تلجأ الحكومات الديمقراطية إلى اختيار المرشحين وفقا لمقدار شعبيتهم وشخصياتهم والبرامج الانتخابية المقدمة التي يسعون من خلالها لتقديم الفائدة وتطوير الدولة؛ لكن في الحكومات التكنوقراطية لا يحتاج المرشحون لمناصب صنع القرار إلى برنامج انتخابي أو شعبية أو انتخاب، وإنما تكفيهم خبرتهم ومقدار علمهم.

تعريف التكنوقراطية

التكنوقراطية هي نظام حكم يقترح اختيار صناع القرار على أساس خبراتهم في مجال ما، مثل الخبرة في المجالات التقنية، أو الخبرة في أنواع محددة من العلوم، وغير ذلك. ويعرف صناع القرار الذين اختيروا على هذا الأساس باسم “التكنوقراط”.

ويقوم نظام التكنوقراطية على فكرة أن القرارات التي يتخذها هؤلاء تكون أقرب للصواب لأنهم يعتمدون في اتخاذ قراراتهم على البيانات والمناهج العلمية الموضوعية بدلا من الاعتماد على آرائهم الشخصية.

أما مصطلح “تشكيل حكومة تكنوقراط” فيعني اختيار المرشحين على أساس خبراتهم ومهاراتهم التقنية فحسب.

ويظهر تعارض واضح بين التكنوقراطية والديمقراطية التقليدية، ففي النظم الديمقراطية يتم اختيار القادة وصناع القرار على أساس مقدار شعبيتهم، إذ يعتمد وصولهم إلى السلطة على تصويت الغالبية العظمى لهم، في حين يتوقف اختيار التكنوقراط على مقدار المعرفة والمهارات التي يمتلكونها.

تاريخ المصطلح

مصطلح التكنوقراطية مشتق في الأصل من الكلمتين اليونانيتين: (tekhne) وتعني “المهارة” و(kratos) التي تعني القوة.

ويُنسب استخدام هذا المصطلح للمرة الأولى إلى المهندس الأميركي وليام هنري سميث، الذي استخدم كلمة “تكنوقراطية” في مقال كتبه عام 1919، للإشارة إلى الديمقراطية الصناعية، إذ يُدمج ذوو الخبرة مثل المهندسين والعلماء في عملية صنع القرار داخل الشركات.

لاحقا عرف عالم الاقتصاد والاجتماع الأميركي ثورستين فيبلين بصفته “أبا” للتكنوقراطية عندما نشر مقالا بعنوان “المهندسون ونظام السعر” في عام 1921.

حيث جادل فيبلين بأن التطورات التكنولوجية ستفرض وجود خبراء في مواقع صنع القرار، لا سيما في المجال الاقتصادي، وتنبأ بالانحلال الطبيعي لنظام مؤسسات الأعمال القائمة، التي لا تعتمد على العلماء والمهندسين.

أُدرج فيبلين -المدافع المبكر عن التكنوقراط- بصفته أحد أعضاء التحالف التقني، الذي يتكون أعضاؤه من المهندسين والعلماء والتكنوقراط الآخرين في مدينة نيويورك.

وعلى الرغم من أن الحديث عن التكنوقراطية بدأ في عشرينيات القرن الماضي، فإنها لم تظهر كحركة بارزة إلا في الثلاثينيات، فخلال فترة الكساد الكبير تعالت الأصوات الداعية إلى التكنوقراطية في الولايات المتحدة، وبات ينظر إليها على أنها طوق النجاة الذي سيخرج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي فرضها الكساد، إذ ساد الاعتقاد بأن المهنيين ذوي المهارة العالية هم أكثر قدرة على حل مشاكل البلاد الاقتصادية من السياسيين المنتخبين على أساس شعبيتهم.

حركة التكنوقراطية

تأسست حركة التكنوقراط في الولايات المتحدة على يد هوارد سكوت وماريون كينغ هوبرت في الثلاثينيات من القرن الـ20.

إذ اقترح هؤلاء الاستعاضة عن استبدال الحكومة بالتكنوقراط مثل العلماء والمهندسين الذين يمتلكون المهارات والخبرات اللازمة لإدارة الاقتصاد. وجادلوا بأن المجتمع الذي يرأسه خبراء تقنيون سيكون أكثر إنتاجية وعقلانية.

وانتقدت حركة التكنوقراطية نظام الأسعار القائم في البلاد لافتقاره للفعالية، واقترحت التخلص التدريجي من هذا النظام. علاوة على ذلك، جادلت الحركة بأنه ينبغي منح المهندسين العقلانيين غير السياسيين السلطة المطلقة للتحكم بالاقتصاد وتوجيهه، لأنها الطريقة الوحيدة لتخليص البلاد من البطالة والديون.

لم تحظ حركة التكنوقراط سوى بشعبية قصيرة الأمد في الولايات المتحدة في أوائل الثلاثينيات خلال فترة الكساد الكبير. وبحلول منتصف الثلاثينيات بدأ الاهتمام بالحركة يتراجع على نحو واضح، وقد عزا المؤرخون ذلك إلى الخطة الجديدة التي قدمها الرئيس الأميركي آنذاك فرانكلين روزفلت لمواجهة آثار الكساد الكبير، والتي تضمنت سلسلة من إصلاحات العمل العام والإصلاحات المالية.

لكن المؤرخ وليام إي أكين يرفض هذا الاستنتاج ويرجع الأمر إلى أن الحركة تراجعت في منتصف الثلاثينيات بسبب إخفاق التكنوقراط في ابتكار “نظرية سياسية قابلة للتطبيق” لتحقيق التغيير.

وبالإضافة إلى حركة التكنوقراطية في الولايات المتحدة، فقد أُنشئ عدد من المنظمات التكنوقراطية بعد الحرب العالمية الأولى في مناطق عدة حول العالم، لكن لم يكتب لها الاستمرار لفترة طويلة.

فعلى سبيل المثال حُظرت المنظمات التكنوقراطية في كندا قبل الحرب العالمية الثانية بسبب معارضتها للحرب، ولم يرفع الحظر حتى عام 1943 حين تعهدت تلك المنظمات بالتزامها بالحرب في العام ذاته.

وعلى الرغم من المعارضة التي لقيها التكنوقراط في بداية نشأتهم فإنهم موجودون اليوم في معظم الحكومات في جميع أنحاء العالم، إذ يتم اختيار التكنوقراط لرئاسة الإدارات والهيئات التي تتطلب مهارات وخبراء متخصصين.

على سبيل المثال تتخذ وزارات المالية في الكثير من الدول القرارات بناءً على آراء المهنيين والخبراء في المالية والاقتصاد والضرائب والقانون.

انتقادات للتكنوقراطية

وُجهت عدّة انتقادات لمبدأ التكنوقراطية، من أبرزها:

  • التكنوقراطية نقيض الديمقراطية: فمبدأ التكنوقراطية يناقض الديمقراطية في واقع الأمر. وتفضل الحكومات التكنوقراطية اختيار الأشخاص ذوي الخبرات التقنية على اختيار الأشخاص الذين تنتخبهم الأغلبية من السكان.
  • تهميش شريحة واسعة من السكان: فتقدر التكنوقراطية آراء التكنوقراط ووجهات نظرهم وترفعهم إلى نوع من “الأرستقراطية” بينما تُهمش آراء ووجهات نظر عامة الناس. وفي مقال نُشر عام 2022 في مجلة “بوسطن ريفيو” (Boston Review)، يسلط عالم السياسة ماثيو كول الضوء على مشكلتين مع التكنوقراطية؛ أنها تخلق “تركزات غير عادلة للسلطة” وتعتمد على “نظرية معيبة للمعرفة”. وفيما يتعلق بالنقطة الأولى، يجادل كول بأن التكنوقراطية تستثني المواطنين من عمليات صنع القرار بينما تمنح النخب الامتيازات، وفيما يتعلق بالنقطة الثانية، يجادل بأن قيمة الخبرة مبالغ فيها في الأنظمة التكنوقراطية.
  • صناعة القرار بمعزل عن احتياجات المجتمع: يتخذ التكنوقراط قراراتهم بناء على البيانات والمناهج العلمية، سواء كانت متسقة مع المجتمع أم لا، بينما يميل الناخبون إلى انتخاب سياسيين يتخذون قراراتهم بناء على رغبات واحتياجات أبناء المجتمع.

التشابك بين السياسة والتكنولوجيا.. فيسبوك مثالا

في عام 1982 كتب جون غونيل مقالة بعنوان “الصورة التكنوقراطية ونظرية التكنوقراطية”، تنبأ فيها بأن التكنولوجيا ستصبح يوما ما جزءا من العمليات السياسية، واقترح بأن التشابك بين التكنولوجيا والسياسة سيؤدي إلى تركيز القوة بأيدي الخبراء التقنيين (أي التكنوقراط).

وبعد 40 عاما من نشر كتابات غونيل، تحققت نبوءته بالفعل وباتت التكنولوجيا متشابكة مع السياسة على نحو كبير، مثال ذلك موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، إذ يمكن عدّه اليوم عالما تكنوقراطيا مصغرا أو “دولة قومية تكنوقراطية”، لكن خطورتها أنها تضم تقريبا معظم سكان العالم، وهي قادرة على اختراق بياناتهم بسهولة والتأثير على قراراتهم باستخدام الخوارزميات.

ومن ثم بات عدد من السياسيين اليوم يستخدمون فيسبوك وغيره من منصات التواصل الاجتماعي لهذا الغرض، أما القوة المطلقة فهي مركزة بأيدي مجموعة صغيرة من التكنوقراط مثل مارك زوكربيرغ وغيره.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply