قبل 12 ألف عام من اليوم، أقام البشر أول وليمة احتفالية في التاريخ المعروف حتى الآن، وحدث هذا في الفترة الانتقالية بين حياة الترحال والصيد إلى حياة الزراعة والاستقرار. في شمال فلسطين، تحديدا في منطقة الجليل، وُجدت آثار ما يُعَدُّ أول وليمة في التاريخ داخل أحد كهوف الدفن. عُثر على بقايا 71 سلحفاة وعظام ثلاث مواشٍ بريّة في حفرتين، وفي كل حفرة، فوق طبقة من بقايا السلاحف، يرقد أحد الكهنة، مما يشي أن الطقس كان دينيا جنائزيا. ولم يكن العثور على بقايا كميات كبيرة من الطعام مشهورا عن تلك الفترة من التاريخ، مما يُشير إلى أنها آثار مناسبة خاصة لا تتكرر كثيرا.

 

كانت البقايا في حالة تدل على التعرُّض للطبخ والتكسير من أجل استهلاكها طعاما، وقُدِّر عدد المشاركين في الطقس بخمسة وثلاثين شخصا على الأقل. يرى الباحثون بالدراسة أن الولائم نشأت في الأساس لتخفيف التوتر وتقوية العلاقات بين مجموعات البشر التي بدأت تعتاد حياة الاستقرار ولم تعد قادرة على الترحال (1).

 

طعام في القمامة

حتى يومنا هذا، ما زالت الولائم تُعَدُّ لجمع العائلة والأصدقاء، وتقوية أواصر العلاقات، وتُعَدُّ فرصة لكسر روتين الطعام التقليدي اليومي. في الولائم والأعياد، نشعر بحرية أكبر في تحضير الأطعمة المكلفة التي لا نستطيع تناولها يوميا أو حتى شهريا. البط والديك الرومي، فخذة الضأن المشوية، ولحم الجمل ليست بالأصناف التي نتناولها في الأيام العادية، لذا تأتي الأعياد والمناسبات الدينية فرصة ممتازة للتحرر قليلا والبذخ في نوعيات الأطعمة ومشاركتها مع مَن نحب. ولكن لكل هذا جانب سلبي لا يمكن إنكاره أو التغاضي عنه أكثر من هذا، وهو: أين يذهب الفائض من كل هذا الطعام؟ وإن كان الطعام المتبقي في القدور صالحا للاستهلاك في اليوم التالي، فماذا عن الأطباق نصف المأكولة التي نُلقي بقاياها في سلة المهملات؟

 

لا أحد يحب إلقاء الطعام في القمامة، ولكن هذا يحدث على أي حال، بسبب بعض السلوكيات الاستهلاكية الخاطئة التي نرتكبها ربما دون قصد. يُهدَر قدر كبير من الطعام قبل حتى أن يصل إلى رفوف المحلات أو أدراج برّادك. منذ لحظة قطف الثمار، وتخزينها ونقلها، يُفقَد قدر لا بأس به منها، حتى إن بعض التقديرات تقول إن من كل 100 ثمرة بطاطس تُحصَد يستهلك الناس فعليا 25 ثمرة فقط، والباقي يُهدَر في سلاسل التوريد وفي مخازن المحلات وفي بقايا الطعام التي لا يتناولها أحد وتنتهي في سلة المهملات (2).

 

أحد أسباب هدر الطعام على مستوى الأفراد أو المؤسسات كالمطاعم والفنادق هو سوء تقدير عمر المواد الخام، أو تخزينها بطريقة خاطئة. كلا الأمرين يؤدي إلى الفساد السريع للأطعمة والانتهاء بها غير مستهلكة في سلة القمامة. شراء الأطعمة قبل تاريخ الانتهاء بفترة قصيرة، أو شراء الفواكه والخضر غير الطازجة، يعني وجوب استهلاكها في أسرع وقت ممكن قبل أن تفسد، الأمر الذي قد لا ننجح فيه دائما. الأمر الآخر هو التخزين الصحيح لكل عنصر غذائي بما يضمن بقاؤه صالحا للاستهلاك لأطول فترة ممكنة، وهو ما يحتاج منك إلى بحث وافٍ للطريقة الصحيحة لتخزين كل عنصر.

شراء الخضروات والفواكه غير الطازجة يؤدي إلى تلفها سريعا 
شراء الخضروات والفواكه غير الطازجة يؤدي إلى تلفها سريعا

بالطبع تزداد حِدَّة هذه السلوكيات في ولائم رمضان حيث تكثر العزائم، ويندفع الناس إلى شراء كميات كبيرة من المواد الخام، وطهي عدد كبير من الأصناف المتنوعة، لكي تُلاقي الوليمة قبولا عند الضيوف. لا بد من تقديم عدد لا بأس به من الأصناف وبكميات كبيرة، حتى لو كان متوقعا أن الضيوف لن يتناولوا هذا كله، من أجل الوجاهة الاجتماعية والتعبير عن كرم الضيافة البالغ. ينتهي الأمر بأطباق الضيوف نصف ممتلئة، والضيف غير قادر على الاستمرار في الأكل، كعادة الكثير من الصائمين الذين لا يستطيعون تناول وجبة كبيرة وقت الإفطار، وينتهي الأمر بالوليمة المكلفة ماديا وبيئيا في مكبات النفايات.

 

وجبات حارّة

قد لا تكون هذه مشكلة لو لم يكن العالم الذي نعيش فيه اليوم يعاني من مجاعات لا حصر لها، ونقص حاد في الأمن الغذائي بسبب التغير المناخي. بحسب تقديرات منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، فإن 9% من سكان العالم في عام 2019 تعرَّضوا للجوع، ومن المتوقَّع أن هذا النسبة تزايدت بسبب جائحة كورونا (3). في عالم يُلقى فيه الطعام بالأطنان في مكبات النفايات، يعاني 14 مليون طفل دون سن الخمس سنوات من سوء التغذية الحاد (4). تعاني منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا على وجه خاص من سوء التغذية، بنسبة 22% من السكان، وكعادة التغير المناخي وأزمات الغذاء، فإن الدول الأقل مساهمة في حدوث الأزمة هي الأشد معاناة من تبعاتها (5).

 

على الجانب الآخر، فإن نفايات الطعام العضوية تساهم بقدر لا بأس به في انبعاثات غازات الصوبة الزجاجية، المسبب الرئيسي للتغير المناخي، الذي يُهدِّد بدوره الأمن الغذائي العالمي، بجانب كوارث بيئية أخرى. وفقا لتقرير مؤشر نفايات الطعام لعام 2021 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)، فإن 17% من مجموع إنتاج الطعام العالمي يُهدَر كل عام، ويشارك المواطن العادي بنسبة 61% من هذا الهدر، بينما تشارك خدمات الطعام بنسبة 26%. على الأقل فيما يخص هدر الطعام، فإن مسؤولية الأفراد تفوق مسؤولية المؤسسات والحكومات بكثير، وأصبح من الضروري تغيير السلوكيات الفردية الضارة بالبيئة والأمن الغذائي في أسرع وقت (6).

 

الأمر لا يقتصر على الطعام نفسه، بل هناك هدر للوقود المُستهلك في إنتاج وتوصيل هذا الطعام إلى بيتك، والمياه التي استُهلكت في إنتاج وتعليب هذا الطعام. كل كيلوغرام من اللحم يذهب إلى القمامة يعني هدر 50 ألف لتر من الماء قد استهلكت منذ كان هذا اللحم ماشية ترعى وحتى صار قطعا مطهية على طاولتك (7). كل خطوة في إنتاج الطعام تستهلك وقودا ينتج عنه غازات احترارية، بداية من قطف الثمار وعلى طول سلاسل التوريد، وسوء إدارة هذه العملية لا يؤدي فقط إلى هدر المحاصيل بل والطاقة والمياه أيضا. الأمر معقد ومتشابك ويمس العديد من العناصر المهمة للحفاظ على الكوكب كله.

 

إن لم يكن هذا كافيا، فما زال هناك مصير بقايا الطعام التي تذهب إلى مكبات النفايات. هذه البقايا لا تختفي فحسب، بل تتحلل مُنتجِة كميات كبيرة من غاز الميثان وثاني أكسيد الكربون. لو اعتبرنا أن “هدر الطعام” دولة، كان ليحتل المرتبة الثالثة على مستوى العالم من حيث الانبعاثات الكربونية بعد الصين والولايات المتحدة. غازات الصوبة الزجاجية الصادرة عن الطعام المهدر تُقدَّر بـ 6% من إجمالي انبعاثات الغازات الاحترارية العالمية، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف الانبعاثات الصادرة عن حركة الطيران الدولي (8). دعنا لا ننسى أن سلوكيات الأفراد تلعب دورا لا بأس به في هذه الكارثة البيئية، لذا تعلُّم سلوكيات جديدة صديقة للطعام أصبح أمرا لا مفر منه.

 

حلول عملية

الخطوة الأولى لحل أي مشكلة هي إدراك وجود المشكلة والدور الذي نلعبه فيها. يمكننا أن نعزو هدر الطعام على المستوى الفردي إلى أخطاء التخزين أو شراء كميات من الطعام أكبر مما ينبغي، أو إلى طهي الكثير من الأصناف في الولائم، أو حتى عدم التعامل مع الفائض من الطعام بالطريقة المثلى.

 

للتغلب على ذلك، يمكنك أن تبدأ فورا بتغيير عاداتك الشرائية، عن طريق التخطيط السابق للوجبات ثم التسوق للمكونات المطلوبة فقط كل أسبوع. يضمن هذا ألا تحتوي ثلاجتك على مواد خام زائدة عن الحد قد تفسد قبل أن تجد فرصة لاستخدامها. قد لا تكون هذه الطريقة مناسبة للجميع، هنا يمكنك شراء الكثير من الخضراوات واللحوم ثم تخزينها في المُجمد، في الثلاجة بالطريقة الصحيحة، وتخليلها أو تجفيفها، وكلها طُرق مثالية لحفظ الطعام لفترة أطول، وأيضا لتوفير الوقت والجهد اللازم لإعداد الطعام. عليك أيضا دراسة الطريقة الصحيحة لتخزين كل نوع من الأطعمة حتى تحافظ عليها صالحة للاستهلاك لأطول وقت ممكن (9) (للمزيد اقرأ: أطعمة تفسد بالتخزين في الثلاجة.. إليك الطريقة الصحيحة لحفظها).

التخليل والتجفيف أحد طرق الحفاظ على الطعام لفترة أطول
التخليل والتجفيف أحد طرق الحفاظ على الطعام لفترة أطول

لا يجب تخزين البطاطس والبصل في مكان واحد، وهو خطأ يقع فيه الكثيرون. أجل، كلاهما يجب تخزينه في مكان مظلم وجيد التهوية، لكن البصل يفرز غاز الإيثيلين الذي يتسبب في فساد البطاطس سريعا، لذا يفضل تخزينهما في سلال جيدة التهوية ولكن بعيدا عن بعضهما. التفاح من الفاكهة التي يجب تخزينها في البراد، ولكن في علبة مغلقة لأنه يفرز غاز الإيثيلين أيضا، الذي يتسبب في تلف الخضراوات الورقية المجاورة له في البراد. الخضراوات الورقية التي قُطِّعت يجب أن تُحفظ في عبوات محكمة الغلق داخل البراد، مما يضمن أن تعيش لفترة أطول ولا ينتهي بها الأمر أوراقا مصفرة في سلة المهملات (10). (للمزيد اقرأ: أخطاء حفظ الطعام.. لهذه الأسباب تهدرين نصف مشترياتك في الثلاجة)

 

بالإضافة إلى ما سبق، تخلَّ عن المثالية أثناء اختيارك للثمار، فليست كل الثمار القبيحة فاسدة، في الواقع يتم التخلص من الكثير من الثمار بسبب شكلها رغم أنها صالحة تماما للأكل. بالطبع لا نتحدث عن الثمار التي نخرها الدود أو ظهر على سطحها فطر أبيض، فهذه بالفعل غير صالحة للاستخدام. يمكنك أيضا الاستفادة من محتويات برادك بالكامل إن حرصت دوما على تفريغ مشترياتك الجديدة خلف المنتجات الأقدم، لأن الطعام المختبئ في الخلف يُنسى حتى يفسد، لذا بقليل من النظام في برادك ستصبح سفيرا للأمن الغذائي.

 

يمكنك كذلك تعلُّم فن التعامل مع بقايا الطعام. يمكنك تخزين بقايا الطعام من عدة وجبات في المجمد وتناولها وجبة كاملة فيما بعد، أو صُنع وجبة جديدة باستخدامها، أو وضعها في علبة لتتناولها على الغداء في العمل، أو حتى بالتبرع بها لشخص محتاج. في السياق الأخير تحديدا، نجد العديد من المبادرات التي تهدف إلى إعادة تدوير بقايا الطعام لضمان حصول المحتاجين على وجبات نظيفة ومغذية (11). هناك أيضا مبادرات لتحويل بقايا الطعام إلى سماد عضوي صديق للبيئة يعود بالنفع على قطاع الزراعة (12).

تسعى بعض المبادرات لتحويل بقايا الطعام إلى سماد عضوي يعود بالنفع على قطاع الزراعة. 
تسعى بعض المبادرات لتحويل بقايا الطعام إلى سماد عضوي يعود بالنفع على قطاع الزراعة، المصدر: City of Portland Bureau of Planning and Sustainability.

إن كنت من محبي الثقافة اليابانية، فربما تعلم بالفعل أن اليابانيين يُقدِّمون الطعام في صحون صغيرة وبكميات قليلة نسبيا، وتُعزى صحتهم الجيدة ورشاقتهم إلى هذه العادة التي تمنع الإفراط في تناول الطعام. هناك ميزة لا شك فيها من تناول طعامك في أطباق صغيرة، وهي أنك لن تضع في طبقك أكثر مما ستأكل، ولن يكون هناك فائض من الطعام يُلقى في القمامة، لذا يمكننا الاستفادة من الثقافة اليابانية في هذا الصدد، وهو أمر لن يساعد فقط في الحد من هدر الطعام، بل سيشجعك على تناول كميات أقل من الطعام لصحة ووزن أفضل.

 

يُعَدُّ شهر رمضان دائما فرصة للتغيير للأفضل في كل أوجه الحياة، لذا ربما يمكنك هذا العام أن تضيف هدفا جديدا لأهدافك الرمضانية وهو أن تغيّر سلوكياتك المتعلقة بالطعام، منذ لحظة شراء المواد الخام وحتى لحظة تقديمه على المائدة. وإن كنت من محبي تناول الطعام خارج المنزل، احرص على طلب الوجبة التي تستطيع إنهاءها، أو على الأقل لا تترك باقي وجبتك وترحل، بل اطلب تغليفها وخذها معك لتناولها فيما بعد، أو التبرع بها لشخص محتاج ربما تقابله بالمصادفة في طريق عودتك. لا يمكن أن يمر رمضان دون ولائم تلم شمل الأسرة والأصدقاء، ولكن بقليل من التخطيط يمكنك الحصول على وليمة مميزة وصديقة للبيئة في الآن ذاته.

———————————————————————-

المصادر

1- First clear evidence of organized feasting by early humans — ScienceDaily

2- Food waste: what you need to know

3- Global food waste twice the size of previous estimates | World Economic Forum.

4- World Hunger: Key Facts and Statistics 2021.

5- 5 world hunger facts you need to know

6- UNEP Food Waste Index Report 2021

7- Food waste: what you need to know

8- Food waste is responsible for 6% of global greenhouse gas emissions – Our World in Data

9- 20 Easy Ways to Reduce Your Food Waste

10-How to Keep Your Produce Fresh for Weeks (Hint: It’s Not Always in the Fridge)

11-بنك الإمارات للطعام

12- إطلاق مبادرة تدوير لإنتاج السماد العضوي والأعلاف

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply