كانت الأمور تبدو تحت السيطرة في داوننغ ستريت حتى عصر الأربعاء، وعندما غادر وزيرا المالية والصحة ريشي سوناك وساجد جافيد لحق بهما كثيرون، ولم تمض 24 ساعة حتى استقال 38 من أعضاء حكومة بريطانيا.

وإلى جانب الوزراء، تخلى العديد من النواب والساسة المحافظين عن رئيس الوزراء بوريس جونسون، وطالبوه بترك منصبه على الفور، لكونه لم يعد أهلا لقيادة المملكة المتحدة في نظرهم.

جونسون -الذي ينحدر من أصول تركية مسلمة ويحمل الجنسية الأميركية- وفد إلى السياسة من عالم الصحافة، وسبق أن شغل منصب عمدة لندن ووزير الخارجية، وهو مهندس خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وعندما تنامت عليه الضغوط الأربعاء الماضي، كان الزعيم الخمسيني يستحضر قوته السياسية ويتجاهل التغييرات المتسارعة، ولذلك شدد على تمسكه بالسلطة ورفض إجراء انتخابات مبكرة.

وقال جونوسون -الذي يوصف بأنه مغرور وغريب الأطوار- إن هذا الوقت هو المناسب لتولي المسؤولية، ومواصلة العمل الحكومي لخدمة شعب منحه تفويضا كبيرا في انتخابات 2019.

بيد أن الرجل لم يستطع الصمود يوما آخر؛ فعلى وقع صيحات الاستهجان أمام مكتبه ظهر جونسون الخميس رفقة زوجته وثلة من الموظفين الذين بقوا إلى جانبه ليعلن استقالته من رئاسة الحزب الحاكم.

ولم يكن كافيا في نظر ساسة وصحفيين إقرار الرجل بالهزيمة ورحيله عن السلطة، بل كان عليه الاعتذار للشعب والتعبير عن ندمه على الأخطاء والفضائح التي لاحقته ودفعت به إلى السقوط.

فما هذه الفضائح والأخطاء؟

زجاجة نبيذ في المكتب

في مطلع العام الجاري، نشرت الصحافة البريطانية صورا لبوريس جونسون أثناء حفل في المكتب الحكومي وبجانبه زجاجة خمر، فيما بدا أنه حفل بمناسبة رأس السنة ويضم 4 أشخاص.

وكانت هذه الصورة تعود إلى عام 2020 في عزّ الإجراءات الاحترازية ضد كورونا التي فرضها رئيس الحكومة نفسه، وكانت تقضي بمنع تنظيم الاحتفالات.

وعلى الفور، ظهرت دعوات تطالب بوريس جونسون بالاعتذار والاستقالة من منصبه؛ فليس مستساغا في الدول الديمقراطية أن ينتهك رئيس الحكومة القانون ويطالب الشعب باحترامه.

وفتحت الشرطة تحقيقات في حفلات قيل إن جونسون أقامها في المكتب الحكومي خلال الحجر الصحي، وانتهت بتغريمه؛ ليكون أول رئيس وزراء بريطاني تغرّمه الشرطة لانتهاكه القانون.

وفي مقال نشره بصحيفة ديلي تلغراف، قال عضو البرلمان المحافظ نيك جيب إن على بوريس جونسون أن يستقيل على الفور.

لكن جونسون رفض الاستقالة واكتفى بالتعبير عن “أسفه” أمام البرلمان، قائلا “أفهم ذلك وسأصلح الأمور في داوننغ ستريت، نعم يمكن الوثوق بأننا سنحقق ذلك”.

سراب المال والوظائف

عندما وصل جونسون إلى السلطة قبل 3 سنوات، وعَد البريطانيين بأنهم سيجنون الكثير من المال والوظائف جراء إدارته ملف خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي.

لكن الأمور الآن بعيدة عن تلك التعهدات؛ إذ يواجه ملايين البريطانيين حاليا أسوأ تراجع في مستويات المعيشة منذ خمسينيات القرن الماضي تحت وطأة ارتفاع كبير في أسعار الطاقة بسبب الحرب في أوكرانيا.

وقبل أيام، قال مركز أبحاث كبير إن انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لبريطانيا بنسبة 5.2% يعود -في الأغلب- إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وفي تقرير له بموقع صحيفة “ذي إندبندنت” (Independent) نسب الكاتب آدم فورست لدراسة جديدة أجراها كبار الاقتصاديين أن “البريكست” (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) هو المسؤول إلى حد كبير عن خسارة المليارات في التجارة وعائدات الضرائب في السنوات الأخيرة.

ومن المتوقع أن يكون الاقتصاد البريطاني الأضعف بين الدول الكبرى في عام 2023، بعد روسيا.

وقفز معدل التضخم في بريطانيا إلى 9% في أبريل/نيسان الماضي، وهو أعلى مستوى منذ 40 عامًا، في حين ترتفع الأسعار بوتيرة أسرع من الأجور، مما يؤثر سلبا على مستويات المعيشة.

وتوقع بنك إنجلترا أن يصل التضخم إلى ذروته عند 10.25% في أكتوبر/تشرين الأول المقبل عندما ترتفع فواتير الطاقة مرة أخرى، وهو ما سيكون أسرع بكثير من متوسط الزيادات في الأجور.

ولم يتوقف البنك عند هذا الحد، بل توقع أن تظل أسعار الطاقة أعلى مما كانت عليه قبل الوباء حتى نهاية عام 2024 على الأقل، وأن يظل النمو الاقتصادي بالكاد أعلى من الصفر، مما يعني أنه من غير المرجح أن تشهد الأسر المتوسطة انخفاضًا كبيرا في الضغوط المالية التي تواجهها.

وتقول هيلين دودني (53 عاما) -التي تعمل في مجال حقوق المستهلك- “حان الوقت أليس كذلك؟ هل تعرفون أحدا مغرورا وجاهلا ويعيش في الوهم إلى هذا الحد؟” وتقصد بوريس جونسون.

أما لوبي أكينولا -التي فقدت أحباء جراء جائحة كوفيد-19- فتقول إن “إرث بوريس جونسون هو وفاة نحو 200 ألف بريطاني خلال فترة حكمه”.

وتضيف “بينما سينصرف جونسون إلى كتابة الأعمدة في الصحف ويتقاضى مبالغ طائلة لإلقاء خطابات بعد مآدب عشاء، لن يتغير شيء لعائلات مثل عائلتي مزقتها أفعاله”.

الرجل غير المناسب

وبينما كان رئيس وزراء المملكة المتحدة يعالج المتاعب الاقتصادية للبلاد ويحاول التعافي من فضيحة تنظيم الحفلات في المكتب ظهرت قضية أخرى، لتكتب نهاية أحدثت ضجيجا كبيرا في المشهد البريطاني لعدة سنوات.

تتعلق هذه القضية بالسياسي والنائب كريس بينشر الذي عينه جونسون في يناير/كانون الثاني الماضي مسؤولا عن الانضباط في حزب المحافظين، وبدا أنه يحظى بثقته.

ولكن بينشر لم يكن أهلا لتولي الشأن العام، فقد سبق أن تورط في “سلوك جنسي سيئ”، إذ نشرت جريدة صنداي تايمز أنه لمس عضوا برلمانيا في منطقة حساسة داخل مقهى بمجلس العموم عام 2017.

وما لبثت الصحف البريطانية أن نشرت تقارير عن تورط بينشر في عدة سلوكيات جنسية سيئة، مما دفعه للاستقالة من المنصب الذي عهد إليه به رئيس الوزراء من دون التخلي عن عضوية البرلمان.

ولم تكن هذه القصة فضيحة لبينشر وحده، فقد تكشفت تفاصيل أخرى أظهرت أن جونسون كان على علم بتورط صديقه في سلوك جنسي سيئ، ومع ذلك اختاره لتولي مسؤولية الانضباط في الحزب الحاكم.

في البدء أنكرت رئاسة الوزراء علم جونسون بسوابق بينشر، ولكن شهادات مسؤولين حكوميين أثبتت عكس ذلك، فبادر جونسون للاعتذار وأقر بأنه أخطأ في اختيار شخص غير مناسب لتولي المسؤولية.

ومن تلك اللحظة انفض المحافظون عن جونسون، وقالوا إنه لم يعد بوسعهم الدفاع عن أكاذيب وفضائح رئيس الوزراء، فكانت قضية بينشر بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس فكتبت نهاية سياسي بدأ قويا وانتهى محاصرا بالفضائح.

وفي الحقيقة، لم يكن جونسون جديدا على الفضائح، فعند سؤاله عام 2004 عن علاقته خارج الزواج مع الصحفية في مجلة “سبيكتيتور” بيترونيلا وايت، أجاب بأن هذا الكلام “هراء”.

وحينها كان جونسون متزوجا وأبا لـ4 أطفال ويحظى بثقة كبيرة بين المحافظين، وانفضح كذبه عندما كشفت والدة الصحفية عن أن ابنتها كانت حاملا وأجهضت.

المصدر : الجزيرة + وكالات + الصحافة البريطانية

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply