عرفت روسيا في الأيام الأخيرة توترا حادا بين مجموعة فاغنر والجيش الروسي، بل تطورت الأزمة لتصبح أزمة مع نظام بوتين برمته، إذ أعلنت “فاغنر” التمرد المسلح بسبب خلافات متراكمة مع الجيش الروسي، والاتجاه نحو موسكو العاصمة قبل العدول عن ذلك.

وقد نتجت عن هذا التمرد ردود فعل متعددة ومتوالية من نظام بوتين، ابتداء من إعلان جهاز الأمن الداخلي (FSB) فتح تحقيق جنائي مع رئيس جهاز فاغنر “يفغيني بريغوجين”، وإعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن التمرد المعلن خيانة للوطن، ليتم احتواء الأزمة بعد إصدار بوتين لقانون يمنع متابعة المتعاونين في الحرب ومساءلتهم جنائيا، ويظهر أن ذلك كان جزءا من عملية التفاوض التي كان الرئيس البيلاروسي وسيطا فيها.

لكن هذا الاحتواء المرحلي لأزمة كبيرة في سياق حرب تخوضها روسيا في أوكرانيا لا يعني انتهاء الأزمة التي تبدو مؤشرا على فهم الصراع الحالي بين أجنحة النظام الروسي وطبيعة الاختلاف بينها الذي قد يؤدي في أي لحظة إلى تعميق الانقسام داخل بنية النظام الذي شيده بوتين، ويجعل فترة ما بعد التمرد مفصلية في بنية السلطة داخل روسيا، وكذلك على الحرب الدائرة في أوكرانيا.

فاغنر.. حيثيات النشأة والصعود

قبل الحديث عن الأزمة الراهنة، يتعين التوقف مع صيرورة التطور الذي مرت منه مجموعة فاغنر، والموقع الذي تحتله داخل بنية النظام الذي شيده بوتين، بل يستدعي الأمر فهم النظم السياسي في روسيا نفسها ولو بإشارات مجملة. فيتيعن القول إن روسيا الاتحادية، رغم الجغرافيا التي تحتلها والتاريخ العريق باعتبارها دولة عظمى، سواء في عهدها القيصري أو السوفياتي، وكذلك موقعها الحالي في النظام العالمي، على الرغم من كل ذلك فإن بنية نظامها السياسي الذي أنشأه بوتين لا يمكن النظر إليها من منطلق النظم والدول الأخرى الحديثة.

فقد شيد بوتين بعد مرحلة “يلتسين” نظاما قائما تحتل فيه الأوليغارشيا القديمة والجديدة موقعا رئيسيا؛ هذه الأوليغارشيا راكمت الثروة بفعل عملية الخصخصة عقب انهيار الاتحاد السوفياتي والقرب من مركز السلطة والحكم، وذلك يعني أن علاقاتها قائمة على الولاءات والمصالح. ولا تتوقف بنية الحكم المستفيدة من الوضع على طبقة الأثرياء، بل تدخل نخبة الأجهزة الأمنية والعسكرية والساسة في دائرة القوى الداخلية المستفيدة من نسق بوتين السياسي، وتعدّ في الوقت نفسه أساس حكمه.

فمن حيث طبيعة تشكل هذا النسق وعناصره الفاعلة فيه يظهر أنه لا يتجدد بشكل طبيعي، وذلك يجعله يغيّب دور المؤسسات وميكانيزمات وقيم تشكلها الحديثة، لكن على الرغم من أن جزءا من مراكز القوة والتأثير تظل متخفية ومرتبطة برأس الدولة وليس بالخيارات السياسية التي يتم التداول فيها كما هو شأن كل النظم الديمقراطية فقد مكّن ذلك بوتين في العقود الماضية من تحقيق بعث جديد لروسيا، وفق رؤية جيوسياسية تسعى لترميم الانكسارات التاريخية التي عرفتها روسيا، وبالأساس الأضرار التي لحقتها من انهيار الاتحاد السوفياتي، ابتداء من جورجيا إلى جزيرة القرم ثم الحرب الراهنة في أوكرانيا.

لم تكن روسيا وهي تستعيد تموقعها تعمل بطريقة تقليدية حيث تخوض الدول حروبا بالجيش الوطني النظامي فقط، بل إلى جانب ذلك برز “المرتزقة” أو ما يسمى بالشركات العسكرية الخاصة. وقد برزت مجموعة فاغنر رسميا أول الأمر مع دعم الانفصاليين بشبه جزيرة القرم سنة 2014 والمدن الشرقية لأوكرانيا، ثم لاحقا في سوريا وليبيا والسودان وغيرها من الدول.

ليس جديدا في عرف الدول اللجوء إلى شركات خاصة لتحقيق الأمن الداخلي، وهذا منتشر في العديد من الدول، لكن تبقى قدراتها ومجال تأثيرها وفعاليتها عوامل مرتبطة بخدمات أمنية خالصة للأفراد والمؤسسات، الأمر الذي تختلف فيه مجموعة فاغنر عن بقية الشركات الأمنية والعسكرية من حيث من الغموض، ومن حيث علاقتها بالنظام في روسيا والأدوار المنوطة بها، وهي كالآتي:

أولا: تتجاوز في وظيفتها البعد العسكري الذي يضطلع به الجيش الوطني، ذلك أن ما تخضع له صيرورة الحرب والنزاع ضمن القانون الدولي يجعل الجيوش أكثر تحفظا، خشية وقوع جرائم حرب تجعلهم عرضة للمساءلة الجنائية الدولية، فيكون استخدام فاغنر أو المرتزقة بغية تجنب المساءلة، ذلك أن يد الشركات العسكرية الخاصة متحررة من أي التزامات قانونية أو أخلاقية.

ثانيا: الدور الحاسم لمجموعة فاغنر في مجموع التدخلات الروسية، فهؤلاء المرتزقة يمهدون الطريق أمام التدخل الروسي العسكري أو السياسي، وهو ما حدث في سوريا بالاستيلاء على آبار النفط وفي السودان وأفريقيا الوسطى من خلال شركات التعدين والذهب، وفي ليبيا مع تسليح أمير حرب آخر، هو خليفة حفتر سنة 2019 خلال هجومه على طرابلس ومساعدته بالمرتزقة للسيطرة على العاصمة، وفي مالي بتقديم الدعم الأمني، وفي الحرب الراهنة بأوكرانيا بمدينة باخموت وغيرها.

ثالثا: يظهر من خلال تدخلاتها في عدد من الدول أن أنشطتها يتداخل فيها العسكري الأمني بالاقتصادي الذي يسعى وراء الربح، في الارتباط بالمصالح الروسية، وهذا يجلي حصولهم على امتيازات خاصة من روسيا.

إذا نظرنا إلى مجموعة المرتزقة من خلال أنشطتها العسكرية بموازاة التدخلات الروسية يمكننا القول إن التدخل الروسي في ليبيا وأفريقيا الوسطى والسودان ومالي لم يكن ليتم بشكل مباشر، وذلك بسبب القيود التي يفرضها القانون الدولي، وكذلك صراع القوى الأخرى على الأرض، الذي يفرض تدبيرا مختلفا للصراع المسلح، وهو ما جعل مرتزقة فاغنر أداة فعالة في يد روسيا لبسط النفوذ في عدد من مناطق النزاع، لكن طبيعة عمل المرتزقة وأمراء الحروب الخارجة عن الأخلاق الإنسانية والتقيد بالقانون وإكراهات الصراع السياسي يصبح مع صيرورة الزمن وتعقد أوجه الصراع مشكلة كبرى تهدد الدول.

أزمة “فاغنر” تصلح مؤشرا على فهم الصراع الحالي بين أجنحة النفوذ في روسيا، وطبيعة الاختلاف بينها الذي قد يؤدي في أي لحظة إلى تعميق الانقسام داخل بنية النظام، ويجعل فترة ما بعد التمرد مفصلية في بنية السلطة وفي الحرب الدائرة في أوكرانيا.

من أداة للاستخدام إلى عنصر تهديد

ربما لم يكن في حسبان متابعي الحرب الروسية في أوكرانيا، والصورة التي تبدو بها روسيا في المنتظم الدولي، أن يظهر مشهد تقدم رتل من آليات المرتزقة كانوا أداة للنظام الروسي نفسه في عدد من تدخلاته، وهي تتوجه إلى العاصمة، أو تعلن مجموعة مرتزقة نمت وتطورت بمساعدة النظام الروسي العصيان والتمرد وتطالب برأس الجيش، إحقاقا للعدالة حسب قول زعيم المجموعة، وذلك بسبب خلافات تعود إلى السيطرة على مدينة سوليدار في يناير/كانون الثاني الماضي (2023)، ثم لاحقا بمدينة باخموت حيث انتقد الجيش في عدم تقديم الدعم اللازم، وهو الخلاف الذي تعمق مع رفض رئيس مجموعة فاغنر قرار وزير الدفاع القاضي بضرورة توقيع المتطوعين في الحرب عقودا فردية مع الوزارة، الأمر الذي رفضه مرتزقة فاغنر، إلى أن حدث هجوم على قواته.

ظهرت أولى كلمات بريغوجين وهو يتهم وزير الدفاع بالكذب قبل بدء الحرب في أوكرانيا، وهذا يعني أن التصور والرؤية للحرب كانا من أسباب الخلاف، وفي الواقع فإن اتهام وزير الدفاع بخصوص الحرب في أوكرانيا ومساعيه لبناء مجد شخصي هو اتهام بالأساس لبوتين؛ ذلك أن قرار الحرب كان ضمن رؤية بوتين الجيوسياسية لروسيا، كما هو واضح في المبررات التي قدمها منذ إعلانه انطلاق العملية العسكرية.

ويعني ذلك أن الدوافع التي حركت التمرد لم تكن فقط كما هو معلن، وإنما كانت جزءا من طموح يرتبط بالسلطة والحكم، أو الحضور الوازن في مربع السلطة بحجم الدور الذي قامت به مجموعته في حروب شرسة بمدينة باخموت وسوليدار، أو الأدوار التي تقوم بها لنظام بوتين في كل مناطق النزاع.

فالتحرك الذي أجهض كان يمكنه النجاح والتأثير إذا حدث انقسام في مواقف أجهزة الدولة الروسية وبنية الحكم، لكنه في الوقت نفسه قد أبرز ضعفا وهشاشة في النسق القائم، وخدش صورة أقوى الجيوش في العالم وهو يخوض حربا شرسة قرن نجاحها بحماية أمن روسيا القومي، وفشلها بتهديد وجودي لروسيا.

لقد أبرز هذا التمرد حجم التهديد الذي يحمله أمراء الحرب والمرتزقة، فهم قد يصلحون أدوات للقيام بأدوار تخدم مصالح الدول، لكنهم في الوقت ذاته، من خلال نزعة العنف التي تتلبّسهم، يتحولون إلى عوامل تفكيك وهدم للدول الراعية لهم حينما تتناقض المصالح وتختلف الأهداف، ذلك أن المرتزقة لا تحركهم النزعة الوطنية أو الدوافع الأخلاقية أو الأيديولوجية، وإنما تحركهم حسابات الربح والخسارة، يقتلون من أجل المال.

ونحن إذا نظرنا إلى الامتيازات التي منحتها روسيا لفاغنر، والتي تتجاوز البعد العسكري، بالاضافة إلى طبيعة النسق السياسي الذي تغيب عنه الديمقراطية ويستشري فيه الفساد، وتنحاز فيه السلطة والثروة بناء على الولاء، فإن بيئة مثل هذه قد تسمح لكل صاحب قوة من عناصر ومكونات النظام نفسه أن ينمي طموحاته إلى ما يتجاوز الثروة، ذلك أن القوة هي القانون المحدد، وليست أي شرعة أخرى، والنموذج الذي شيده بوتين يحمل أزمته في داخله بالأساس.

ختاما: إن حدثا مثل الذي وقع في روسيا، حيث لم يبد حتى اللحظة الراهنة وقوعه بسبب تدخل خارجي، وإنما جاء تعبيرا عن تناقض داخلي، يجلي ما تحمله الحروب من شر للمجتمعات والدول، ذلك أن الحروب كلها شر للإنسانية برمتها، لكنها تكشف في الوقت نفسه مغامرات النظم المستبدة وعدوانها على الإنسان والمجتمع بعيدا عن الأخلاق والقانون، بتسليط مرتزقة تحللوا من البعد الأخلاقي والإنساني، ينشرون الموت.

ولأن طبيعة النظم الشمولية تتورع عن الخضوع للنقد والمساءلة، فإنه لم يكن يتصور أن تنقلب لحظة زهو بما تقوم به هذه المجموعات المقاتلة العابرة للحدود إلى لحظة تكون فيها تحت وقع تهديد للدول والكيانات التي تستعين بها، وأن دعم المليشيات وأمراء الحروب والجماعات المسلحة من أجل نشر الفوضى أو تحقيق مصالح معينة آنية يضرّ بمصالح إستراتيجية تهمّ كل المجتمع الإنساني.

ظهرت معالم ذلك الخراب وتفكيك المجتمعات وما يمكن أن تحمله نزعة إذكاء الحرب والاستثمار فيها، وصناعة أمراء أو نجوم مرتزقة؛ نفوسهم متعطشة للسلطة والثروة، على حساب إجهاض مدّ التحرر، في كل من سوريا وليبيا والسودان، ولعل ذلك اللهيب المشتعل في دول الشرق وأفريقيا قد فهم الكرملين وغيره من رعاة العنف الدموي حجم خطره، كما كان ينتظر من أوروبا والمنتظم الدولي أن يتحقق لهم الوعي بأن الصمت عن الخراب الذي نشرته روسيا والنظام السوري وغيرهما في عدد من المجتمعات تعبير عن أزمة أخلاقية، قبل أن تصل شظايا الحرب إلى الجغرافيا الأوروبية.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply