يشير الباحث في الأدب الافغاني المعاصر المغربي عثمان بوطسان إلى أن الشعر الأفغاني يعد مرآة للمأساة الإنسانية التي عاشها وما يزال يعيشها الأفغان جراء الحروب المتكررة خلال العقود الأخيرة والعنف الذي مارسته وما تزال تمارسه الجماعات المتطرفة.
تبدأ المترجمة العراقية مريم العطار كتابها “أنطولوجيا الشعر الأفغاني الحديث” بالإجابة عن تساؤل، ما الدافع وراء ترجمة الشعر الأفغاني الحديث؟ فتقول “هذا الصوت الشعري مغاير”، وتضيف “منذ طفولتي، كنت أرى الأفغانيين -رغم كل المآسي التي كان يمر بها بلدهم- متشبثين بالحياة، بهويتهم، كيف يمكن لإنسان أن يظل حيا بينما الجميع متواطئ يريد قتله، رأيت الأمر أشبه بذلك الطائر الأسطوري الذي يعود من رماده بعد كل ميتة، طائر العنقاء”.
يبدأ الكتاب الصادر عن “دار المدى، 2021” بمقدمة أشارت فيها المترجمة إلى الفترة الزمنية التي دخل فيها الشعر الحديث إلى أفغانستان، وقد تنوعت مصادر بحثها، بعضها يشير إلى العام 1922، كبداية لتحولات كثيرة طرأت على الأدب الأفغاني، وأيضا بعد ثورة “ثور” عام 1979، ودخول الحزب الديمقراطي الشعبي في الحكومة الأفغانية بدعم من الاتحاد السوفياتي. ووفق المترجمة كان لهذه التغييرات السياسية تأثيرها في ولادة ملامح جديدة للأدب والشعر المعاصرين.
وحول الصعوبات التي واجهتها في إنجاز هذه الترجمة، تقول “مثلها مثل كل الصعوبات التي تواجه أي مترجم آخر، لكن في الأنطولوجيا، التجميع هو المهمة الأصعب، لأن اختيار النصوص أنا الذي أقرره، وقد يكون في ذلك ظلم لشاعر دون آخر، أستلزمني تجميع النصوص أيام وليال طويلة، بين حر وبرد، متنقلة من مصدر لآخر كي تكون المحصلة النهائية هي هذه النصوص التي بين يد القارئ العربي اليوم”.
الشعر مرآة المأساة
وفي حديث للجزيرة نت، يشير الباحث في الأدب الأفغاني المعاصر المغربي عثمان بوطسان، إلى أن الشعر الأفغاني يعد مرآة للمأساة الإنسانية التي عاشها وما يزال يعيشها الأفغان جراء الحروب المتكررة خلال العقود الأخيرة والعنف الذي مارسته وما تزال تمارسه الجماعات المتطرفة.
فالحضور المتكرر والرمزي لكلمات الموت والرصاص والقتل والدماء وغيرها من المفردات ذات الطابع التراجيدي ما هي إلا انعكاس واقعي لأزمة وجودية يصعب على الشاعر الأفغاني تجاوزها.
فالقصيدة الأفغانية هي قبل كل شيء نسيج من التجربة الفردية والجماعية الدموية التي وشمت الذاكرة؛ لتتحول إلى صرخة عميقة يعبر من خلالها الشاعر عن الجرح الغائر الذي أنهك جسده وحسه وخياله، وحوله لشظايا تحمل في طياتها كل معاني البؤس والألم والخوف المتكرر من الأحداث السياسية والاجتماعية العنيفة.
قصائد حرب وحزن وغربة
منذ العام 1992، كان الأدباء يعرفون بكتابة الشعر الذي عرف باسم “شعر المقاومة” الذي تميز برائحة الحرب والدم ومشاعر الغربة. وربما هذا ما جعل هذا النوع من الشعر بعد مرور الزمن يجد طريقه للالتحاق بركب الأدب العالمي الحديث.
وترى مريم العطار، أن عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي يترك أثرا واضحا بالنفوس، وأفغانستان لطالما سُحقت تحت سموم المتعصبين والغزاة وتم تدمير أراضيها. “لكن في مثل هذه الاضطرابات التاريخية، يجب أن يعمل الأدب دائما كمنصة للرفض والتعبير عن عدم الرضوخ والاستسلام، ليس للمثقف الحقيقي من خيار سوى اللجوء إلى الفن كأداة للرفض”.
وتتابع أن وظيفة الأدب توثيق تاريخي حقيقي في إطار أدبي، وعرض معاناة الحرب وما بعد الحرب وأثرها على الإنسان. الشاعر الحقيقي من واجباته التفكير بالعقل الجمعي والتعبير عنه، فيمكن لقصيدة أن توقف حربا، كما أنها يمكن أن تشعل فتيل الحرب بين دولتين، وهذه هي قوة الشعر وميزته، كما أنه يمكن للشعر وللأدب بصورة عامة أن يكون وثيقة تاريخية للبلدان يمكن اعتماده.
وتحدث عثمان بوطسان عن التزام الشعر الأفغاني بالقضايا الوطنية والفردية، وأشار إلى أنه لا يمكن الإحاطة بمضمونه الرمزي إلا من خلال الرجوع إلى السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية والسياسة التي عاشها الشاعر أو كان شاهدا عنها.
فجل الشعراء الأفغان رجالا ونساء، لا يختلفون كثيرا في تصوراتهم وفلسفتهم الشعرية، بحيث أن معظم النصوص حاولت رسم الواقع المأساوي الذي عرفته أفغانستان خلال فترة الانقلابات والتوغل السوفياتي مرورا بسيطرة طالبان، ثم الحرب الأميركية على القاعدة وما نتج عنه من دمار وقتل وحرمان من أبسط شروط الحياة، خاصة حرية الرأي والتعبير.
واقع تراجيدي
وترى مريم العطار أن الشعراء الأفغان حصنوا أنفسهم بطبيعة بلادهم، لم تمسخوهم حروبهم إلى مسوخ وحشية معدة للقتل والتدمير.
واستطردت “الدافع وراء كل ذلك هو أنني شعر ت أن الوقت مناسب لترجمة أدبهم، كل تلك الأحداث والمواقف التي شاهدتها في طفولتي دفعتني لأترجم أدبهم إلى القارئ العربي لعله يرى ما رأيته وإن كان ذلك مضمرا لا يظهر منه سوى خيوط واهية، لكن العين المتمرسة ستلتقطه ما لا شك في ذلك، والرهان على هذه العين”.
من جانب آخر، يرى عثمان بوطسان أن القارئ لنصوص سيد بهاء الدين مجروح، واصف بختري، بارتاو نادري، نادية أنجمان، لينا روزيه حيدري وغيرهم من الشعراء الأفغان، سيلاحظ أن جل هذه النصوص نسجت بألوان الدموع والمعاناة والحرمان وتتخذ من اللغة فضاء يختلط فيه الواقعي بالأسطوري والخيالي بالرمزي لتشكل صورة متعددة الأبعاد لتشمل الوجود والهوية وتعكس بصدق الواقع التراجيدي الذي تعيشه أفغانستان.
ويضيف “يشتغل الشعراء الأفغان كثيرا على الجانب الرمزي للغة الكتابة الشعرية، إذ يستعملون لغة تتسم بالعمق وتعدد المعنى، بحيث إن كل كلمة تستعمل في نص شعري تجر القارئ، خصوصا الأجنبي إلى متاهات لغوية ورمزية تستمد جذورها من التجربة الشخصية والجماعية”.
من جهتها، ترفض مريم العطار النظر إلى الأيروتيكية في نصوص الشعراء الأفغان على أنها الإسراف في الملذات أو وصف الجسد وصفا غارقا في الحسية. فالنزعة الأيروتيكية في الشعر الأفغاني -حسب العطار- هي ردة فعل عنيفة إزاء قيود كثيرة فرضها المجتمع والأسرة والسلطة والراديكاليين لتضييق الخناق على الإنسان، ورميه زورا في الجانب المظلم من الحياة، أي في سراديبها المعتمة.
وتضيف “الشاعر مجيب مهرداد، يكتب عن الجسد ويضع القارئ أمام مشاعر إنسانية تترامى ما بين الحرب وغريزة الجسد، كما أن الأيروتيكية كتبت بشكل كلاسيكي من قبل بعض الشاعرات أمثال مهتاب ساحل وكريمة شبرنك حيث تقول “يقال إن قصائدي ممتلئة بالخطايا/ يقال إنها عارية تسير بأقدام الخطيئة/ لأنني كتبت مرة/ أن صدري سيموت ظمآن على أحضانه/ الربيع سيحزن/ حيث مدينتنا تفوح برائحة جدائلي الكحولية”.
جيل الرواد
وترى العطار أن “الشعر الأفغاني المعاصر دخل إلى أفغانستان بتأثير من “الشعر النيمايي” الذي أسسه الشاعر الإيراني نيما يوشيج. هذا النوع من الشعر الذي يسمى أيضا “الشعر السبيد” أو “الشعر الأبيض” في إيران والذي بدوره هو أيضا مقتبس من قصيدة النثر الفرنسية ويكتب في أفغانستان باللغة “الدرية”. في هذا الكتاب معظم الشعراء خرجوا من هيمنة الشعر التقليدي، ولكن بكثير من الاحترام إلى شعراء الماضي والتراث”.
ونسألها، ما الذي يميز شعر المرأة الأفغانية؟ فتقول إن وجود المرأة في تلك البلدان هو بحد ذاته تحد للمرأة. أما كتابتها للشعر، أصفه بأنه شكل من أشكال الثورة، أو المطالبة بإعادة الاعتبار إلى المرأة من خلال الشعر، يتميز شعر المرأة الأفغانية بجرأتها وشجاعتها وموقفها التي لا يختلف عن موقف الشعراء الذكور، المرأة في الشعر الأفغاني، هي جندي مدافع.
ويقول عثمان بوطسان “بالرغم من أصالة الشعر الأفغاني وتفرده، فإنه ينتمي لأدب مهمش عالميا لأسباب سياسية وأيديولوجية اختزلت صورة أفغانستان المشرقة وتاريخها الممتد لآلاف السنين في الإرهاب والقاعدة والحرب ضد الظلاميين. لذلك، فالقليل جدا من النصوص الأفغانية التي ترجمت للعربية أو للغات أجنبية بسبب الرقابة وقلة الدراسات النقدية والأكاديمية”.
المصدر: وكالات