القاهرة – “الرافعي أمة وحده لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاجها الخاص، وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه.. كرهه الأدباء لأنه أصحر لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينهم وبينه، وكرهه المتأدبون لأنه رفع مقياس الأدب فوسمهم بالعجز عنه، وأنكره العامة لأن الأمر بينهم وبينه كالأمر بين العمى والنور، إنما يحب الرافعي ويبكيه من عرف وحي الله في قرآنه وفهم إعجاز الفن في بيانه وأدرك سر العقيدة في إيمانه”.

في عددها رقم 202 نشرت مجلة الرسالة نعيا مؤثرا وملخصا لمسيرة أحد أهم كتابها، فقد مضى قلم المفكر المصري مصطفى صادق الرافعي متقطرا إلى معارك أدبية لم يبغ منها شهرة أو صداما في المطلق بقدر ما بحث من خلالها عن حقيقة الأفكار ومغزى المعرفة.

نال الرافعي الكثير من الألقاب التي عكست تنوع إنتاجه الفكري وتقدير مآثره، فهو “معجزة الأدب العربي” و”حجة العرب” و”نابغة الأدب”.

ذلك الإنتاج الفكري وما شمله من معارك بقي أثره تتناقله الأجيال الراغبة في إدراك معنى الأدب وماهية الاختلاف رغم مرور 85 عاما على رحيله، فقد فارق الحياة في 10 مايو/أيار 1937.

لكل امرئ أجل منتظر

ويبقى من الذاهبين الأثر

يردده الناس جيلا فجيلا

ويروونه زمرا عن زمر

ترى فيه نفس الفتى مثلما

ترى في المرآة وجوه البشر

المسيرة إلى المعرفة

في يناير/كانون الثاني 1880 ولد مصطفى صادق الرافعي بمحافظة القليوبية على حدود العاصمة القاهرة في كنف عائلة يعمل جل رجالها في سلك القضاء.

لعب والده -الذي عمل رئيسا لمحكمة شرعية- الدور الأبرز في توجيهه المعرفي، فتفتحت ثقافته على مكتبته الزاخرة بالكتب الأدبية والمجالس الثقافية التي كان يستضيفها وضمت أعلام الأدب والعلم.

في سن العاشرة أتم حفظ القرآن الكريم، حصل على الشهادة الابتدائية ولم يكمل دراسته بعدها بسبب ظروف مرضه والتي أفقدته السمع تماما بعد نحو 10 أعوام.

مسيرته التعليمية القصيرة لم تتح له سوى العمل كاتبا في محكمة طلخا بمحافظة الدقهلية في عام 1899، ثم انتقل إلى محكمة طنطا الشرعية بمحافظة الغربية ثم إلى المحكمة الأهلية في القاهرة والتي بقي فيها حتى رحيله.

بعد نحو 4 أعوام من بداية عمله موظفا حكوميا أصدر ديوانه الشعري الأول، لينطلق بعد ذلك قلمه متنقلا بين الإنتاج الأدبي على تنوع فروعه والمؤلفات الدينية التي تنم عن فهم عميق لمعاني الإيمان، والمقالات التي نشرها في مجلة الرسالة.

ثورة شعرية

يقول الرافعي عن الشعر “فما هو إلا لسان القلب إذا خاطب القلب، وسفير النفس إذا ناجت النفس، ولا خير في لسان غير مبين ولا في سفير غير حكيم، ولو كان طيرا يغرد لكان الطبع لسانه والرأس عشه والقلب روضته، ولكان غناؤه ما يسمعه من أفواه المجيدين من الشعراء”.

ورغم ما تبدو أهمية الشعر في وجدان ولب معجزة الأدب العربي فإنه اعترض على البنية الكلاسيكية لنظم الأشعار، ويعتبر أول من أعلن رفضه تلك التقليدية التي تلتزم بالوزن والقافية والتي استمرت لمئات السنين.

مآخذ الرافعي على تقليدية نظم الشعر تعتبر أول وقفة شهدها الأدب العربي في تاريخه الطويل بشأن بنية القصيدة، ليفتح بذلك الباب لدعوات وحركات أدبية استهدفت تحرير الشعر العربي من الوزن والقافية، سواء كان ذلك بشكل جزئي أو كلي.

ورغم نضاله من أجل إحداث تغيير في شكل القصيدة العربية فإنه لم يستمر كثيرا في كتابة الشعر منصرفا عنه إلى الكتابة النثرية.

أتتك القوافي ما لها عنك مذهب

فأنت بها بر وأنت لها أب

وما وجدت مثلي لها اليوم شاعرا

أياديك تمليها علي فأكتب

وهل كلساني إن مدحتك مبدع

وهل كبياني ساحرا حين أنسب

معارك مع قامات

تميز الرافعي بنزعة نقدية تمزج بين رصانة الكلمة واستحضار الدليل وسخرية الأسلوب، ذلك المزيج الفريد ربما فُهم منه التهكم على مبارزيه، وهو ما احتدم معه العراك الذي ظل دويه ممتدا حتى الآن.

اتسمت معاركه الأدبية بأمرين، أولهما أنها كانت صامتة، فهو مع بداية توهجه الفكري كان قد فقد سمعه تماما وأصبح يتناقش على الورق، وثانيهما أنه اختار عراكه مع قامات لها ثقلها في الوسط الثقافي.

بدأت معاركه مع المفكر عباس محمود العقاد في عام 1921 حينما أصدر الأخير كتاب “الديوان”، فأصابه بسهام النقد، مما أغضب المؤلف الذي انتظر كتاب “إعجاز القرآن” للرافعي ليشمله بالانتقاد الحاد.

عن نقد الشعر يقول الرافعي في كتابه “وحي القلم” “هو في الحقيقة علم حساب الشعر، وقواعده الأربع التي تقابل الجمع والطرح والضرب والقسمة هي الاطلاع والذوق والخيال والقريحة الملهمة، والنقد إنما هو إعطاء الكلام لسانا يتكلم به عن نفسه كلام متهم في محكمة”.

لم يرق للعقاد نقد شعره، فكتب في ما يشبه الهجوم على شخص الرجل لا فكره “مصطفى أفندي الرافعي رجل ضيق الفكر مدرع الوجه يركب رأسه مراكب يتريث دونها الحصفاء أحيانا، وكثيرون ما يخطئون السداد بتريثهم وطول أناتهم”.

بدوره، اتهم الرافعي العقاد بالسرقة الأدبية، وكتب عدة مقالات في ذلك كان أكثرها مباشرة تلك التي نشرها في مجلة العصور تحت عنوان “العقاد اللص”، حيث ذكر النصوص التي سرقها العقاد من كاتب إنجليزي.

وحينما طرح العقاد ديوان “وحي الأربعين” انطلق الرافعي يشرح بتحليل رصين لا يخلو من السخرية إخفاقات العقاد، بل ووصفه في كتابه “على السفود.. نظرات في ديوان العقاد” بأنه مغرور ومتشاعر وسقيم الفهم في العربية.

وعلى الوتيرة نفسها دخل في معركة فكرية مع المفكر والأديب طه حسين، حيث رفض إعادة النظر في التراث الأدبي العربي باستخدام أدوات منهجية غربية مستحدثة -المنهج للفيلسوف الفرنسي ديكارت- وهي الدعوة التي أطلقها طه حسين بشكل مفصل في كتابه الشهير “في الشعر الجاهلي” الصادر عام 1926.

ورغم أن الرافعي سبق أن اعترض على نظم الشعر بطريقته التقليدية فإنه أشهر أسلحته الأدبية ليعارض دعوة التجديد التي أطلقها طه حسين، معتبرا القديم لا يتناقض مع الجديد، بل كلاهما مكمل للآخر.

وفي كتاب “تحت راية القرآن.. المذهبان القديم والجديد” أكد اعتزازه بالتراث العربي وتقديره للغة والاهتمام بقواعدها والمحافظة عليها، معتبرا الحرص على اللغة هو حرص على الدين.

ورأى أن المذهب الجديد الذي يدعو إليه طه حسين يشتمل على الركاكة وإهمال القومية التاريخية والتحلل من قيود الواجبات والانسلاخ من الجلد لأنها ليست أوروبية.

لكن يبدو أن المعركة بين الكاتبين كانت سابقه لمسألة تجديد التراث، إذ انتقد طه حسين كتاب “رسائل الأحزان” الذي نشره الرافعي عام 1924 قائلا “إن كل جملة من جمل هذا الكتاب تبعث في نفسي شعورا قويا مؤلما بأن الكاتب يلدها ولادة هو يقاسي من هذه الولادة ما تقاسي الأم من آلام الوضع”.

رحيل هادئ

ترك الرافعي للمكتبة العربية منتجا أدبيا متنوعا بين الشعر والنثر والنقد والتاريخ والمؤلف الديني، ومن أبرز آثاره ديوان “النظرات”، و”رسائل الأحزان”، و”وحي القلم”، و”تاريخ آداب العرب”، و”ملكة الإنشاء”، و”تحت راية القرآن”، و”البلاغة النبوية”، و”إعجاز القرآن”، و”رسالة الحج”.

كما ألف النشيد الوطني المصري الذي اُعتمد بين عامي 1923 و1936، وكذلك أغلب كلمات النشيد الرسمي التونسي الذي لا يزال معتمدا حتى الآن.

فجر 10 مايو/أيار 1937 استيقظ الرافعي للصلاة وجلس ليتلو آيات من القرآن ثم شعر بألم في معدته، لم يطل الألم أكثر من ساعة، إذ فاضت روحه مع شروق الشمس.

أبى الموت إلا وثبة تصدع الدجى

وكم ليلة قد باتها غير واثب

فما انفلق الإصباح حتى رأيته

وقد نشبتْ أظفاره بالكواكب

وكم في حشا الأيام من مدلهمة

قد ازدحمتْ فيها بنات المصائب.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply