في مكان ما من أرض جمهورية الصين الشعبية حدث ما لم يكن ينبغي حدوثه. في واحد من الأسواق الرطبة المنتشرة في تلك البقعة من العالم، بيعت اللحوم والطيور المذبوحة، جنبا إلى جنب مع 38 صنفا مختلفا من الحيوانات البرية الغريبة، من كلاب الراكون وفئران البامبو والثعالب الحمراء وحيوانات المِنك وغيرها، التي يحمل كلٌّ منها مجموعته الخاصة من الفيروسات المَرَضية (1). في الظروف العادية، لا يُفترض بهذه الأصناف من مملكة الحيوان أن تجتمع في مكان واحد، ولكن الإنسان نجح في ليّ ذراع قوانين الطبيعة من أجل متعته الخاصة، فماذا كانت النتيجة؟

 

النتيجة التي نعاني تبعاتها حتى يومنا هذا هي ظهور فيروس جديد استطاع القفز من عالم الحيوان إلى عالم البشر، مُحدِثا ما يفوق 6 ملايين حالة وفاة حتى الآن (2). نتحدث بالطبع عن فيروس “سارس-كوف 2” المتسبب في مرض “كوفيد-19″، الذي يغلب الظن أنه تمكَّن من القفز من الخفاش ليُصيب الإنسان عبر وسيط ثالث لم يُحدَّد حتى الآن (3). إن ثبت حقا أن فيروس “كوفيد-19” قفز من الحيوانات إلى الإنسان بفضل اجتماع أصناف من الحيوانات لا ينبغي لها أن تجتمع معا، فماذا سيحدث لو اجتمعت حيوانات أخرى من بيئات وفصائل مختلفة في مكان واحد، هربا من تأثيرات التغير المناخي الذي تسبَّب به الإنسان؟

أحد الأسواق الرطبة في تايلاند (الأوروبية)

 

الفرصة والتوافق

في البداية، علينا أن نفهم أن اجتماع حيوانات برية غير مألوفة في مكان واحد لا يكفي لحدوث عملية “الانتشار الفيروسي” (Viral spillover)، وهي انتقال فيروس خاص بصنف من الحيوانات إلى صنف آخر، متخطيا كل الحواجز الطبيعية التي كانت تمنع ذلك (4)، ولكنه فقط يخلق “الفرصة” المناسبة لحدوث الانتشار، وإلى جانب هذه الفرصة لا بد من توافق بنية الفيروسات، ومناعة المُضيف ومُستقبلات خلاياه، فبدون المستقبلات الملائمة، لن يتمكَّن الفيروس الجديد من اختراق خلايا الحيوان الضحية، وبالتالي لن يحدث الانتشار (5).

 

قد يحدث الانتشار مباشرة من “المُضيف الأوليّ” (Primary Host)، وهو أحد الحيوانات الفقارية أو اللا فقارية، إلى “المُضيف الثانوي” (Secondary Host)، وهو الإنسان، عن طريق التلامس المباشر مع المُضيف أو التعرُّض لإفرازات جسده الملوثة بالفيروس. وقد يحدث بشكل غير مباشر عن طريق وسيط، الذي قد يكون حيوانا آخر، هذه العملية تحديدا، التي تتضمَّن عائلا وسيطا، تتسبَّب في خلق فيروسات أكثر مرونة، وأسهل في قدرتها على القفز مجددا إلى حيوان آخر، أو إلى الإنسان، ما دامت قد تمكَّنت من عمل أول قفزة.

Phillip Alviola, a bat ecologist, holds a bat that was captured from Mount Makiling in Los Banos, Laguna province, Philippines, March 5, 2021. "What we're trying to look into are other strains of coronavirus that have the potential to jump to humans," said Alviola. "If we know the virus itself and we know where it came from, we know how to isolate that virus geographically." REUTERS/Eloisa Lopez SEARCH "LOPEZ BATS" FOR THIS STORY. SEARCH "WIDER IMAGE" FOR ALL STORIES TPX IMAGES OF DAY
التواصل بين الإنسان والوطواط يخلق فرصا لانتقال فيروسات بين النوعين

 

تنبؤات

إذا وضعنا في الاعتبار أن 60-75% من الأمراض المعدية للبشر نشأت في الأصل داخل أجساد حيوانات أخرى، فسندرك حجم الدور الذي تلعبه ظاهرة الانتشار الفيروسي في نشوء الأمراض المعدية الجديدة في البشر (6) (7). “كوفيد-19” ليس الأول ولن يكون الأخير، فهناك قائمة طويلة من الفيروسات التي نجحت في القفز من المُضيف الحيواني إلى البشر، مثل فيروس الإيبولا، وفيروس سارس (SARS)، وفيروسات الإنفلونزا الموسمية، والإيدز.

 

China Steps Up Measures To Control COVID Outbreaks (Getty)
العديد من الفيروسات الحيوانية تمكَّن من القفز إلى الإنسان مثل “كوفيد-19” والإيدز وسارس.

 

ربما نالت الخفافيش الجزء الأكبر من الاهتمام في هذا الصدد، لكن الحيوانات الأخرى لا تقل خطورة عنها، إذ إن القوارض البرية مثل الجرذان والسناجب، بل وحتى حيوانات المزرعة المسالمة التي نتغذَّى على لحومها، قد تمتلك فرصة الخفافيش نفسها في نشر أمراض مُعدية جديدة بين البشر (8). هنا توجد عدة سيناريوهات لما يمكن أن يحدث عندما تهاجر الثدييات المختلفة من مواطنها الأصلية إلى أعالي الجبال. وإذا استطاعت فصائل الحيوانات الهجرة من مواطنها بسرعة التغير المناخي نفسها، فمن المتوقع أن غالبية الثدييات المُهاجرة سوف تتلاقى مع فصيلة غير مألوفة لها في مكان ما مستقبلا، وهو ما يفتح الباب لقفزات فيروسية.

 

نحن لا نتحدث هنا عن احتمالات بعيدة أو غير مُرجَّحة. فخلال القرون الثلاثة الماضية، وبفضل الثورة الصناعية واكتشاف الوقود الأحفوري، ارتفعت نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون -وهو محرك أساسي لعملية التغير المناخي والاحترار العالمي- بقيمة 46% عن معدلات ما قبل الصناعة، بالإضافة إلى غاز الميثان الذي يُمثِّل 16% من انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن النشاط البشري.

 

دعنا لا ننسى أن ذلك لا يرفع فقط من درجات الحرارة، بل يزيد من معدلات الجفاف والتصحر، وتجريف الغابات، وزيادة حامضية المحيطات، وانقراض أنواع عديدة من الكائنات الحية وانعكاس ذلك على التوازن البيئي وصحة الكوكب. هذه العوامل وغيرها ستؤدي إلى تدمير البيئات الطبيعية للعديد من أصناف الحيوانات، مما سيدفعها دفعا للانتقال إلى مناطق جغرافية جديدة. (للمزيد اقرأ تقرير ميدان: قبل أن تحترق الأرض).

سيؤدي التغير المناخي إلى تدمير البيئات الطبيعية للحيوانات ودفعها للانتقال والتجمع في أعالي الجبال
سيؤدي التغير المناخي إلى تدمير البيئات الطبيعية للحيوانات ودفعها للانتقال والتجمع في أعالي الجبال

 

هذا هو السيناريو الذي تنبَّأت به مجموعة من الباحثين في الدراسة المنشورة حديثا في دورية “نيتشر” (Nature) المرموقة، بعد إجراء محاكاة للبؤر الجغرافية المحتملة لتبادل الفيروسات، تحديدا في المناطق الاستوائية، باستخدام نموذج جغرافي “لشبكة الثدييات – الفيروسات” (Mammals – Viral network) وتوقعات التغير الجغرافي لانتشار 3139 نوعا من الثدييات، على خلفية سيناريوهات التغير المناخي لعام 2070.

 

تُعرَّف “شبكة الثدييات – الفيروسات” بأنها خريطة توضِّح أنواع الثدييات والفيروسات ذات التوافق الملائم لحدوث انتشار الفيروسات وتحوُّرها، وفي هذه المحاكاة، من المتوقع أن تجتمع هذه الثدييات في الأراضي المرتفعة، ذات التنوع البيولوجي الهائل، والكثافة السكانية العالية، مما يخلق الفرصة والتوافق لحدوث 4000 عملية انتشار فيروسي بين هذه الثدييات، بما في ذلك الإنسان (10).

 

وفقا لما سبق، فإن احتمالية انتقال الفيروسات تزداد بين الحيوانات ذات السلف المشترك، لأنها تتشارك البيئة والمناعة أيضا. من حُسن الحظ إذن أن بلدان العالم تتشارك قدرا ضئيلا من أصناف الحيوانات المتشابهة، مما يخلق انعزالا نوعيا بين الدول، ويُقلِّل من احتمالية تلاقي هذه الحيوانات معا، وبالتالي من فرصة حدوث الانتشار.

 

وفقا للبيانات الحالية، فإن 7% فقط من أزواج الثدييات المحتملة تتشارك الموقع الجغرافي نفسه، و6% من الثدييات فحسب تتشارك فصائل الفيروسات نفسها. هذه النِّسَب تدعو للتفاؤل لو استمر الوضع على ما هو عليه، ولكن الحقيقة أن التغير المناخي والتعدي على المواطن الأصلية للحيوانات سيدفعها دفعا للاجتماع في مواقع جغرافية مشتركة بعيدا عن ارتفاع الحرارة وبطش البشر.

 

وفقا للدراسة، فإن العملية قد بدأت بالفعل ولا سبيل لإيقافها، فلم يعد الالتزام بأهداف اتفاقية باريس، بالحفاظ على درجة حرارة الأرض تحت 2ْ مئوية فوق مستويات ما قبل الصناعة، كافيا لوقف هجرة الحيوانات من مواطنها ومن ثم اختلاطها مع فصائل جديدة (11). تتوقع نتائج الدراسة أن هذا الاختلاط سيؤدي إلى 300 ألف لقاء أول بين مختلف الثدييات، أي ضِعْف المعدل الحالي للقاءات الأولى، وفي حالة وجود التوافق الملائم، من المتوقع زيادة عدد الفيروسات الجديدة والأوبئة الناتجة عنها خلال القرن الحالي (12).

رسم توضيحي لبعض أنواع الثدييات
رسم توضيحي لبعض أنواع الثدييات

 

بؤر الخطر

كحال العديد من الأوبئة الحيوانية التي أصابت البشر في القرن الماضي والحالي، مثل الإيدز عام 1981، و”كوفيد-19″ عام 2019، كانت بؤرة الانتشار في منطقة استوائية. على الرغم من أن اللقاءات الأولى بين الثدييات ستحدث في كل مكان في العالم عاجلا أم آجلا، فإن قارة أفريقيا وجنوب شرق قارة آسيا تحديدا تُمثِّل بؤرا محتملة لحدوث الانتشار الفيروسي. يرجع ذلك إلى الكثافة السكانية العالية والتنوع البيئي الهائل لتلك المناطق، واحتوائها على الكثير من الأمراض الحيوانية، بالإضافة إلى كونها الأكثر عُرضة للاحترار الناتج عن التغير المناخي (13).

 

وجدت الدراسة أن إثيوبيا والوادي المتصدع، بالإضافة إلى الهند وشرق الصين وإندونيسيا والفلبين، قد تكون نقاطا ساخنة للانتشار الفيروسي في المستقبل. إذا نجحت الحيوانات المهاجرة إلى تلك المناطق في تحرير الفيروسات الحيوانية المجهولة الكامنة في أجسادها، فإن سكان تلك المناطق سيكونون غير محصنين ضد الإصابة بالأمراض من هذه الفيروسات، وأيضا أكثر قابلية لنشرها على مستوى العالم عن طريق التجارة والسفر. على العكس من ذلك، فإن فرص حدوث لقاءات أولى في غابات الأمازون قليلة، لأن سرعة التغير المناخي ستسبق قدرة الحيوانات على الهجرة إلى أعالي الجبال فلن تلتقي فصائل جديدة من الأساس.

 

هناك بؤرة خطر أخرى ولكنها حيوانية وليست جغرافية، وهي الخفافيش. تعتمد قدرة الحيوان على الانتقال من بيئته إلى بيئة جديدة على عدة عوامل، مثل حجمه وموقعه من الهرم الغذائي وتضاريس المكان، وهنا تمتلك الخفافيش ميزة القدرة على الطيران والحجم الصغير مقارنة بالكثير من الثدييات الأخرى، مما يُمكِّنها من الطيران لمسافات شاسعة تتخطى المسافة التي قد يقطعها أي ثديي آخر في الحجم نفسه خلال 50 عاما. هذا يعني أن الخفافيش تحديدا قد تقود أغلب حوادث الانتشار الفيروسي بين الفصائل المختلفة، وربما تصل بالفيروسات المستحدثة إلى مناطق جديدة كليا.

epa08112510 Greater horseshoe bats are seen during their winter rest in the Abaliget Cave in Abaliget, Hungary, 08 January 2020. EPA-EFE/TAMAS SOKI HUNGARY OUT
مجموعة من الوطاويط المتدلية من سقف أحد الكهوف

قد يبدو عام 2070 الذي حدَّدته الدراسة بعيدا للغاية، وربما لن نعيش لنراه ولا لنعاصر هذه الفيروسات الجديدة، ولكنه قريب للغاية بالنسبة لأولادنا وأحفادنا. بالوضع في الاعتبار المعاناة التي لاقاها هذا الجيل مع جائحة “كوفيد-19″، والمعاناة التي عاشها أجدادنا مع الإنفلونزا الإسبانية منذ قرن مضى، وما بينهما من أوبئة مختلفة، فمن المتوقع زيادة فرص حدوث هذه التفشيات في الأجيال القادمة أكثر وأكثر. ربما قد فات الأوان على محاولات وقف عملية الانتقال الجغرافي للثدييات وحوادث الانتشار الفيروسي، ولكن ما زال هناك فرصة للتعلُّم من أخطاء البشرية في التعامل مع الأوبئة السابقة، والاستعداد بشكل أفضل لاستقبال الوباء القادم لا محالة.

—————————————————————————————————-

المصادر:

1- Animal sales from Wuhan wet markets immediately prior to the COVID-19 pandemic | Scientific Reports

2- • Coronavirus deaths worldwide by country | Statista

3- Do three new studies add up to proof of COVID-19’s origin in a Wuhan animal market? | Science

4- spillover event

5- Climate change increases cross-species viral transmission risk | Nature

6- Zoonotic spillover: Understanding basic aspects for better prevention – PMC.

7- Ranking the risk of animal-to-human spillover for newly discovered viruses | PNAS

8- Zoonotic spillover: Understanding basic aspects for better prevention – PMC.

9- Climate change increases cross-species viral transmission risk | Nature

10- The Paris Agreement | UNFCCC

11- Climate change increases cross-species viral transmission risk | Nature

12- المصدر السابق

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply