|

لو أن أحدهم قال لي قبل 4 عقود -وكنت وقتها أعمل “صبي مشاوير” بإحدى ورشات النجارة، مهمته إحضار الشاي للزبائن وتنظيف الورشة بداية اليوم ونهايته- أنني سوف أمتهن البحث والكتابة، لاعتبرته مجنونا لا يعي ما يقول. ولو أن أحدهم كان قد قرأ فنجاني قبل 3 عقود وأخبرني أنني سوف أدْرس وأدرّس بواحدة من أكبر الجامعات الغربية، لاعتبرته من المنجمين الذين يكذبون ولو صدقوا. ولو أن أحدهم “ضَرَب الودَع” قبل عقدين فقط ليبشّرني بأنني سأنشر كتابا باللغة الإنجليزية مع دار نشر عالمية مرموقة، لطلبت إحالته إلى مستشفى الأمراض العقلية.

لكنها الحياة، أو بالأحرى أقدارنا التي لا نعرف ما تخبئه لنا ويسيّرها خبيرٌ عليم. وهي أقدار أشبه بأبواب مغلقة يفتح إحداها تلو الأخر، في مواقيت لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، دون أن يكون لنا عليها سبيل.

لم أتخيل أن أمضي بقية حياتي في ذلك المبنى الكئيب للوزارة الكائن في شارع عدلي وسط القاهرة، فإما أن يصيبني الجنون وأتحول إلى “زومبي” يُطارد الناس في الطرقات، وإما أن أقفز يوما من نافذة الدور الثامن الذي كان فيه مكتبي لأستريح من العبء النفسي لتلك الوظيفة!

كان أحد تلك الأبواب التي فُتحت أمامي دون تفكير أو ترتيب مسبق، وأنا على أعتاب الجامعة أوائل التسعينيات من القرن الماضي، طالبٌ من إحدى قرى شمال الدلتا المغمورة، اجتهد وتفوّق بالمرحلة الثانوية، وبدأ البحث عن كلية تناسب درجاته المرتفعة. كان الالتحاق بكلية “التربية” حلمٌ يراود أبناء الريف الكادحين أمثالنا، أوربما لأنها تقع بنفس المحافظة ولا تحتاج للسفر خارجها. وثانياً -وهو الأهم- لأنها تضمن الحصول على وظيفة في مجال التدريس بعد التخرّج من الجامعة مباشرة، وبالتالي ترفع العبء -ولو قليلا- عن كاهل ربّ الأسرة.

كان حلمي وقتها أن أصبح مدرسا، سواء للغة العربية أو الإنجليزية أو التاريخ أو الجغرافيا التي كنت أعشقها وأفضلّها على ما سواها. ولكن لماذا أدخل جامعة إقليمية (كما تسمّى في مصر) في حين أن مجموعي يؤهلني لدخول أفضل الكليات في جامعة القاهرة أو جامعة عين شمس، وقد كانتا وقتها (أوائل التسعينيات) من أفضل الجامعات الحكومية؟! كان ذلك هو السؤال المنطقي الذي تبادر إلى الذهن وقتها، وهو سؤال يقع ضمن “متلازمة المجموع الكبير” التي تعاني منها عقولنا ومجتمعاتنا العربية.

كانت الوالدة -أمدّ الله في عمرها- لا تستحسن فكرة الابتعاد والدراسة في القاهرة، أو “مصر” كما يسميّها أهل الأقاليم، خاصة أنها لا تحمل معي ذكريات طيبة. فقد زرتها مرة واحدة خلال رحلة مدرسية منتصف الثمانينيات وعُدت منها مريضا، فكان ذلك فألاً سيئاً لا يشجع على السفر إليها، فضلاً عن الانتقال إليها والعيش بها. ولكن تحت إلحاح أختي وأخي الأكبر سناً، قبِلت الوالدة بالأمر على مضض، وتقدمت بأوراقي للالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وهو ما حدث في صيف عام 1992، وكان ذلك أول باب يفُتح دون اختيار أو تخطيط أو ترتيب مسبق.

في أوائل الألفية الثانية، وقبل أن أكمل عامي الثلاثين، التحقت للعمل بإحدى الوزارات المصرية (وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية). ولمن لا يعرف، فمباني الوزارات المصرية أشبه بمقابر الأحياء، من يدخلها شابا نشيطا يخرج منها شبحا أو شيخا عجوزا. فهي لا تغتال طموحاتك وآمالك فحسب، وإنما تُحوّلك -بعد فترة- إلى “زومبي” يمشي على الأرض، أو إلى “روبوت” أو “إنسان آلي” يؤدي وظيفته دون رغبة أو تفكير أو مشاعر.

لم أتخيل أن يكون ذلك مصيري، ولم أتخيل أن أمضي بقية حياتي في ذلك المبنى الكئيب للوزارة الكائن بشارع عدلي وسط القاهرة، فإما أن يصيبني الجنون وأتحول إلى زومبي يُطارد الناس في الطرقات، وإما أن أقفز يوما من نافذة الدور الثامن الذي كان يوجد به مكتبي لأستريح من العبء النفسي لتلك الوظيفة!

كانت قراءة الصحف الأجنبية التي تأتينا لترجمتها وعرضها على “سيادة الوزير” هي المتنفس الوحيد من الهواء الفاسد لتلك المقبرة. ورُبّ ضارة نافعة، فقد تولّدت معها الرغبة في البحث والكتابة، وشجعني على ذلك أحد الزملاء الذين سبقوني للعمل هناك، وكان هو أيضا يبحث عن مهرب من تلك المقبرة، فكان حريصاً على النشر والكتابة. وقد بدأت الكتابة بالفعل وقتها في عددٍ من الصحف والجرائد العربية، مثل جريدة “الحياة” و”القدس العربي”، وكذلك بعض المواقع الإلكترونية التي كانت قد بدأت في الظهور مثل موقع “إيلاف” و”ميدل إيست أونلاين” وموقع “الجزيرة نت” الذي كان قد بدأ في الانتشار وقتها. وبعد شهور قليلة، نشرتُ أول دراسة محكّمة في مجلة “السياسة الدولية” المرموقة آنذاك، وذلك في أبريل/نيسان 2003، وكانت عن تداعيات الغزو الأميركي للعراق على العالم العربي، وكان نشر تلك الدراسة بمثابة باب جديد آخر يفُتح دون سابق ترتيب أو تخطيط مني، وهو باب سوف يفتح لاحقا أبوابا أخرى كثيرة لم أكن أتوقعها أو أخطط لها.

قبل فترة، وقعت مصادفة على اسم المؤلف الأميركي المعروف جيمس باترسون، وهو مؤلف روايات بوليسية وأعمال درامية تجاوز حجم مبيعاتها 400 مليون نسخة، كما أنه أول شخص يبيع مليون نسخة إلكترونية من كتبه ومؤلفاته على الإنترنت. كان جيمس يعمل موظفا بسيطا بإحدى شركات الدعاية والإعلان منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، ولم يكن يدري أنه بعد سنوات قليلة سوف يصبح واحداً من أشهر وأغنى الكتّاب والمؤلفين، إن لم يكن الأشهر والأغنى في العالم (يبلغ حجم ثروته حوالي 700 مليون دولار).

في أواخر الثمانينيات، توفيت صديقة جيمس وحبيبته جين بلانشارد، وذلك بعد إصابتها بورم في المخ، وقد تأثر جيمس بوفاتها كثيرا، وكان يتغلب على حزنه بأن يمضي معظم وقته في القراءة أثناء فترات عمله الليلية بشركة الإعلان، وهو الذي كان يمقت القراءة في صباه.

يقول جيمس في إحدى لقاءاته الإعلامية -وهي كثيرة وموجودة على يوتيوب، وأنصح القارئ الكريم بمشاهدتها- وذلك ردا على السؤال الشهير الذي يسمعه دوما: كيف أصبحت كاتبا؟ يقول: إن لدى كل واحد منّا أبوابا كثيرة مغلقة دوما بحاجة لأن نفتحها، فإذا فُتح أحدها، فُتح الآخر بعده وهكذا. وفي الحديث الصحيح “إن من الناس مفاتيح للخير مغاليق للشر، وإن من الناس مفاتيح للشر مغاليق للخير، فطوبى لمن جعل الله مفاتيح الخير على يديه، وويلٌ لمن جعل الله مفاتيح الشر على يديه”.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply