غزو أوكرانيا زلزال جيوستراتيجي، من شأنه أن يسبب تداعيات أبعد من أوروبا التي لا يزال وصولها إلى نظام أمني متوافق عليه محل تساؤل رغم ما مضى من سنين منذ الحرب الثانية 1945، وروسيا التي تبحث عن اعتراف بدورها كقوة عظمى في نظام دولي يعاد تشكله، وأوكرانيا التي تجسد أزمة الدولة القومية بكل تجلياتها، وأميركا والصين بما بينهما من تنافس على من تكون له اليد العليا في النظام الدولي.

إن من أهم معضلات الدولة القومية في الزمن المعاصر هي قدرتها على إدارة التعدد والتنوع -الذي بات حقيقة واقعة في المجالات كافة- رغم أنها قامت تاريخيا على فكرة التجانس القومي ووجود هوية وطنية جامعة؛ فإن لم يوجدا فيجب خلقهما ولو بالقوة.

ماذا تعني الأزمة الأوكرانية لمسار التاريخ في السنوات القادمة؟

أولا: أزمة الدولة القومية:

فأوكرانيا، المنقسمة على ذاتها عرقيا وسياسيا وثقافيا ومناطقيا، عجز كيانها الحديث نسبيا الذي يعود لعام 1991 أن يعبر عن هوية وطنية جامعة، وكانت المشاريع السياسية المطروحة تزيد الانقسام والتشظي وتخلق قابليات للتدخل الخارجي، إما للغرب أو روسيا.

وروسيا -التي توظف أو تنطلق في بعض سياستها الخارجية من مجال حضاري/ثقافي وعرقي يستند أو يستدعي التاريخ بكل رمزيته وإخفاقاته- لا تعترف بحدود الدولة القومية القائمة، وتتخذ من مسألة انضمام أوكرانيا لحلف الناتو ذريعة لتعيد تشكيل الخريطة السياسية لمنطقة كانت ولا تزال تمثل مجالها الحيوي الجيوستراتيجي.

إن أحد أهم معضلات الدولة القومية في الزمن المعاصر هي قدرتها على إدارة التعدد والتنوع -الذي بات حقيقة واقعة في المجالات كافة- رغم أنها قامت تاريخيا على فكرة التجانس القومي ووجود هوية وطنية جامعة، فإن لم يوجدا فيجب خلقهما ولو بالقوة.

هذه المعضلة تعاني منها جل الدول المعاصرة، إن لم يكن كلها: دول نامية أو متقدمة، ديمقراطية أو تسلطية، من الشمال أو في الجنوب. ويمكن أن نسوق عديد الأمثلة على ذلك، فالولايات المتحدة بات مستقبل نظامها الديمقراطي على المحك، في ظل استقطاب وانقسام لم ينته باختفاء ترامب عن سدة الرئاسة، وتطرح الانتخابات في عديد الدول الديمقراطية أسئلة كثيرة عن تعريف المواطن الذي يجب أن يتمتع بحقوق المواطنية الكاملة، في ظل تصاعد حضور المهاجرين في المجال العام، ولا يقتصر الأمر على المواطنية وشروط انطباقها، بل يمتد إلى الأبعاد الثقافية والقيمية لهذه المواطنية كما في الحالة الفرنسية.

تطرح خبرة الزمن الانتقالي العربي الذي بدأ مع الموجة الأولى من الربيع العربي 2010-2011 سؤال الهوية الوطنية، وقد أجمعت الدراسات أنه لا نجاح لتحول ديمقراطي دون التوافق على هوية وطنية جامعة.

ومع قناعتي أن الانتفاضات الديمقراطية العربية بموجباتها المتعاقبة سوف تساهم في بلورة الهوية الوطنية كما يجري في لبنان والعراق، إلا أنه يجب أن نكون متنبهين لاستخدام معارك الهوية لتبرير الصراع السياسي، وكذا محاولة بعض الهويات الفرعية الهيمنة على المشهد السياسي، ساعين لتحقيق بعض المكاسب الجزئية على حساب بناء الهوية الوطنية الجامعة.

وفاقم الأمر انبعاث الوعي بمشاريع متناقضة تثير حماسة جهات معينة وهواجس فئات أخرى، مثل الحديث عن المشروع الإسلامي أو العثمانية الجديدة أو الهلال الشيعي أو الأفريقية في مقابل العربية في السودان، وفي أوكرانيا انقسام حول الالتحاق بالغرب أو العودة إلى روسيا.

في الانقسامات المجتمعية الممتدة وتطابق خطوط الصدع المتعددة، تهيمن الهواجس على الجميع، لذا فلا حكم إلا بالتراضي. ويجب أن تكون هناك دائما سياسات وخطابات الطمأنة لمواجهة الشعور بعدم الأمان على المصالح، مصالح الدول والفئات الاجتماعية، والهويات، والقوى السياسية والحزبية الأضعف.

في ظل هذه الأطوار، تصبح الدولة محل تساؤل، بحيث يصير المطلوب بناءها عن طريق إعادة التفكير فيها؛ فالتحدي الأساسي الذي تواجهه الجماعة الوطنية في كل قطر منقسم هو إحداث تحول ديمقراطي ذي جوهر اجتماعي، أحد شروط نجاحه إعادة بناء الدولة على أساس المواطنة الحاضنة للتعدد والتنوع.

في منطقتنا، وأظنه ينطبق على كثير من المناطق الأخرى، انتهت صيغة دولة ما بعد الاستقلال، ويجري ذلك في ظل تحول لمفهوم الدولة في مخيال المواطن، وتبديد للرأسمال التاريخي الذي أنجز على مدار السنوات التي تلت ما بعد الاستعمار في بعض الأقطار، والذي سمح بإنشاء عدد من المؤسسات ذات التقاليد الراسخة التي أدت لقيام الدولة بأداء وظائفها باستقلال عن توجهات النظام السياسي.

لقد بتنا الآن أمام معضلة تصيب كثيرا من دول العالم الثالث، هي أن: استمرار الدولة مرهون باستمرار النظام السياسي الحاكم، خاصة في ظل تحلل الدولة الوطنية إلى عناصرها الأولية من طائفية وقبلية وإثنية وجهوية ومذهبية.

ثانيا: مستقبل مفهوم السيادة

تكشف الأزمة الأوكرانية بوضوح كيف تتلاعب البلدان بالمبدأ الأساسي للنظام الدولي القائم على الدولة ليناسب احتياجاتها. إن الأزمة الحالية على الحدود الروسية الأوكرانية تسلط الضوء على الأهمية الدائمة لسيادة الدولة كمبدأ تنظيمي في السياسة العالمية، على الرغم من المزاعم المتكررة بأن العولمة جعلتها بالية، كما أنه يفضح ميل الحكومات إلى الاحتجاج بهذا المبدأ الأساسي أو رفضه أو إعادة تفسيره ليناسب احتياجاتها الظرفية ومصالحها القومية.

مركزية سيادة الدولة كانت ولا تزال حمالة أوجه، فروسيا والصين تؤكدان على مبدأ السيادة لمنع تدخل الولايات المتحدة وحلفائها في شؤون الدول تحت دعاوي التدخل الإنساني وحقوق الإنسان، أما الاستقرار العالمي في هذه الأزمة فيعتمد على ما إذا كانت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي قادرين على إعادة التأكيد والدفاع عن مركزية سيادة الدولة ضد أي محاولة روسية لرفضها.

يبدو أن الوضع في أوكرانيا قد قلب الخطاب الروسي والغربي القديم بشأن السيادة رأسا على عقب. فروسيا -التي كانت في السابق نصيرة قوية لمعيار ويستفاليا لعدم التدخل- لديها الآن أكثر من 100 ألف جندي على الأراضي الأوكرانية، وجرى القضاء على استقلال جارتها تحت مزاعم محاربة “النازيين الجدد”.

في غضون ذلك، أصبحت الدول الغربية -التي كانت منذ نهاية الحرب الباردة رائدة في مذاهب السيادة “المشروطة”، حين تتدخل في الدول تحت مزاعم رعاية الإرهاب أو ارتكاب الفظائع الجماعية أو إنتاج أسلحة الدمار الشامل كما في عراق صدام- من المتشددين في السيادة؛ واصفة تصرفات روسيا بأنها تهديد للنظام العالمي والإصرار على حق أوكرانيا المطلق في تحديد مواءمتها الجيوسياسية.

والصين في موقفها المتردد من دعم روسيا تحاول أن تحافظ على موقفها التقليدي من السيادة، حتى لا يكون ذريعة للتدخل في شؤونها الداخلية تحت دعاوي حقوق الإنسان وحقوق الأقليات كما في حالة الإيغور.

يبرر بوتين موقفه بالقول إن  أوكرانيا ليست دولة حقيقية، وإن الأوكرانيين والروس هم “شعب واحد”، وإنه -وفقًا لذلك- لا يمكن لأوكرانيا التمتع بسيادة حقيقية إلا كجزء من روسيا نفسها.

في المقابل عملت إدارة بايدن ونظراؤها من الدول الغربية على تقديم نظرة واضحة في محادثاتها مع موسكو: “نحن نوضح أن هناك مبادئ أساسية نلتزم بدعمها والدفاع عنها، بما في ذلك سيادة أوكرانيا وسلامتها الإقليمية، وحق الدول في اختيار الترتيبات والتحالفات الأمنية”.

ثالثا: الحوكمة الدولية ومستقبل الأمم المتحدة

يقدم لنا رئيس مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن ريتشارد هاس، أطروحة أساسية في كتابه الذي صدر منذ 5 سنوات: “أن نهاية الحرب الباردة لم تكن إيذانا ببدء عصر استقرار وأمن وسلام أكبر، كما توقع الكثيرون. وبدلا من ذلك، ظهر عالم كان الصراع فيه أكثر انتشارًا من التعاون”، وحجته الأساسية أنه على المستوى العالمي، فإن الفجوة بين التحديات والاستجابات كبيرة ومتنامية، ونضيف أن مبعث هذه الفجوة هو الصراع المحتدم بين القوى الكبرى في النظام الدولي حول القواعد والقيم التي يجب أن تحكمه، والذي امتد إلى عمل المؤسسات الدولية وعطلها عن كثير من وظائفها ومهامها.

ويفاقم الوضع القضايا المستجدة والأجندة المستقبلية التي ستحكم اهتمام البشرية في الأيام القادمة، مثل الأوبئة والتغير المناخي والإنترنت المفتوح والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى الفضاء والقطب الشمالي.. إلخ.

لقد أدخلت الأزمة الأوكرانية الأمم المتحدة في حالة من الفوضى، على الرغم من أن مجلس الأمن الدولي انعقد فور الغزو، إلا أن روسيا استخدمت حق النقض (الفيتو) لمنع مشروع قرار كان من شأنه أن يأسف للغزو باعتباره انتهاكا للقانون الدولي “بأقوى العبارات”، ثم دعا مجلس الأمن إلى جلسة استثنائية طارئة للجمعية العامة -وهي الأولى منذ 40 عامًا- لمناقشة قرار آخر يدين روسيا، وصدر قرار الجمعية العامة بإدانة الغزو الروسي بأغلبية ساحقة (141 مؤيدة في مقابل 5 دول رافضة وامتناع 35 عن التصويت)، إلا أن هذا قرار رمزي أكثر من أن يكون له تأثير في الواقع، فلم يوقف الغزو ولم يمنع روسيا من تصعيد الهجوم.

من الواضح أن الأمم المتحدة لا ترقى إلى مستوى التوقعات العالية التي وضعها مؤسسوها، نظرًا لأن الأمم المتحدة تبدو غير قادرة على منع النزاعات أو حلها بعد اندلاعها، فلا عجب أن الكثير من الناس حول العالم اليوم يشعرون بأن المنظمة غير ذات صلة وعفا عليها الزمن. فعلى سبيل المثال، قال أكثر من نصف الشباب الذين شملتهم الدراسة التي أجرتها الأمم المتحدة في عام 2020، إنهم يرون أنها “بعيدة عن حياتهم ولا يعرفون الكثير عنها”.

ورد في ديباجة الميثاق التأسيسي للأمم المتحدة: “نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد عقدنا العزم على إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب. ننشئ بموجب هذا منظمة دولية تُعرف باسم الأمم المتحدة”، فإذا كانت الأمم المتحدة تفشل في الوفاء بالوعد الأساسي الذي كان قائما لوجودها، فقد يكون من المفيد التساؤل: هل ما زلنا بحاجة إليها؟

هناك أدلة قوية تشير إلى أن الأمم المتحدة نفسها ساعدت في جعل العالم أكثر سلاما مما كان عليه من قبل، من خلال تعزيز الحوار العالمي وتشكيل القواعد وتطوير القوانين الدولية التي تدين “التهديد باستخدام القوة أو استخدامها”، إلا أنها الآن ومع حالة الانقسام على الحوكمة الدولية باتت مشلولة في كثير من الأحيان، وبما يجعلها عاجزة عن التعامل مع قضايا المستقبل.

إن الصراع على معايير الاحتكام الدولية لا يخص الدول الكبرى في النظام الدولي فقط، بل يمتد إلى جماهير عريضة في العالم.

إن الحركات الاحتجاجية على مدار العقدين الماضيين في جوهرها مطالبات بأن يحكمنا سلطة معيارية أفضل وأكثر وعدا بالكرامة والتحرر الإنسانيين. هناك رفض معياري للعبودية والعنصرية، واللامساوة والتفاوتات بين البشر، والتمييز أيا كان نوعه، وللحرب.. إلخ، لذا فإن حركة التضامن العالمي مع الشعب الأوكراني لا تجد تفسيرها في الحشد والتعبئة الغربيين ضد بوتين وشيطنة الروس فقط؛ بل يمكن فهمها أيضا في إطار حالة الاحتجاج العالمية التي اندلعت مع مطلع الألفية الجديدة، وأخذت مظاهر متعددة مثل: دعم الفلسطينيين في انتفاضاتهم المتتالية، وضد الحرب في العراق 2003، وحياة السود مهمة، مرورا بالانتفاضات العربية و”احتلوا وول ستريت”.

Share.

رئيسة تحرير موقع شام بوست والمشرف العام عليه

Leave A Reply