تستحق التوقف أمامها طويلا، خاصة في ظل امتزاجها بممارسة عنصرية طافحة، لأنها تعكس تغيرا عميق الجذور في المزاج الغربي العام سينتج عنه في المستقبل عنفا هيكليا ممنهجا لا يمكن مواجهته؛ خاصة أنه يحمل قابلية للاستدعاء بسرعة، وهنا يمكن أن نشير إلى ما جرى للصينيين مع تفشي جائحة كورونا، وما يجري في فرنسا من عنف ثقافي وقيمي ضد “الأغيار” الذين لا يلتزمون قيم الجمهورية. ويفاقم الوضع أن ذلك يحدث في لحظة تحول لهيكل القوى في النظام الدولي من حيث التغير في القوة والوزن والسياسة، مما يعني أن هناك مجالًا كبيرًا للخطأ وسوء الفهم وسوء التقدير.

ستكون بعض جوانب المنافسة الصينية الأميركية مادية في طبيعتها، حيث تسعى كل دولة إلى تطوير قدرات ذكاء اصطناعي فائقة، وتكنولوجيا طاقة خضراء، ومنتجات طبية حيوية، إلى جانب قدرات عسكرية أكثر تقدمًا. ولكن سيكون جزءا كبيرا من المنافسة معياريًا أيضا حيث تسعى كل دولة للدفاع عن القواعد أو المعايير التي تعتقد أنه يجب أن يقوم عليها النظام العالمي وتعزيزها.

في فترة الحرب الباردة، كانت حدود الصراع واضحة وأسقفه رسمت بدقة، وزادها الردع المتبادل وضوحا، كما كانت التحالفات مستقرة إلى حد بعيد، والنماذج الأيديولوجية متبلورة ومتمايزة؛ فنحن -في حال الشيوعية- أمام نموذج يقوم على تدخل الدولة ونظام الحزب الواحد وتركيز على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل النظام الرأسمالي القائم على تدخل محدود للدولة وتعدد حزبي وحريات فردية وسياسية. في فترة الهيمنة الأميركية -التي امتدت لنحو 3 عقود- وتخللتها حقبة سبتمبر/أيلول لم تستشعر فيها الولايات المتحدة قيودا على قوتها، على حد قول فريد زكريا. فقد دخلنا عصرًا لم يكن فيه نزاع على هيمنة الولايات المتحدة سياسيًا وعسكريًا، حتى فيما يتعلق بمجال الأفكار كانت هناك “نهاية التاريخ” (مقولة فوكوياما التي أعلن بها انتصار النموذج الليبرالي). وفي هذه الفترة أيضا شهدنا مقولة “صراع الحضارات” لهنتنغتون التي كانت ذروة الهوس الغربي بالإسلام، لكنه ليس هوسا ثقافيا وفكريا؛ فقد امتزج بتدخل عسكري امتد لعقدين من الزمان لقي فيه أكثر من 800 ألف مصرعهم، وتكلف حوالي 6 تريليونات ونصف تريليون دولار. إلا أن الأهم فيما نحن بصدده هو أن هذه الفترة شهدت استخدام مسألة الديمقراطية ونشر النموذج الليبرالي باعتبارها فكرة توسعية يجب أن نصيغ بها العالم على مثالنا، فكان غزو العراق ومن قبل أفغانستان؛ هذان النموذجان مثلا ذروة هذه الفترة، وبفضلهما أيضا انتهت هذه الحقبة لفشل الغرب في بناء الأمة بالغزو العسكري.

إعادة التأسيس الأيديولوجي

3 لقطات ترسم الصورة في التأسيس الأيديولوجي لما نحن فيه:

الأولى: قواعد الصين

ستكون بعض جوانب المنافسة الصينية الأميركية مادية في طبيعتها حيث تسعى كل دولة إلى تطوير قدرات ذكاء اصطناعي فائقة، وتكنولوجيا طاقة خضراء، ومنتجات طبية حيوية، إلى جانب قدرات عسكرية أكثر تقدمًا. ولكن سيكون جزءا كبيرا من المنافسة معياريًا أيضا، حيث تسعى كل دولة للدفاع عن القواعد أو المعايير التي تعتقد أنه يجب أن يقوم عليها النظام العالمي وتعزيزها.

إن النظام العالمي المفضل للصين هو في الأساس نظام “ويستفالي”، أي يؤكد على السيادة الإقليمية وعدم التدخل، ويحتضن عالما حيث توجد العديد من الأنظمة السياسية المختلفة، ويميز الاحتياجات (المفترضة) للجماعة -مثل الأمن الاقتصادي- على حساب حقوق الفرد أو حرياته. وكما عبرت عالمة السياسة جيسيكا تشين فايس مؤخرًا، فإن الصين تسعى إلى نظام عالمي “آمن للاستبداد”، حيث لا تعرض الادعاءات الكونية حول الحقوق الفردية سلطة الحزب الشيوعي الصيني للخطر أو تثير انتقادات لسياساتها الداخلية.

كما تقوم الممارسة الصينية على فصل التنمية عن طبيعة النظام السياسي؛ وفيه تسعى الصين إلى تقديم المساعدة التنموية من دون اشتراط للإصلاحات المحلية (كما تفعل برامج المساعدات الأميركية والغربية عمومًا)، وقد ثبت أن هذه الصيغة جذابة بشكل خاص في كثير من البلدان؛ خاصة غير الديمقراطية.

اللقطة الثانية: العقل الإستراتيجي للقيم الروسية

جعل بوتين لروسيا قيما تؤسس عقلها الإستراتيجي، وكان هذا العقل هو أحد أهم المشكلات مع الغرب. تدرج إستراتيجية الأمن القومي للاتحاد الروسي التي أقرها رئيس روسيا عام 2021 في التاريخ كوثيقة شحذت قضية القيم الروحية والأخلاقية التقليدية للبلاد، صحيح أنه تم إبراز القيم أيضًا في سابقتها -إستراتيجية 2015- إلا أن إستراتيجية 2021 اتسمت بلغة جديدة حين جعلت مصدر التهديد للقيم الروسية هو “التغريب”.

تتعرض القيم الروسية -وفقًا للوثيقة- للهجوم من قبل الولايات المتحدة وحلفائها والشركات المتعددة الجنسيات، فضلاً عن المنظمات الأجنبية غير الربحية وغير الحكومية والدينية والمتطرفة والإرهابية. ترى الوثيقة أنه إذا كان الإرهاب والتطرف -بطريقة أو بأخرى- منفصلين عن الفكرة “الغربية”، فإنهما يعتبران الآن تهديدات من النظام نفسه. يعتبر انتقال المواجهة مع الغرب إلى عالم القيم مرحلة جديدة في التفكير الإستراتيجي الروسي، ففي وقت سابق، كان يُنظر إلى مثل هذه المواجهة بشكل أكبر من منظور الفئات المادية (الدفاع والاقتصاد)، لكنها تحولت الآن بوضوح إلى المستوى الأيديولوجي. لماذا حدث هذا الانتقال؟ وما هي المشاكل التي ستواجهها روسيا في النموذج الجديد؟ وما هي نقاط القوة والضعف في هذا النهج؟ أسئلة تستحق المتابعة.

اللقطة الثالثة: للولايات المتحدة والغرب عموما

وفيها نقاط كثيرة أهمها:

  • حديث بايدن عن تحالف الديمقراطيات الحديث في مقابل الأنظمة التسلطية، واستبعاد الصين وروسيا من قمة الديمقراطية يناير/كانون الثاني الماضي مع شيطنة بوتين ومن ورائه شعبه، يجعل من الديمقراطية والقيم الليبرالية ذات طبيعة توسعية من شأنها أن تجعل تهديدها للحزب الشيوعي الصيني ونظام بوتين القائم على التسلطية الفردية تهديدا وجوديا.
  • ضعف المثال الغربي -والأميركي منه بوجه خاص- حيث الاستقطاب الشديد، وتصاعد اليمين، وضعف أو تآكل المؤسسات السياسية، والتشكيك في نزاهة الانتخابات، وزيادة التفاوتات واللامساواة، والصراع العرقي، مع أزمات اقتصادية متتالية منذ الأزمة المالية عام 2008، وأخيرا وليس آخرا، العجز في إدارة أزمة الوباء.
  • الفكرة التوسعية التصادمية مع روسيا والصين وضعف المثال في ظل تراجع -بعد الانسحاب من أفغانستان- عن التدخل العسكري المباشر، إنما سلاح العقوبات هو الأداة الأساسية للمواجهة.
  • ملمح أخير وهو ما يخص النظام القائم على القواعد، وهنا نحن بإزاء صراع متعدد المستويات: هذا النظام بنته الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب الباردة متحررا من القيود على سلطتها -كما قدمنا- أما الصين فتسعي للتعامل مع الممارسات والمؤسسات التي أنتجتها هذه القواعد بالتغيير، وإن اتخذ طابعا تدريجيا غير صدامي.
    أما روسيا فلا تعترف بهذه القواعد لأنها بنيت على حسابها وضد مصلحتها وتعمد الغرب إذلالها؛ لذا فهي تسعى إلى تقويضها، حتى يعترف الغرب بدورها، أو على الأقل يأخذ مصلحتها وأمنها القومي بعين الاعتبار.
  • في هذه الأجواء: لا حديث عن عدم الانحياز؛ فمن ليس معنا فهو ضدنا -كما قال بوش عند إعلانه للحرب العالمية على الإرهاب عام 2011 عقب تفجير برجي التجارة بأيام قليلة- وكما جرى في التصويت في الجمعية العامة مؤخرا. ما الذي فعله الغزو الروسي في هذا السياق؟ إنه وحد الغرب -بقيادة الولايات المتحدة- في مواجهة “عدو” يهدد قيم الغرب ونمط الحياة فيه، ويستخدم في حربه الهجينة أدوات جديدة ممتزجة بتهديد نووي، ويحدث ذلك في ظل تنشيط للذاكرة التاريخية التي لم تكد تهدأ بعد الحرب العالمية الثانية وحقبة سبتمبر/أيلول وما جرى بهما من فظائع.

نختم فنقول: إذا ارتكزت سياستك إلى الأيديولوجيا وصناعة العدو؛ فلا التقاء وإنما صراع دائم، أما إذا قدمت الواقع والإستراتيجية والجيوسياسية، فالحديث حينئذ يكون عن التنافس أو التقاء المصالح.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply