كتب جبران خليل جبران في العام 1918 نصاً جميلاً وصادماً بعنوان “المجنون”، يذكر فيه أن شخصاً ما سُرِقَت أقنعته/براقعه، وحين ركض وارء السارق، سمع صوتاً من فوق سطح بناء قريب، يقول: “إنه مجنون”!

وعندما نظر إلى أعلى، متقصِّيَاً مصدر الصوت، شعر بضوء الشمس على وجهه العاري لأول مرة، فأحب الشمس ونسي الأقنعة/البراقع. فكأن السارق حرره مما كان يأسره، وعرَّاه مما يختبئ خلفه، وكشف له ما كان يقيده ويحجب عنه حقيقته، وإمكان أن يعيش في الوضوح والضوء، بلا ظلال أو أقنعة.

يقول البطل/الراوي في نص جبران:

“هذه قصتي إلى كل من يود أن يعرف كيف صرت مجنوناً: في قديم الأيام قبل ميلاد كثيرين من الآلهة نهضت من نوم عميق فوجدت أن جميع براقعي قد سُرِقَت- البراقع السبعة التي حكتها وتقنعت بها في حيواتي السبع على الأرض_فركضت: “اللصوص! اللصوص! اللصوص الملاعين!”، فضحك الرجال والنساء مني وهرب بعضهم إلى بيوتهم خائفين مذعورين.

وعندما بلغتُ ساحة المدينة إذا بفتى قد انتصب على السطوح وصرخ قائلاً: ان هذا الرجل مجنون أيها الناس! وما ان رفعت نظري لأراه حتى قبَّلَت الشمسُ وجهي العاري لأول مرة. لأول مرة قبلت الشمس وجهي العاري فالتهبت نفسي بمحبة الشمس ولم أعد بحاجة الى براقعي، وكأنما أنا في غيبوبة صرخت قائلاً: “مباركون مباركون أولئك اللصوص الذين سرقوا براقعي!”[1].

 
ما حدث للشخص الذي سُرقت أقنعته/براقعه، صحيح أنه أصبح عارياً أمام الناس والعالم، وهذا يضعه في خانة الجنون، إلا أن حبه لضوء الشمس عوضه عما فقده. خسر أقنعته/برافعه وكسب نفسه. كما لو أن السرقة فعل كشف وتحرير، والجنون –الصورة أو الحالة التي نظهر فيها- هو ما تحتاجه عقولنا لأن تتحرر مما هي فيه، وأن نتحرر من أنفسنا، وخوفنا من أن نظهر كما نحن، أو أن يعرف الناس حقيقتنا أو وجودنا من دون تمترس أو تخندق أو ادعاء أو نفاق، ذلك أن الناس يرون منا ما نظهره لهم، وهو ما نخفي به حقيقتنا. وعندما نظهر ما نحن فيه وعليه بالفعل، نظهر كما لو أننا مجانين حقاً!

ما علاقة السوريين؟

لكن، ما علاقة السوريين بذلك، وهل لهم صلة بما كتبه جبران، وهو واحد من أول وأهم العقول التي تحدثت إليهم، في لحظة تحولات كبرى عصفت بهذا الشرق وشكلته خرائط ودولاً وكيانات، قبل أكثر من مئة عام؟

هل ثمة من سرق أقنعتهم/براقعهم ليصبحوا عراة مكشوفين أمام أنفسهم وأمام العالم، وهل كانوا بحاجة لمن يفعل ذلك؟ أما كان بإمكانهم أن يحرروا أنفسهم من أقنعتهم/براقعهم التي حكمت صورهم ووجودهم وتعبيرهم وخطابهم خلال عدة قرون، حتى يأتي من يدفعهم إل ذلك دفعاً، بل حرباً وقهراً؟

 
لعل حدث العام 2011 والحرب التي تلته فَعَلا ذلك وأكثر، أو بالأحرى، إن هذه الحرب “قدحت” ذلك مولدة الشرارة أو اللحظة البدئية للفعل، لكن هل سعد السوريون بسرقة أقنعتهم أو تمزيقها، كما فعل جبران؟

اليقيني فيما كان هو أن الحدث والحرب هما كشف وتعرية، وفِعلا تدمير، مثلما أنهما فِعلا خلق وتشكيل؛ والمهم –من هذا المنظور- أنهما فِعلا جنون محض تقريباً، أو كما لو أنهما كذلك؛ فقد أظهر السوريون الكثير من الجنون والشبوب العاطفي والنفسي حيال الحدث، وفي مختلف اصطفافاته، ولو أن شريحة منهم أظهرت منذ البداية لا مبالاة، وتخلياً، وانفصالاً، وانسحاباً، و”انتظاراً عل التلة”، كما يقال بنوع من الوصم والتهكم السلبي والإنكاري، وهذا ليس محض تقنع وتبرقع، وإنما هو فعل عيش ونمط تدبير.

أقنعة/براقع 2011

صحيح ان حدث 2011 كان صادماً، إلا أن ما نتج عنه كان أكبر منه، تجاوزه، ووضع السوريين أمام مدارك حادة حول أنفسهم، وحول الحدث البدئي نفسه، عرّاهم، وما لبث أن عرّى الإقليم والعالم معهم. نزع الحدث والحرب التي تلته طبقات من الأقنعة، ليس ما كان قبل العام 2011 فحسب، وإنما ما قام بعدها، وخاصة تلك الأقنعة (قل المقولات والعناوين، ولاحقاً السرديات) التي ظهرت مع اندلاعه، وتلك التي ظهرت خلال سنوات الحرب. وقد كانت الحرب –في جوانب مهمة منها- “حرب أقنعة”، و”حرب مواقع”، بتعبير غرامشي، و”حرب سرديات” أكثر منها حروب واقع وحقائق!

وهكذا، لم يكن حدث 2011 حدثاً كاملاً أو محضاً أو نهائياً لنزع الأقنعة، بل كان عملية نزع-خلق أقنعة مستمرة أو متتابعة، غير منتظمة، وغير محكومة أو منضبطة بالتمام.

تحرير وكشف

فتح حدث 2011 والحرب التي تلته أسئلة “اللا مفكر فيه”، “المتنكر له”، “الممنوع التفكير فيه”، “المنسي”، لدى السوريين. واجه السوري نفسه، وانفجر المكبوت كله دفعة واحدة تقريباً، وظهر ما كان خلف طبقات وطبقات من الأقنعة والبراقع القيمية والاجتماعية والدينية والثقافية والسياسية وغيرها.

حدث كاشف وحرب كاشفة، وأول ما فعلاه (الحدث، الحرب)، أنهما كشفا السوري أمام نفسه وأمام العالم، مزقا الأقنعة وكشفا الحجب، وهَتَكَا الأستار؛ لم يعد للسوري قناع، بل ظهر بوجه حقيقي أو شبه حقيقي، تدفقت وجوه كثيرة، وهويات، وتطلعات، ورهانات، ومدارك مخيالية، وعقد، وذاكرة، وأمور كثيرة ما كان بالإمكان مجرد تخيلها.

 
كشفت الحرب خزاناً من الحقد والكراهية والعنف والموت، واللصوصية والفساد والجشع، والارتزاق. كشفت السوريين بما هم طوائف وقبائل وأديان وعشائر وجماعات وعصائب ومِلَل ونِحَل؛ وتخلٍّ وهروب وتملص، واغتراب. كشفت عن تطلع بل شبوب عارم نحو الهجرة، وترك الجمل بما حمل، منهم من حاول أن يأخذ الجمل معه، أو ما أمكن منه! ظهر السوريون بوصفهم كائنات مهاجرة.

علينا أن نستدرك على ما ذكرناه أعلاه، أو على الأقل أن نذكر الوجه الآخر لما كشفته الحرب لديهم أو فيهم، وقد أظهرت أيضاً أنهم منتمون، ومتسامحون، ومتمسكون ببلدهم وهويتهم الوطنية، وغير طائفيين، وصبورون، وكشفت عن عن حب وسلام وإرادة حياة لديهم، بما هم مجتمع، وإصرار عل العمل والإنتاج، والكفاح من أجل العيش في ظروف بالغة القسوة.

الداخل-الخارج

تحرر بطل جبران نتيجة وازع أو فعل من الخارج، دفعه تمسكه بالأقنعة للخروج وراء السارق، من أجل استعادة المسروقات، ويالها من لحظة حرجة بل مهولة، ان يضطر الإنسان للخروج عارياً من أجل استرداد ما يستره أو يختبئ خلفه، لكنها لحظة حاسمة، بما هي تتبّع وتعقّب وخوف، وبنتائجها الصادمة، ربما غير المقصودة بذاتها.

عندما اكتشف ذلك الإنسان –الراوي نفسه- ضوء الشمس، قرر التخلي عن السعي لاسترداد ما سرق منه، وما خرج من أجله، هنا كان الوازع داخلياً، واحدٌ أفضى إلى آخر. لكن هل كان ذلك التخلي ليحدث لولا السرقة؟

 
لا بد من وازع، لأن الذات أو الداخل لا يعمل من تلقاء ذاته، ثمة عوامل أو عقبات كثيرة، ومن ثم يأتي دور الوازع الخارجي، الذي لا ينطلق من أوليات الذات، وإنما من أولياته هو، فقد جاء من أجل السرقة، والسارق لا يسرق لأجل من يسرقه، وإنما لأجل نفسه هو!

كما ان الوازع الخارجي لا يكفي، إذ إن سرقة الأقنعة/البراقع، ربما تؤدي إلى ردة فعل سالبة، تتمثل بالمزيد من التمسك بما تمت سرقته، ومن ثم إعادة إنتاجه هو نفسه، أي إعادة التقنّع والتبرقع، بوصفهما حاجة أو ضرورة، والدفاع عنهما بوصفهما هوية وولاء وانتماء، وبوصفهما حِرزان ضد الخصوم والأعداء.

الروح لا تتحرر من الخارج، بل من الداخل، كذلك العقل، ولابد من “لصوص” من الداخل يسرقون الأقنعة أو يمزقونها، يحركون المياه الراكدة، والعقول المغلقة، والأنا المتمركزة حول ذاتها، وليس فقط لصوص يسرقون الموارد والفرص، ويراكمون الثروات، ويُهرِّبُوها إلى الخارج، أو يعيشون في “جزر معزولة” أو “أبراج عاجية”  في الداخل.

براقع الوهم والتراث والتقاليد والأبوية، والأمان الكسول، والركون إلى مدارك متوارثة، براقع المدارك والعناوين والمقولات التي أقنعت الناس بأن المجتمع امن ومستقر، أو غير مهدد بالفوضى والانهيار. وكاد الناس لا يدركون ما هم فيه، وظنوا ان الاقنعة هي حقيقة، وما هي كذلك.

مشاجرة!

يتحدث الكاتب والمسرحي الراحل سعد الله ونوس في قصة قصيرة بعنوان “المشاجرة”[2]، عن حفلة تنكرية، حيث ينزع رجل وإمرأة كل منهما القناع الذي يرتديه، قناع وراء قناع حتى ازدحم المكان وضاق بالأقنعة. جاء في القصة:

“خرجا من الحفلة التنكريه يضحكان، “كانا ما يزالان في ثيابهما التنكرية. هو يرتدي قناع خنفساء عملاقة، … وكانت الفتاة ترتدي قناع نفرتيتي”، وكانا يغذان السير، ويتبادلان همسات لاهية تشبه التغريد أو العناق.

 
بدأا يخلعان ألبستهما التنكرية . كان أسرع منها . خلع قناع الخنفساء، والتفت نحوها. نظرت إليه، وضحكت: أكنت ترتدي قناعاً مزدوجاً! وبالفعل بعد ان خلع قناع الخنفساء، ظهر تحته مباشرة قناع آغا عثماني. وكانت هي أيضا قد تخلصت من “نفرتيتي”، لكن قسماتها لم تنكشف، ظهر تحت قناع نفرتيتي نقاب أسود، لا تظهر منه إلا عينان عسليتان لهما تموجات ساحرة.

ضحك بدوره، وقال: وماذا عنكِ؟ ألا ترتدين انتِ ايضا قناعا مزدوجا؟ اندهشت وقالت: لا …لا أذكر. أنا متأكده أنني لم أرتدِ إلا قناعا واحدا.

خلع قناع الآغا التركي ، فبدا تحته قناع الانكشاري. ومزق قناع الانكشاري، فبدا تحته قناع المملوكي، ثم قناع بدوي، ثم قناع عبد. …

أما هي فبعد النقاب، ظهر قناع امرأة افرنجية، وبعد الافرنجية قناع فلاحة، … وبعد الفلاحة، محظية في حريم تركي، ثم بدوية، ثم جارية ، ثم أفعى …”.

السوري لا وجه له!

هكذا، ولكثرة الأقنعة وتراكمها، أصبح السوري بلا وجه، لم يعد من اليسير، بالنسبة له أو لغيره، التمييز بين الحقيقي والمزيف، الواقعي والمتخيل، أقنعة كثيرة تستخدم بإفراط: المجتمع حيال الدولة، والدولة حيال المجتمع، الملّة حيال الملل الأخرى، الجماعات والشبكات والتنظيمات والعصائب وفواعل المال والأعمال والفكر والثقافة والدين والسياسة الخ حيال بعضها البعض، وحتى الفرد حيال المجتمع، والرجال حيال النساء، والنساء حيال الرجال، الصغار حيال الكبار، والكبار حيال الصغار، الآباء حيال الأبناء، والأبناء حيال الآباء الخ طبقات من الأقنعة/البراقع  فوق أخرى،

هذا ليس جديداً أو مفاجئاً، إذ إن السوري أو الشرقي عموماً مقنّع/مبرقع بالولادة، يولد بأقنعة كثيرة، أو هو يعيش بأقنعة والديه وبيئته، وسريعاً ما يتم إعداده لارتداء أقنعة إضافية كثيرة، والتبديل بينها عند الحاجة، وفيما يتمثل أقنعة أخرى، أو ينشأ على التكيف معها، ومعرفة استخدامها، فإنه يجهد في تشكيل أقنعته هو نفسه.

 
بلحظة واحدة ظهر له أن كل أقنعته أو أكثرها قد سُرق أو انتُزع منه، ومنها ما تم تمزيقه أو تدميره، ولأن الحقيقة قاسية جداً، ومدمرة أيضاً، فقد كان بحاجة لوضع أقنعة جديدة، أقنعة في مواجهة أقنعة أخرى، ولكن مع ذلك، كان ثمة الكثير من الحقيقة أو الحقيقي فيما يجري، وثمة أمور كثيرة بقيت بلا قناع، حقيقية جداً وواقعية جداً. الوجه الحقيقي لا يظهر علناً أو هو يظهر مواربة، وقد لا يظهر بسهولة لكثرة ما راكم من أقنعة/براقع.

ثمة أقنعة قيمية وأقنعة استعمالية، ليس كل الأنقعة بقصد النفاق، وهو كثير، بل هو آفة هذا البلد المشرقي الجميل، وإنما بقصد التجمّل، وتيسير التفاعل والتواصل، ومنها ما يأتي بحكم العادة أو التربية عل “تدبير العيش”، كما سبقت الإشارة، سواء حيال المجتمع أو حيال السلطة والدولة، أو فيما بين الأفراد أنفسهم، وربما داخل كل فرد تقريباً.

الكثير من السوريين يمارس حقيقته، أو جانباً منها، ولكنه يشعر بحرج شديد من أن يظهر ذلك صراحة، فقد يكون المرء/المرأة طائفياً أو/و عشائرياً وعائلياً الخ بينه وبين نفسه، وبينه وبين الجماعة، ولكنه ربما يميل لتجاوز ذلك في حال وجود مصلحة أو ريع، أو بسبب مخاوف من إظهار ذلك.

ومن ثم فهو يتحايل بتبديل الأقنعة/البراقع أو استخدامها بالتوازي، حسب الحاجة أو الضرورة. وقد يُظهر المرءُ/المرأة الالتزام اللفظي أو السلوكي بالعادات والممارسات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية مثلاً، لا لقناعته بها، وإنما للتماشي مع الجو العام؛ وقد يُظهر العكس، إذا وجد ذلك مناسباً أو مطلوباً، وهذا باب فيه كلام كثير. 

الهائم، الممسوس

أخذت صفحات وسائط التواصل الاجتماعي والعالم الرقمي تعكس جانباً من تعابير ومدارك السوريين حول ما حدث لهم خلال الحرب، إذ تحول السوري إلى كائن هائم أو ممسوس. هنا لقطة طريفة، في هذا الباب، وجدتها عل الانترنت، لا أعلم اسم كاتبها. تقول:

“نحن السوريين صار فينا خلال سنوات الحرب، مثل شاب صادف بنتاً مغمي عليها في الشارع، وأخذها إلى أقرب مشفى. بعد ما فحصها الطبيب. قال للشاب: مبارك، المدام حامل. صرخ الشاب: ماذا تقول؟! هي ليست زوجتي، ولستُ أب الولد. والبنت تقول: لا إنت أبوه. وبعد كثير من الصراخ والأخذ والرد، وفحوصات وتحاليل الـ DNA . قال الطبيب: لا يمكن أن تكون أب الولد. لأن “عندك عقم. وما بتخلف”.

طلع الشاب من المشفى وهو فرحان انه بريئ، وزعلان لأنه ما بيخلف. فجأة يتذكر انه متزوج، وعنده أولاد. وصار يسأل نفسه: طيب، والأولاد كيف إجوا؟ بلحظة صحي من النوم. وفرح أن كل ما كان عبارة عن حلم أو كابوس. وشرب ماء. وبعد ما شرب تذكر إنه صائم. نظر إلى الساعة، فوجد أنه تأخر عن الدوام. ونزل مالقى سرفيس، فأخذ تاكسي، وراح ع الشغل. ما لقي حدا. كان يوم جمعة. وما في دوام. رجع عالبيت بسرعة. حتى يلحق يتوضئ ويذهب إلى صلاة الجمعة. قالت له زوجته: جورج، وين كنت، ولوين رايح؟ [كان نسيان أنه مسيحي!]”.

السرقة بركة!

عودة إلى حكاية جبران، يقول:

“هكذا صرت مجنوناً، ولكني وجدت في جنوني هذا، الحرية والنجاة معاً: حرية الانفراد والنجاة من أن يدرك الناس كياني، لأن الذين يدركون كياننا إنما يستعبدون بعض ما فينا. ولكن لا أفخرنّ كثيراً بنجاتي، فإن اللص وإن كان في غيابة السجن فهو في مأمن من أقرانه اللصوص”[3].

ما يدعو إليه جبران هو أن نسعد بسرقة أقنعتنا/براقعنا، وأن نبارك ذلك، لأنه فعل جاء في محله، وهو ليس مجرد فعل مناسب فحسب، بل يقوم مقام الضرورة أيضاً، فقد عشنا في أقنعتنا وخلفها عقوداً بل قروناً، وحان الوقت لأن نتخلّى عنها. ولأننا لم نتمكن من ذلك بأنفسنا، فحريُّ بنا أن نسعد بـ”ما” أو “مَن” ساعد عل ذلك،. ولو أن الحدث لم يكن اعتيادياً، بل كان صادماً ومدمراً، ولو أن “الفاعل” –وهذا ما تتكرر الإشارة إليه- لم يكن يرم من ذلك مصلحة لنا، إذ إن له مارب أخرى!

 
لا يريد النص مديح الحرب، ولا يقول بأنها أمر حسن بالتمام، فهي حدث مأساوي، وقد خبر السوريون ذلك، كما لم يخبرهم أحد من قبلهم، في التاريخ الحديث على أقرب تقدير. ولا مبالغة في ذلك. لكن يمكن مقاربة الموضوع، من منظور الآماد المتوسطة أو الطويلة، ذلك أن الحرب يمكن أن تكون فرصة بالفعل، وأمكن لشعوب كثيرة أن تحولها إلى فرصة، هذه مسألة تتطلب المزيد من التقصي والتدقيق، وإن نظرة على تواريخ الأمم والشعوب كفيلة بإظهار ذلك. وقد أمكن لليابانيين أن يحولوا الكارثة إلى معجزة، وفعل غيرهم ذلك.

السؤال هو: كيف يمكن التحرر من الأقنعة القارة والمطمئن لها، من دون فعل صادم وأحياناً كارثي، وقد لا يكون الفعل مقصوداً بذاته، ما يحدث هو تغيير النمط وتغيير المقاربة، والتحلي بالإقدام. هذه شروط لازمة، وإن لم تكن كافية.

وإذاً، فإن التحرر هو خروج عن النمط، هو تخلٍّ مؤلم عن الاعتيادي، صحيح أن الحرب عَرَّت وجوهنا وحياتنا وحقيقتنا، إلا أنها فتحت باب الإمكان، وهذا، مرة أخرى- شرط لازم، ولكنه غير كاف. علينا أن نغير النمط، لنفكر كيف يمكننا تحويل الكارثة إلى إنجاز تاريخي، هل من يقوم بذلك؟

لعل أول الإمكان هنا، هو أن نتحلى بالشجاعة، ونشكر الحدث، فواعله، عل اختلاف رهاناتهم، لأنهم “سرقوا” أقنعتنا وبراقعنا، أظهروا ضعفنا وكذبنا ونفاقنا، عرّونا من أكاذينا وأوهامنا، مزَّقُوا الحجب والأقنعة والبراقع التي كنا نتوهم أنها تسترنا، وما كانت كذلك. والشكر، بالمعنى الرمزي، ليس للفاعل، وإنما للفعل، وعلى قاعدة “ربّ ضارة نافعة”، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم”. وهكذا تتحول السرقة إلى بركة، مثلما تتحول المحنة إلى منحة.

الحب

يلزم الكثير من الحب، لنكون قادرين على تفهم ما حدث، وخلق استجابة مناسبة حياله، لا يفترض بنا أن نرُومَ كل ما كان، حتى الأقنعة والبراقع نفسها، وحتى نفاقنا وكذبنا، وكل ما حدث خلال الحرب، إذ إن الكثير مما حدث، كان جزءاً من تفكيرنا،من روحنا، من المخبوء فينا، من العقد المستحكمة والمتراكمة في طبقات وعينا ولا وعينا؛ ما حدث هو جزء منّا نحن، جزء من نفوسنا وثقافتنا وعيشنا، فهل ننكر ذلك أو نتنكر له؟

أليس الانتماء والكفاح والدفاع المشبوب عن المجتمع والدولة والإنسان والثقافة، والعيش العابر للجماعات والملل والنحل والطرائق والشبكات هو جزء منا أيضاً، جزءاً من أرواحنا ونفوسنا؟ الجواب هو: نعم.

ماذا يعني ذلك؟

لعل أول ما يعنيه هو أن نقبل أنفسنا، نفهمها، نتقبل أننا مجتمع متعدد في كل شيء تقريباً، وتتجاذبه مدارك واتجاهات وتقديرات متناقضة، وأننا عشنا معاً خلال عدة قرون، ولم نكن في حالة حرب على الدوام، بل ان الحرب كانت جزءاً قد يكون يسيراً أو قليلاً من عيشنا، وإلا كيف أمكن لنا أن نبني وننتج المعارف والأفكار والثقافات، ونقيم الكثير من الجسور والقناطر  والطرق وغيرها؟ ثمة كلام كثير في هذا الباب.

وإذا أحب السوريون أنفسهم، بما هم سوريون، وبكل ما فيهم، فهذا من الواجبات، وهو شرط لتغيير ما هم فيه، لأن التغيير والتنوير لا يكونان بالعنف، التغيير بالعنف والإكراه قد لا يوصل إلى المطلوب. قد يُحدث تحولاً، لكنه تحول هش وغير مستقر، وكثيراً ما يرتد إلى حالة أكثر تقنعاً وتبرقعاً، قُل تخندقاً. هذا سلوك نكوصي عرفته أمم وشعوب كثيرة حول العالم.

 
ان الحب والتفهم، في حالتنا هذه، ليسا أمراً أو موقفاً شخصياً أو اختيارياً، ولو أن ذلك صحيح ومطلوب، وإنما هما شرط بدئي أو بالأحرى قبلي، إن أمكن التعبير، ذلك أن التحرر من الأقنعة والبراقع والأوهام الخ لا يكون إلا بالقدرة على تقبّل الظهور أو الوجود من دونها، تحمُّل خسارتها، والقناعة بأن ذلك واجب وصحيح.

ولذلك فإن جبران يتحدث عن الجنون بوصفه أمراً واقعاً بفعل وازع من الخارج، وهو السرقة، ولكنه جنون محبوب، جنون المحب، فإذا وقعت الواقعة، فهي إذا واقعية، ولا بد من النظر إليها بوصفها كذلك، بصراحة وقوة وقناعة، وشبوب!

يقول جبران عن بطل قصته، إنه ولأول مرة، “تقبّل الشمس وجهه العاري وتلتهب نفسه بمحبة الشمس ولم يعد في حاجة إلى براقعه”. اكتشاف قد يكون تأخر كثيراً، لكنه حدث، ومكافأته هي تلك القبلة التي يطبعها ضوء الشمس عل وجهه.

صدوع وتمزقات

الحدث سرق الأقنعة وكشف البلاد والعباد، ربما أكثر من اللازم، أو أنه فعل ذلك بكيفية صادمة حقاً، وغير مسبوقة، ومدمرة، وصدّعت ليس صورة السوريين أمام العالم فحسب، وإنما صورتهم أمام أنفسهم، بما هم سوريين، وأظهرت بشكل فج بل ومدمر ما كانوا “يسكتون عنه”، و”يتنكرون له”، وما كانوا قد “نسوا التفكير فيه” أو “تخلوا” عن التفكير فيه ومواجهته.

عودة إلى حفلة أو مشاجرة سعد الله ونوس:

“ألقى كل منهما عشرات الأقنعه، التي تكومت في الغرفة، فجعلتها تبدو مزدحمة وضيقة جداً. وكان كل منهما يتضاءل كلما خلع قناعاً. كانا يصغران ويذوبان. صار كل منهما في حجم قبضة اليد، ومع هذا كانا ما يزالان يجدان ما يخلعانه. وحين أسقط كل منهما آخر الاقنعة، وكان من الكلس الجاف، لم يبق منهما إلا قطرات محرورة وكثيفة القوام، انسكبت على الارض، وسالت محمّلة بالغبار”.

“بعدئذ…وفيما كان الصباح يتموّج هادئاً في الشوارع المكنوسة، بدأت الأقنعه تتشاجر . وكالعادة…بدأ الشجار مناوشة خفيفة، ثم احتدّ، ثم عنف، وثار الغبار، وانتشرت ضوضاء مدوية حول هذه الألوان والوجوه والمواد المتحاربة”[4].

من غير الواضح ما إذا كان ونوس في هذا النص يتنبأ بنهاية مأساوية لذلك التقنع والتبرقع في الحياة وفي البلاد، كما لو أننا محكومون بتراجيديا لا نهاية لها؛ وهل ثمة أقسى من تلك النهاية لأفراد وجماعات وشعوب وجدت في التقنع والتبرقع والكذب نمط حياة؟

غاليليو-فرويد

التقط فرويد، بنباهته المعروفة، قصة منظار/تلسكوب جاليليو، ورفض سيزار كريمونيني، أستاذ الفلسفة الأرسطية في جامعة بادوا وزميل جاليليو، النظر في المنظار/التلسكوب، ليعاين بنفسه ما يقوله زميله. قال كيرمونيني: “لا أريد أن أؤيد عبارات لا أعرف شيئًا عنها وأشياء لم أرها … والملاحظات من خلال هذه النظارات تسبب لي صداعًا. كفى! لا أريد أن أسمع أي شيء آخر عن هذا”.

رد غاليليو على هذا الرفض في رسالة إلى العالم يوهانس كيبلر: “عزيزي كيبلر، أود أن نضحك على هذا الغباء المذهل للناس العاديين. ما الذي يمكن أن تقوله عن الفلاسفة البارزين في هذه الأكاديمية، المليئين بعناد الحمير، وعدم الرغبة في النظر إلى الكواكب أو القمر من خلال التلسكوب، على الرغم من أنني عرضت عليهم طواعية وبالتحديد مثل هذه الفرصة ألف مرة؟”.

ماذا يريد فرويد بإشارته إلى حادثة غاليليو مع كريمونيني؟

الفكرة هنا، هي أن كريمونيني “حرم نفسه بذلك من الوصول إلى الدليل على صحة أطروحة مركزية الشمس”[5]. أي أنه حرم نفسه من معرفة الحقيقة، ومن أن يمزق قناعاته/أقنعته/براقعه التي قبع خلفها واطمأن لها، وهو بحاجة جدية للتخلي عنها، أو هو بحاجة لمن يسرقها أو يمزقها.

في الختام،

ربما سرقت الحرب منا أقنعتنا، لكنها لم تسرق وجوهنا، وقد فتحت باب الإمكان أمامنا، إن أردنا أن نتعلم الدرس، ونتحرر من الخوف والوهم. و”من يفقد قناعه، يبقى له وجهه”، وقدرته على مواجهة الحياة والعالم، بـ”أعين حرة”[6]، وعقول مفتوحة.  وهكذا، فإن المطلوب بالنسبة للسوريين هو الإفلات من “براديغم الذات”، بتعبير يورغن هابرماز، ومن التخندقات حول الجماعة والملة والقبيلة والطائفة الخ وبالطبع الإفلات من “براديغم الحرب”، بالتطلع نحو المستقبل، وبلا أقنعة.

[1]  جبران خليل جبران، المجنون، ترجمة: انطونيوس بشير، القاهرة: دار العرب، ص5-6.

[2]  سعد الله ونوس، عن الذاكرة والموت-نصوص، دمشق: دار الأهالي، ص17-19،

[3]  جبران خليل جبران، المجنون، ترجمة: انطونيوس بشير، القاهرة: دار العرب، ص5-6.

[4]  سعد الله ونوس، عن الذاكرة والموت-نصوص، دمشق: دار الأهالي، ص17-19،

[5]  ورد في: ميشال أونفري، أفول صنم الكذبة الفرويدية، ترجمة: غسان السيد، تحت النشر.

[6]  فتحي المسكيني، “براقع العقل”، موقع كوة، 12 يوليو تموز 2020.

لعبه الأمم

المصدر: سوريا الآن

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply