في تلك اللحظة الحاسمة التي عبرت فيها الدبابات الروسية الحدود إلى داخل أوكرانيا، ارتفعت أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها مقتربة من 120 دولارا للبرميل للمرة الأولى منذ 14 عاما، كما هرع المستثمرون للاستنجاد بالذهب، ذلك الملاذ الاقتصادي الآمن. وبينما فرضت الدول الغربية عقوبات اقتصادية رادعة بهدف إجبار موسكو على التراجع، كانت الخسائر المتعاقبة تطرق أبواب الأسواق الآسيوية والأميركية والأوروبية وحتى العربية، وهو ما يشي بحقيقة واحدة مفادها أن العالم لا يتحمل حربا بذلك الحجم اليوم، وأن استمرار التصعيد العسكري يرمي بالجميع في دوامة الأزمات الاقتصادية.

كانت سويعات قليلة بعد بدء الحرب أكثر من كافية ليدرك الجميع ما تعنيه حرب جديدة في أوروبا، لكنّ الأخطر من دوي المدافع، وسيطرة الألوان الحمراء على مؤشرات البورصة العالمية، هو أن التحالفات السياسية ستكون على موعد وشيك مع تحولات إستراتيجية كبرى، بسبب الموقف المرتقب لكل دول العالم ومن ضمنها دول الشرق الأوسط من الأزمة الأوكرانية، وهو ما سينعكس دون شك على السياسة والاقتصاد عالميا لسنوات مقبلة.

أيام بعد الغزو.. ماذا حل بالاقتصاد؟

قفزت أسعار الغاز في أوروبا بنحو 35% بعد مرور ساعات قليلة على بداية الغزو، ووصلت أعلى مستوياتها في عقد تقريبا بعد أنباء الهجوم على محطة نووية أوكرانية.

على عكس الصين التي تتربع على عرش ثاني أكبر اقتصاد عالمي بعد الولايات المتحدة، تقلص وزن روسيا في الاقتصاد العالمي بشكل ملحوظ، لكنها ورغم ذلك لا تزال تشغل مكانة مهيمنة في أسواق النفط والغاز والمواد الخام، ما يجعلها أشبه بمحطة وقود كبيرة تحافظ على تشغيل المصانع في العالم، إذ تحصل أوروبا، التي تعتبر المتضرر الأساسي من الغزو الروسي لأوكرانيا، على 40% من غازها الطبيعي، و25% من نفطها من روسيا التي تحكم قبضتها على طاقة أوروبا رغم محاولات الولايات المتحدة الأميركية تقليص هذه السيطرة بتقديم طاقة بديلة لحلفائها. ورغم اتخاذ الغرب خطوات واضحة لتقليص حجم مبادلاته التجارية مع روسيا كما تشير الأرقام الرسمية آخر عامين، فإن الاجتياح الروسي لأوكرانيا منذ أيام كان له تأثير مزدوج على الاتحاد الأوروبي عبر رفع الأسعار وتوقعات تباطؤ النمو.

على سبيل المثال، قفزت أسعار الغاز في أوروبا بنحو 35% بعد مرور ساعات قليلة على بداية الغزو، ووصلت أعلى مستوياتها في عقد تقريبا بعد أنباء الهجوم على محطة نووية أوكرانية، في ظل مخاوف المستثمرين من تأثر إمدادات الغاز الطبيعي الروسي المار إلى أوروبا عبر أوكرانيا. ورغم إعلان “غازبروم” الروسية عن استمرار ضخ الغاز الروسي إلى الموردين الأوروبيين، فإن ذلك لم يمنع من تأثر الاقتصاد الأوروبي الذي يبتعد آلاف الأميال عن مناطق القتال. وبحسب الغارديان البريطانية، تسببت أحداث أوكرانيا في ارتفاع غير مسبوق لأسعار القمح في الأسواق الأوروبية التي قفزت بنسبة 20% لأول مرة منذ 9 سنوات.

وفيما يبدو، فإن التطمينات التي أطلقها بوتين حول عدم رغبته في اجتياح أوكرانيا كاملة قد ذهبت أدراج الرياح مع استمرار الحرب، وهو ما دفع النفط إلى مستويات قياسية تقترب من 120 دولارا للبرميل. وبينما يمتلك العالم خطة حاضرة لضبط الارتفاع الكبير في أسعار النفط مرة أخرى عبر إفراج الدول عن بعض مخزونات الطوارئ لديها، إلى جانب الضغط على منظمة أوبك لزيادة إنتاجها (لا تزال المنظمة تقاوم هذه الضغوط إلى اليوم)، إلا أنه لا يملك الخيارات نفسها في موضوع الذهب (تعد روسيا ثالث أكبر منتج له) الذي تحكمه حسابات خاصة أخرى، باعتباره الملاذ الآمن الذي يهرع إليه المستثمرون في ذروة أوقات الصراع، فخلال الأيام الأخيرة، قفزت أسعار الذهب إلى أعلى مستوياتها منذ مايو/ أيار 2021، وسط عزوف من المستثمرين عن الأصول المحفوفة بالمخاطر.

ألحقت روسيا ضررا بالغا بالاقتصاد العالمي بسبب التصعيد الأخير تجاه أوكرانيا، وكبدته خسائر في خمسة محاور كبرى، وهي: النفط، والطاقة، والحبوب، وسوق الأسهم، والسندات المالية. ومع وصول مسار الأحداث إلى طريق مسدود، لا تبدو العقوبات الاقتصادية الغربية قادرة على إخضاع روسيا من دون أن يتضرر معها الاقتصاد العالمي الذي يعاني أساسا من عدة أزمات تلاحقه، من خفض توقعات النمو، وارتفاع أسعار النفط، ومعها أسعار مجموعة واسعة من السلع الغذائية، ووصول معدلات التضخم إلى أعلى مستوياتها منذ العام 2008.

لا يُستثنى الاقتصاد الروسي أيضا من تبعات قرارات بوتين الذي يبدو أنه مستعد لتحمل عواقب توجهه نحو غزو أوكرانيا مهما كانت الخسائر. وفي أعقاب العقوبات الغربية، هوت قيمة الروبل الروسي إلى أقل من سنت أميركي واحد، في حين دفعت الخسائر بورصة موسكو لتعليق التداول لعدة أيام متتالية. وعلى الجانب الآخر، لم يكن الحال أحسن مما هو عليه في روسيا، فكييف التي تواجه أزمات داخلية في اقتصادها، باتت تقترب من طرق أبواب المانحين وصندوق النقد، في ظل إحجام المستثمرين عن دخول أسواقها.

العقوبات.. سلاح ذو حدين

بينما يصعب تقدير التكلفة الحقيقية للغزو الروسي في الوقت الراهن، يشير خبراء أن الاقتصاد العالمي سوف يتكبد ما لا يقل عن 400 مليار دولار من الخسائر في العام الحالي، خاصة مع التوسع في استخدام العقوبات، وحتى الآن فرضت كل من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكندا واليابان وأستراليا عقوبات قاسية على موسكو في محاولة لردعها عن الاستمرار في الغزو.

تعد العقوبات المفروضة على روسيا حاليا هي الأكبر في التاريخ، وفق تعبير الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، حيث شملت العقوبات الرئيس الروسي بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف ونخبة من أهم مساعديه، وجميع أعضاء مجلس الأمن القومي الروسي، وطبقة رجال الأعمال والأوليغاركيين المقربين من الكرملين، كما أنها شملت كل المجالات تقريبا من البنوك والمعاملات المالية إلى الطيران والصناعات العسكرية، وحتى الطاقة. وتبقى الخطوة الأكبر في هذا الصدد هي الفصل الانتقائي لعدد من البنوك الروسية عن نظام الاتصالات المالية العالمية بين البنوك “سويفت”، وهي خطوة تهدد حال توسيعها بفصل روسيا تماما عن الاقتصاد العالمي.

من المؤكد أن هذه العقوبات المُشددة سوف يُسمع صداها في جنبات الاقتصاد ليس في روسيا فقط، ولكن أيضا في أوروبا والعالم بأسره. لكن موسكو لا تزال تمتلك ورقة رابحة يتجنب الغرب حتى الآن إدارجها بشكل جدي ضمن العقوبات وهي مبيعات الطاقة، بسبب المخاوف من تأثير ذلك على الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز الروسي بالأساس في ظل انخفاض مخزونها الاستراتيجي، وفي ظل صعوبة تعويض أي نقص في الإمدادات الروسية في ظل الارتفاع الكبير بالفعل في أسعار الطاقة.

وبخلاف النفط، تمتلك روسيا ورقة أخرى يعدها اقتصاديون ذات تأثير فتاك في الاقتصاد العالمي، فموسكو -وبوصفها أكبر مصدر للمعادن في العالم- تمتلك القدرة على عرقلة الصناعات الرئيسية في الولايات المتحدة وأوروبا من خلال تقييد إمدادات المعادن، وسط ارتفاع فعلي لأسعار عدة مواد خام، مثل الكوبالت والليثيوم والنيكل. كل هذه الاعتبارات كانت حاضرة أمام دول عدة لم تُسارع للتنديد بالتدخل الروسي في أوكرانيا، لما قد يكون لمواقفها من عواقب مدمرة على اقتصادها مستقبلا، قبل أن تنجح واشنطن في استنفار أوروبا التي سرعان ما اقتنعت أن الغزو الروسي خطر وجودي تفوق خسائره أي خسائر اقتصادية محتملة.

لعبة المصالح

لا تقتصر التأثيرات الاقتصادية للحرب على تلك القادمة من جانب روسيا فقط، فلدى أوكرانيا بدورها نصيبها من الآثار على ما يبدو. تُرسل كييف أكثر من 40% من صادراتها من القمح والذرة إلى الشرق الأوسط وأفريقيا، ويعد القمح الأوكراني من الواردات الأساسية لـ14 بلدا، نصف تلك البلدان تعاني أساسا من انعدام حاد للأمن الغذائي، وتخشى من أن تعطل الحرب وصول إمدادات الغذاء إليها، وعلى رأس المستوردين نجد بعض الدول العربية، كلبنان الذي يستورد نصف احتياجاته من القمح من أوكرانيا، إلى جانب مصر التي بحثت مؤخرا استيراد القمح من 14 دولة أخرى.

ووفقا لتقرير حديث للأمم المتحدة، تعد روسيا أكبر مُورّد للقمح في العالم، وتشكل مع أوكرانيا ما يقرب من ربع إجمالي الصادرات العالمية، ويوفر البَلَدان معا أكثر من 70% من إجمالي واردات القمح لمصر وتركيا، وهو ما وضع الأخيرة في مأزق سياسي عقب مطالبة الحكومة الأوكرانية لها بإغلاق مضيقَي البوسفور والدردنيل أمام السفن الروسية. في النهاية، وجدت تركيا نفسها مضطرة لسلوك طريق الحياد الصعب بين الطرفين المتصارعين تجنبا للآثار المدمرة للانحياز إلى أي منهما، تماما كما فعلت دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تراجعت عن الانحياز المُعلن لأوكرانيا، بعدما عاقبتها روسيا بإنكار بسيادتها المزعومة على مرتفعات الجولان السورية.

بالمثل، سعت دول الخليج العربي لإبقاء الخطوط مفتوحة مع طرفي الأزمة، رغم استجابتها لضغوط واشنطن للتصويت على إدانة روسيا في الأمم المتحدة. وبات من الواضح أن العديد من الدول العربية، الحليفة لأميركا، غير مستعدة للمخاطرة بتقويض علاقاتها مع موسكو لاعتبارات مختلفة، سواء كانت الشراكة في مجال الطاقة كما في حالة السعودية وبعض دول الخليج، أو المسائل الاقتصادية مثل القمح والسياحة في حالة مصر، أو حتى الاعتبارات العسكرية والمخاوف من خسارة مورد مهم للأسلحة. يوما بعد يوم إذن، تُثبت الحرب الروسية الأوكرانية أنها لن تظل محصورة في نطاقها الجغرافي، وأنها سوف تعلب دورا في إعادة ترسيم خارطة التحالفات والعداوات في عالم مضطرب.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply