ما إن تقوم الحرب، كتلك الدائرة الآن في أوكرانيا، حتى تزدحم النشرات الإخبارية بتطورات الوضع ومجرياته. تتردد عبارات رنانة، تحتشد التقديرات للوضع الراهن وُترسم السيناريوهات والاحتمالات، بيد أن ذلك كله يخفي آلاما لا يكاد يلتفت إليها أحد، آلام أناس عاديين مثلنا يستيقظون يوما ليس كسائر الأيام ليختبروا أحوالا يعجزون عن تصديقها. حديثنا هنا عن هؤلاء، وإليهم.

حينما أشارت الساعة إلى الخامسة

“كانت الساعة تشير إلى الخامسة صباح يوم الرابع والعشرين حين قصف الروس جميع المطارات وغالبية الموانئ دفعة واحدة، استفقنا من النوم ذاهلين من هول الخبر، ركض الناس في اتجاهات متضاربة لا يلوون على شيء، جلبوا أموالهم من البنوك وابتاعوا طعاما وشرابا. منذ ذلك الحين لم يتوقف القصف قط”.

ذلك ما يرويه “بدر سنبل”، وهو طالب في أكاديمية خيرسون البحرية، لميدان. بدر ليس وحيدا، فبحسب قوله، فإن عدد طلبة الأكاديمية الذين لا يزالون قابعين في المدينة يقتربون من الـ15 طالبا مصريا، ويصل عددهم بوصفهم عربا مجتمعين إلى 70 من السوريين واللبنانيين والمغاربة والجزائرين والتونسيين.

يضيف: “نحن في مأزق، القصف عشوائي والضربات لا تتوقف. المدينة أقرب إلى كونها سقطت بالفعل. حاولنا الخروج في الأيام الأولى، عرضنا أموالا طائلة على سائقي سيارات الأجرة والحافلات وغيرهم لكنهم خافوا المجازفة، فالسيارات تُستهدف على الطريق. حاولنا المغادرة بشتى السبل، حتى وصلنا إلى حد أننا حتى وإن وفرنا وسيلة نقل فلن نستطيع الارتحال من بيوتنا معا، لأن الخطر بات محدقا، وبتنا محاصرين بالكامل، والروس موجودون حاليا في الشوارع”.

استطرد بدر ردا على سؤال ميدان عن الوضع الحالي قائلا: “يقل لدينا الطعام أو الشراب، وهناك زملاء لنا يقبعون في أماكن أخرى بلا كهرباء أو مياه، ونفد لديهم كل ما يمكن أن يؤكل”. يصف لنا مساعي الطلاب المحاصرين للتواصل مع عدة جهات قائلا: “في البداية هاتفوا السفارة، تحدثوا مع السفير المصري أيمن الجمال، فأخبرهم أنه سيتكفل بإجلائهم من الأراضي الأوكرانية. بعد ذلك انقطع الاتصال تماما، ولم يأتهم أي رد أو إفادة من السفارة”.

يطالب الطلاب المحاصرون في خيرسون بالتواصل مع جهة رسمية وتأمين ممرات خروج لهم أسوة بما حدث في كييف وخاركيف. خيرسون هي مدينة ساحلية، متصلة بشبه جزيرة القرم الواقعة تحت السيطرة الروسية في الجنوب، لذا فإن الإمداد الروسي يتواصل إليها، وكانت من أوائل المدن التي سقطت تماما في أيدي الروس. يخبرنا بدر قائلا: “البارحة كان هناك رجل برفقة زوجته في إحدى الشوارع، فقُتِلَا بالرصاص. ترجل آخرون من مكامنهم لإحضار الماء، فلقوا المصير ذاته. يحل علينا الليل فلا يتسنى لنا أن نوقد ضوءا حتى لا ينتبهوا لوجودنا ويعثروا علينا بسهولة”.

بر أمان

ومن خيرسون، نتجه غربا إلى حدود أوكرانيا الغربية حيث تَحدَّثْنا إلى محمد (اسم مستعار)، شاب مصري نجح في الفرار لكنه لم يصل بعد إلى بر آمن، تحدث إلى ميدان قائلا: “أنا متعب، وجميعنا هنا منهكون ونعاني، استقللت الحافلة الأخيرة من على الحدود البولندية، لكني تعرضت قبلها للخداع مرارا، قابلنا أشخاصا وعدونا بتقديم المساعدة، لكنهم أخذوا أموالنا وتركونا. لم يحدث ذلك معي أنا فحسب، بل تكرر مع عديدين، كالشاب السوداني الذي يجاورني في المقعد. وها نحن ذا قد نُترك وحدنا في بولندا دون عون أو مؤازرة”.

لا نعرف مصير محمد ورفاقه اليوم، لكن ربما يكون أولئك الذين عبروا الحدود إلى بولندا أفضل حظا من رفاقهم المحاصرين، حيث أعلنت الحكومة المصرية يوم الجمعة أنها وجهت طائرتين إلى بولندا لإعادة طلاب مصريين عبروا الحدود من أوكرانيا. لا نعرف بالضبط في الوقت الراهن أعداد الذين نجحوا في عبور الحدود، أو أولئك الذين لا يزالون محاصرين في الداخل.

ولكن فيما يبدو، لا يقتصر الوجود العربي على الحدود البولندية على الطلاب، فهنا أيضا يقف الطبيب المغربي “نور الدين المرابي”، نسأله في “ميدان” عن شخصه وسبب عدم رحيله مع الباقين، فيجيب: “مكثت قدرا لا بأس به من حياتي في أوكرانيا، هنا درست ومارست الطب. إني أرى وضعا مأساويا يحتم علينا أن نمد أيادي العون وأن نتكاتف، أنا هنا على حدود بولندا وفي مقدوري أن أساعد”.

سألناه من جديد عن وقع الحرب عليه وكيف تلقى النبأ بادئ الأمر، فيرد: “لم نصدق الأمر، كنا نردد أن تلك مجرد أقاويل، وبين ليلة وضحاها صار القصف. كنت حينها في العاصمة كييف، نائما في فندق مكون من 35 طابقا. فُجر النُّزُل وتهاوت طوابقه، لم أدر بنفسي إلا وأنا أحث الخطى مع الجموع، لنسرع إلى ملجأ تحت الأرض نختبئ فيه. لم يسبق لنا أن رأينا شيئا كهذا، إلى الآن لا يفارقني شعور أننا في حلم مرعب”.

دلنا الدكتور “نور الدين” على صديقه الفلسطيني دكتور “مهدي الخليل” الرابض على بعد منه، على حدود أوديسا الأوكرانية، يتحدث الأخير قائلا: “الوضع في غاية السوء ولا ينفك يتفاقم. ثمة طلبة إلى الآن لا يستطيعون الخروج من مدن مثل خاركيف وسومي وكييف وغيرها. على جانب آخر، الشرطة والجيش لا يسمحون لنا بإدخال مساعدات خوفا على حياتنا.

ما نفعله هو أننا نحاول تأمين سيارات حتى تأخذهم من أمام منازلهم وتنقلهم إلى محطة القطار، نمدهم بتذكرة وطعام وشراب مجانا، وقد أخرجنا حتى هذه اللحظة 700 طالب من مدينة خاركيف. أما في المكان الذي كنت فيه، أوديسا، فقد بات القصف عنيفا إلى درجة أجبرتنا على النزوح إلى الحدود، لكننا من مواقعنا بمقدورنا أن نساعد من يريد العبور لبلغاريا أو سلوفاكيا، بل وبمقدورنا أن نعين من يود تجاوز حدود رومانيا وبولندا وأن ندخلهم دون أوراق”.

نستوضح منه، ماذا عن التمييز الذي تحدث كثيرون عنه؟ يستطرد الدكتور مهدي بعد هنيهة من التفكير: “سمعنا عن وجود تمييز لكننا لم نره”. يخبرنا أن هناك عددا من الطلاب أكدوا أن الأولوية للأوكرانيين أولا ثم الأجانب، وأنه على حدود بولندا وسلوفاكيا يدخل الأوكراني فورا بينما يُترَك الأجنبي بالأيام بين الصحو والمنام في البرد القارس.

تزداد الأوضاع خطورة ساعة بعد ساعة، لذا يدعو المرابطون على الحدود الجميع في الداخل إلى الخروج. يأتي الدكتور مهدي على ذكر السفارة المصرية في معرض حديثه قائلا: “أمام عيني رأيتها تُؤمّن وسيلة نقل لطلابها أمام حدود رومانيا، ولم تقبل أن تصحب معها أيّا من الجاليات الأخرى”. وبالاستفسار عمّا إذا كانت السفارة المصرية وحدها من سلكت ذلك المسلك، نفى وأخبرنا أن سفارات جميع البلدان تفعل ذلك، وتتجاهل المحتاجين إلى المساعدة من غير مواطنيها.

الفرار ليس خيارا في الحرب بقدر ما هو قدر، قدر دُفع إليه مصطفى (اسم مستعار) دفعا بعد 13 عاما مكثها في كييف. يحكي حكايته من البداية: “لم نتوقع قطّ أن تندلع حرب في أوكرانيا، لدينا وظائفنا وحياتنا. فكّرت بالذهاب إلى مصر أو أي دولة أوروبية، لكنهم لم يتوانَوا عن طمأنتنا بأنه لن تكون هناك حرب، وحتى وإن حدثت فستكون في الشرق، دنيبرو مثلا أو خاركيف، ولأننا كنا في كييف العاصمة خلنا أننا بأمان.

استغرقنا جميعا في النوم يوم الحرب، أيقظنا صوت الصواريخ والقنابل، ودوي صرخات لجموع تحزم أمتعتها وتهبط إلى محطة المترو القريبة لشقتي، لم أدر ما أفعل، فمعي زوجتي وأبنائي الأربعة، ولا نملك سيارة نخرج بها إلى إحدى المدن الغربية البعيدة نسبيا مثل لفيف”.

على الطريق

يضيف مصطفى: “لم أشأ الخروج من كييف. قبل أيام تجمهر الناس في الملاجئ تحت البيوت، بينما لازمت أنا شقتي. ولما نفد منا الزاد والماء، خرجت لتفقد المتاجر والبقالات، إلا أن أبوابها كانت موصدة”. يستطرد قائلا: “في تلك اللحظة، شاهدت الصواريخ بأم عيني تحلق في الهواء وتصدر أزيزا مزعجا، عدت أدراجي على عجل، وطالبت زوجتي بتحضير نفسها للمغادرة. غادرنا بلا متاع تقريبا، وكان أطفالنا يشعرون بالذعر”.

يحكي لنا عن رحلته قائلا: “أمضيت بعض الوقت أفكر وأُجري اتصالاتي. وجدت أخيرا سيارة تأخذنا، وبالطبع كلفني ذلك مبلغا كبيرا من المال. كان الخروج من كييف صعبا، واضطررنا للوقوف في عدة نقاط للتفتيش. وكنا نسمع في الأخبار أن الجيش الروسي وصل على حدود كييف واخترق عدة منافذ، لكننا لم نواجه أي مخاطر، وبدا لنا أن الأمور على ما يرام. شققنا الطريق نحو مدينة لفيف، وفي النهاية وجدنا أنفسنا قرب الحدود”.

تزاحمت السيارات وتوقفَتْ عن التقدم على بعد 15 كيلومترا من الحدود. ترجل مصطفى وأسرته وواصلوا المسير. بعد ذلك، ركبوا إحدى السيارات التابعة للجيش الأوكراني نحو الحدود البولندية، حيث استُقبلوا بحفاوة -كما يؤكد- في أحد مراكز اللجوء. بعد ذلك، سُمح لهم باستقلال سيارة إلى العاصمة وارسو، حيث قابلوا أحد أقربائهم ورافقهم إلى ألمانيا حيث يعيش. يقول: “لا ندري كم سنمكث هنا، وهل سيمكننا العودة إلى أوكرانيا أم لا”.

حسنا، آثرنا في ميدان أن نترك المجال لهؤلاء الشباب كي ينقلوا قصصهم إليكم، لم نتدخل إلا بالنزر اليسير من التفصيل، نؤمن أنه لا ينقل واقع الحرب إلا حكايات المتعبين في جنباتها، المرتعدين من أصوات الصواريخ والقنابل، وهم هنا أهم من كل شيء آخر.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply