القدس المحتلة – “هاتوا الجريدة تنقراها نشوف بلدنا مين تولاها.. يمّا بلدنا انقسمت نصين قسم أردني وقسم إسرائيلي.. هي يا بيت صفافا واندهي أصحابك وخسارة اليهود توقف على بابك”.

حلت هذه الأهزوجة الشعبية محل أهازيج الأفراح الشعبية الأخرى في قرية بيت صفافا جنوبي القدس بعد تقسيم القرية بشريط حدودي فصل أبناء ومنازل العائلة الواحدة إلى قسمين إسرائيلي وأردني.

ففي منتصف أبريل/نيسان 1949 وُقّع اتفاق “رودس” لوقف إطلاق النار والذي شرعت بموجبه القوات المصرية ترافقها الوحدات السودانية والليبية واليمنية في إخلاء ثكناتها وقواعدها تأهبا للرحيل عن جبهة القدس الجنوبية، بما فيها بيت صفافا التي روت دماء أبنائها ترابها.

في مذكرات حسن إبراهيم عثمان ابن القرية التي كتبها تحت عنوان “الجبل والثلج.. ذكريات الطفولة والصبا والشباب في فلسطين التاريخية 1940-1959” قال إن مخاتير بيت صفافا تجمعوا وسط القرية ليودعوا حماة الديار ورفاق السلاح والحزن يخيم على وجوه الجميع، خاصة بعد ملاحظة تحركات مشبوهة للقوات الإسرائيلية نحو القرية.

أطلقت هذه القوات الرصاص الكثيف من الأسلحة الأوتوماتيكية لمدة 15 دقيقة خلال اجتياحها معززة ببضع مدرعات بعد رفض المخاتير وقيادة الحامية التوقيع على سلخ جزء من بيت صفافا وضمه إلى الدولة “اليهودية حديثة العهد”.

عيسى عليان شاهد على فترة تقسيم قرية بيت صفافا إلى جزأين إسرائيلي وأردني (الجزيرة)

تقسيم أراضي القرية وقلوب أبنائها

بعد دخول القرية بيوم واحد شرعت القوات الإسرائيلية في نصب الأسلاك الشائكة التي اخترقت وقسمت شارع بيت صفافا الرئيسي والقرية إلى قسمين طبقا لاتفاق “رودس”.

كان الدافع الأساسي لضم جزء من بيت صفافا للاحتلال الإسرائيلي هو طمعه في خط السكك الحديدية الذي يمر من القرية ويربط القدس بمدن السهل الساحلي، وهكذا أصبح القسم الذي تمر منه سكة الحديد تحت الحكم الإسرائيلي والآخر تحت الحكم الأردني حتى عام 1967.

على لسان من عايشوا فترة التقسيم بما يعرف شعبيا بـ”الشيك” (الأسلاك الشائكة) تنساب الذكريات الأليمة التي رافقتهم بالأفراح والأتراح والأعياد.

سارت الجزيرة نت نحو منزل عيسى عليان الذي ولد بعد تقسيم القرية بـ3 أعوام وعاش تفاصيل الحياة اليومية المظلمة بوجود السلك الحدودي القسري.

عندما رسمت الحدود الجديدة انعزلت عائلة والده في القسم الإسرائيلي وعائلة والدته في الأردني، لكن خوف جده لوالده على ابنه دفعه بترحيله وأسرته خلال ساعات الاحتلال الأولى إلى الجانب الأردني.

يقول عليان “عشت مع والديّ في منزل جدي لأمي، وعندما بلغت من العمر 10 أعوام قلت لأمي إنني مصمم على الهرب من فتحة أسفل الأسلاك الشائكة إلى الجانب المحتل لزيارة منزل جدي لوالدي، لم تسمح لي في البداية لكنها نزلت عند رغبتي، ليس قبل أن تتوجه لمدينة بيت لحم وتشتري قطعة لحم كبيرة هدية لهم”.

2-أسيل جندي، بيت صفافا، القدس، منزل عائلة عليان الذي اتخذه الجيش الأردني مقرا له خلال حكمه لقسم من القرية(الجزيرة نت).jpg
منزل عائلة عليان الذي اتخذه الجيش الأردني مقرا له خلال حكمه قسما من القرية (الجزيرة)

انتظرت العائلة المنسلخة عن بعضها غياب الدوريات المناوبة على الحدود، وكان عم عيسى الذي يكبره بـ4 أعوام بانتظاره أمام الشريط الحدودي في الجانب المحتل.

ويضيف عليان “عشت أجمل أيام حياتي في أيام التهريب هذه، جلست بحضن جدتي وزرت حديقة الحيوانات، وتناولت بوظة لذيذة، قبل أن يستدعيني والدي للعودة لنيته السفر إلى الكويت”.

لم تطل رحلة الغربة وكان أقسى ما مر عليه فيها هو لحظات وداع والده لعائلته من خلف الأسلاك الشائكة في كل مغادرة من القرية باتجاه الكويت.

في منزل آخر قريب بدت ويلات النكبة وضنك العيش جلية على ملامح المسنة بدرية عليان المنحدرة من بيت صفافا والتي ولدت عام 1942 وعاشت تفاصيل كل المعارك التي وقعت حول القرية وعلى أراضيها.

“في اليوم التالي لاجتياح القرية شهدت على ترسيم الحدود، وأذكر أن عمي ركل بقدمه السلك الشائك وأمرهم بإزالته، لكن رد أحد الجنود فورا وقال له: تحدثوا مع المسؤول، هذه أوامر عليا”.

على مدار ساعة كاملة سردت بدرية للجزيرة نت سيلا من القصص عن ذكريات “الشيك” الذي وجدت نفسها وعائلتها خلال ساعات في الجانب المحتل بعد نصبه.

4-بدرية عليان وماجدة صبحي تستذكران حكايا الحدود القسرية ببيت صفافا(الجزيرة نت)
المسنة بدرية عليان (يمين) وماجدة صبحي تستذكران حكايات الحدود القسرية في بيت صفافا (الجزيرة)

أقسى الذكريات.. الموت

“توفيت شقيقتي ذات الأعوام الستة عام 1950 بعد سقوطها في بئر، وعندما قسمت القرية أصبحت المقبرة في الجانب الأردني، وبعد محاولات حثيثة سمح الضابط الأردني لوالدتي بأن تغطي جثمانها ببطانية وتلقيه من أعلى الشيك ليتلقفه عمي ويدفنه في مقبرة القرية”.

عام 1954 تواردت أخبار لوالدها مفادها أن إسرائيل تنوي تجنيد كل الفتيات اللواتي يعشن في الجزء المحتل، فتحرك فورا وألقى صرة بداخلها قطع ذهبية لأحد أقاربه في الجانب الأردني وتوسل إليه ليخرجهم من منطقة “الزون” (الحدود).

انتقلت العائلة بالفعل إلى الشطر الأردني عبر بوابة “مندلبوم”، وهي الممر الوحيد بين شطري القدس في الفترة الواقعة بين عامي 1949 و1967.

تزوجت بدرية عام 1962، وانتقلت للعيش في منزل عائلة زوجها الذي كانت تستخدم القوات الأردنية جزءا منه مخفرا وسجنا، ولم تكن الذكريات التي عاشتها هناك حتى إزالة الأسلاك الشائكة عام 1967 أجمل.

رافقتنا خلال زيارتنا للمنزلين ابنة بيت صفافا ماجدة صبحي التي وثقت في كتابها “زفة وزغرودة يا بنات” أغاني وحكايات أعراس قرية بيت صفافا.

“يحرم عليّ الحرير الزيني عشان بلدنا انقسمت قسمينِ.. يحرم عليّ الحرير يتهافى عاللي جرالك يا بيت صفافا.. يمّا بلدنا أجوها اليهود حميناها بضرب البارود.. يمّا بلدنا أجوها نجّاس، حميناها بضرب الرصاص”.

صبحي تحدثت أيضا عن الطرق وكلمات السر التي استحدثها أهالي القرية في عمليات التهريب غير المشروعة للبضائع والحاجيات من جانبي الحدود القسرية.

ومن أهم البضائع التي هُرّبت القهوة والأرز والسكر والأحذية والدجاج والبهارات والسجائر وفقا لاحتياجات كل جانب، وأكدت صبحي أن الأهالي في الجانب المحتل كانوا يفتقرون إلى كثير من الاحتياجات الأساسية في ظل دولة محتلة ناشئة.

ختمت ماجدة جولتها مع الجزيرة نت وحديثها بأكثر قصص “الشيك” إيلاما والمتعلقة بوفاة جدتها تمام عام 1950 في الجانب المحتل، وتذكر أن جدها طلب حينها من جيش الاحتلال نقل جثمانها إلى الجانب الأردني فوافق، لكن الطعنة الأقسى تلقاها من الضابط الأردني الذي قال له “خذ قليلا من الكاز وعود كبريت واحرق الجثمان أفضل”.

أُجبر الجد على دفن زوجته في فناء المنزل، ورقدت تمام هناك حتى عام 2008 عندما اضطرت العائلة لفتح القبر ونقل الرفات إلى مقبرة بيت صفافا خلال عملية ترميم للمنزل التاريخي.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply