نحن نعيش في عالم متصل للغاية حيث ترتبط معظم المدن في جميع أنحاء العالم بأنظمة وبرامج حاسوبية تربط المركبات وحركة المرور وخدمات المرافق والأشخاص والمؤسسات الحكومية والخاصة ببعضهم البعض، وهذه الوصلات نفسها متصلة بشبكات أكبر تدير عملها، سواء كانت شبكات الطاقة أو التمويل أو النقل والمواصلات، فجميعها متصلة ومترابطة مع بعضها بشكل وثيق.

ومع ذلك، فإن الدولة الذكية فائقة الاتصال تعني أيضا المزيد من التهديدات الأمنية التي من المحتمل أن تزعزع استقرار هذه الدولة أو تعطلها على الأقل حيث يمكن أن يكون للثغرة الأمنية المحتملة على شبكة واحدة تأثير مضاعف عليها جميعا، وذلك كما ذكرت منصة “سيكيورتي بوليفارد” (Security Boulevard) في تقرير لها مؤخرا.

والحرب الإلكترونية ليست مثل أي حرب أخرى، ومن شبه المؤكد أنها ستكون جزءا مأساويا من مستقبلنا، وتتضمن محاربة الأعداء عن بُعد باستخدام فئات جديدة من الأسلحة مثل الفيروسات والبرامج الضارة والبرامج التي تغير هدف تشغيل النظام أو حتى توقف تشغيل النظام بالكامل، وستكون الهجمات الإلكترونية ساحة المعركة الجديدة غير المرئية والتي لا يمكن التنبؤ بها، حيث سيتنافس المتسللون والقراصنة من مختلف الدول لتعطيل عجلة الاقتصاد ومختلف مجالات الحياة في الدولة المستهدفة.

وبدأ هذا النوع من الحروب بالفعل حتى قبل الحرب الروسية على أوكرانيا الجارية أحداثها الآن، فقد كلفت هجمات القراصنة والجرائم الإلكترونية بأنواعها المختلفة الاقتصاد العالمي أكثر من 6 تريليونات دولار عام 2021 الماضي فقط، ويتوقع أن تكلف هذه الجرائم الاقتصاد العالمي نحو 10.5 تريليونات دولار سنويا بحلول عام 2025، وفق ما ذكرت” مجلة الجرائم الإلكترونية” (Cybercrime Magazine) في تقرير لها مؤخرا، فهناك هجوم إلكتروني كل 11 ثانية يحدث في مكان ما في العالم.

حروب المستقبل.. الحرب الأوكرانية كنموذج أولي

تشكل الحرب الروسية الأوكرانية أكبر انتشار عسكري عالمي منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وإلى جانب عدد لا يحصى من التداعيات الأخرى، فهذه هي الحرب الأولى التي يمكن للجانبين فيها استخدام قدرات إلكترونية متطورة في ساحة المعركة، حيث تراقب وكالات الاستخبارات في جميع أنحاء العالم عن كثب لمعرفة ما الذي يمكن أن تفعله إذا دخلت بلدانها في صراع عسكري تقليدي كما هو الحال حتى الآن في الحرب الروسية الأوكرانية.

تقول الحكمة العسكرية “أول ضحية في الحرب هي الحقيقة” وإن حجم المعلومات المضللة الذي ظهر حتى الآن من كلا الطرفين المتصارعين وحلفائهما، والتي يتم نشرها بشكل واسع على شبكة الانترنت، هو شيء يدعو للتفكير العميق، وذلك وفق ما ذكر الكاتب جوناثان تيراسي المختص بقضايا الأمن والحرب السيبرانية في مقال له نشرته منصة “تيك نيوز ورلد” (Tech News World) مؤخرا.

الحرب الروسية الأوكرانية تشكل أكبر انتشار عسكري عالمي منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003 (غيتي)

بالحرب السيبرانية يمكن لأي شخص أن يكون جنديا والجميع يصبحون هدفا

مما لا يثير الدهشة أن الحكومة الأوكرانية تطلب من قراصنتها ونخبها الفنية وخبرائها التقنيين، وأيضا القراصنة المتعاطفين معها في كل أنحاء العالم، مهاجمة وضرب الأهداف الروسية باستخدام حواسيبهم ولوحات مفاتيح أجهزتهم حتى من بدون وجود حد أدنى من التنسيق بين كل هؤلاء.

ويوضح الكاتب أن لا شيء يمنع ذلك، حيث يمكن لأي شخص يملك جهاز حاسوب في منزله والخبرات التقنية الكافية أن يشن مثل هذه الهجمات، ويشكل ضررا قد يكون مدمرا في بعض الأحيان، حيث بإمكان هذا الفرد أن يعطل شبكات بأكملها، بما في ذلك تلك التي تدعم البنية التحتية الحيوية، ويوضح هجوم “طلب الفدية” (ransomware) على خط أنابيب شركة كولونيال بايبلاين” (ransomware attack on the Colonial Pipeline) العام الماضي كل هذا بوضوح.

عنصر آخر يجعل هجمات القرصنة مدمرة للغاية، وهو أنه يمكن إطلاقها من أي مكان ضد أي هدف، وفي هذه الحرب أو أي حرب أخرى، ما الذي يمنع القراصنة في جميع أنحاء العالم من الانحياز إلى هذا الطرف أو ذاك؟

تدعي مجموعة القرصنة  “أنونيموس” (Anonymous)  (وهي مجموعة لامركزية من القراصنة بدون تسلسل هرمي أو قيادة) أنها متورطة في كثير من الهجمات ضد المواقع الروسية، وفي الحقيقة فإن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وبإمكاننا القول إن قراصنة كل دولة من دول العالم يستطيعون التدخل لدعم هذا الطرف أو ذاك في هذا الصراع أو أي صراع آخر، كما قال تيراسي في مقاله.

ولن يكون مفاجئا إذا ما تبين لنا في أية لحظة أن وكالة الأمن القومي الأميركية والقراصنة الصينيين والكوريين يبحثون عن طرق لقلب ميزان القوى في الحرب الروسية الأوكرانية كل حسب رغبته وهواه أو توجه دولته السياسي.

ومرة أخرى -يؤكد الكاتب- أنه يمكن لأي قرصان حرفيا، حتى لو كان يعمل بمفرده، حمل السلاح الإلكتروني ودخول المعركة، ولأن الصراع اندلع على جبهات جيوسياسية وقانونية مختلفة، فهناك خطر ضئيل من أن يتحمل أي من هؤلاء القراصنة سواء كان يدعم روسيا أو أوكرانيا عواقب أفعاله في المستقبل.

وإلى جانب هذا النطاق الواسع للمشاركة في الحرب، هناك أيضا نطاق أوسع من الأهداف، فعندما تكون هناك حرب سيبرانية شاملة، فإن أي شبكة في هذه الدولة أو تلك، والتي قد يعتبرها هذا الشخص عدوا، سوف يُنظر إليها على أنها هدف مشروع.

ولنتذكر أن البنية التحتية المدنية والعسكرية مرتبطتان ارتباطا وثيقا، لذا فإن أي هجوم لإلحاق ضرر عسكري سيضر بالمدنيين أيضا، إن مهاجمة موقع روسي للتواصل الاجتماعي ستمنع الجنود من التنسيق فيما بينهم باستخدام هذا الموقع، لكنها في ذات الوقت ستمنع التنسيق بين المدنيين المحتجين ضد النظام الروسي بسبب شنه هذه الحرب، وهذا مجرد مثال بسيط.

A man takes part in a training session at Cybergym, a cyber-warfare training facility backed by the Israel Electric Corporation, at their training center in Hadera, Israel July 8, 2019. REUTERS/Ronen Zvulun
مجموعة القرصنة “أنونيموس” تدعي أنها متورطة في كثير من الهجمات ضد المواقع الروسية (رويترز)

أدوات الاستخبارات مفتوحة المصدر تضعنا جميعا في قلب المعركة

توفر الأدوات المستندة إلى الإنترنت لتلقي المعلومات في الوقت الفعلي للمراقبين العاديين عن بُعد رؤية غير مسبوقة للصراع، حيث يثبت منشئو المحتوى الهواة في جميع أنحاء العالم ذلك بسرعة، لأنهم يستخدمون بالضبط أدوات استخبارات مفتوحة المصدر (OSINT) لتحليل ومتابعة ما يجري في أوكرانيا.

وربما تكون “تطبيقات حشد المصادر” (crowdsourcing apps) أغنى مصدر للتحديثات الآنية، حيث توفر تطبيقات مثل “خرائط غوغل” (Google Maps) إمكانية استنتاج حركة تدفق اللاجئين من خلال الأماكن التي تكون فيها حركة المرور أكثر كثافة، وهناك أيضا تطبيقات أخرى مثل “سيتيزن” (Citizen) والتي تسمح للسكان بتنبيه بعضهم البعض بالمخاطر الموجودة من خلال التقاط مقاطع فيديو وتثبيتها في الوقت والمكان على الخارطة، وقد تم بالفعل استخدام هذا التطبيق بشكل واسع من قبل الأوكرانيين لمعرفة أماكن وساحات القتال الأكثر خطورة، كما يوضح المقال.

حتى أدوات البنية التحتية المدنية الموجودة على شبكة الإنترنت ساهمت في تسليط الضوء على ساحات القتال، وسير المعارك في الميدان، وتُظهر متتبعات الرحلات الجوية المدنية الطائرات الروسية وهي تدور في المجال الجوي حيث تحاول الطائرات الأخرى تجنبها بشدة، وكانت إحدى الطرق التي حددت بها أوكرانيا شدة القتال في منطقة تشرنوبل هي ملاحظتها للارتفاع الهائل في الإشعاع الذي اكتشفته أجهزة استشعار إنترنت الأشياء الموجودة هناك.

ومن خلال مثل هذه الأدوات وعرضها على الشاشات، يمكن لأي شخص الحصول على عرض حقيقي وحي ومباشر في الوقت الفعلي للمعركة، تماما كمشاهدة مباراة كرة قدم على سبيل المثال.

وسائل التواصل الاجتماعي.. الحقيقة والخيال

ويتطرق تيراسي في مقاله إلى دور وسائل التواصل الاجتماعي المحوري حيث يمكن لأي شخص أن يتظاهر بأنه أي شخص، ويقول وينشر أي شيء، والنتائج هي مزيج من الحقيقة والخيال اللذين يتطوران بسرعة كبيرة للغاية، بحيث يصبح من شبه المستحيل حتى على المحترفين التحقق منها، ومعرفة الصحيح من الخطأ في كل هذه المعمعة.

وعبر العديد من هذه المنصات تنشر المليشيات الأوكرانية نقاط تجمعها، ومواقع وجود القوات الروسية من أجل شن هجمات خاطفة ومدمرة عليها، وقد قام الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بنفسه باستخدام وسائل التواصل لنشر مقاطع فيديو تؤكد إصراره والتزامه بالدفاع عن العاصمة كييف.

ويؤكد تيراسي أن كل ما سبق معقول نسبيا ويمكن فهمه، لكن تأتي بعد ذلك الفوضى والشك وعدم اليقين، واختلاط الحقيقة بالخيال، حيث إن الجميع يستخدم اسما مستعارا، وغير خاضع للمساءلة على الإنترنت، فإن هناك الكثير من الخداع والتمويه والمصائد والكمائن التي تحدث كل لحظة، وهو ما يثير أسئلة من مثل: هل هذا الشخص الذي يقدم هذه المعلومات مواطن أوكراني أم متسلل روسي؟

وأخيرا، هناك قدرات “الإنترنت” الرسمية للأطراف المتحاربة، وفي هذا السياق كثيرا ما كانت روسيا لاعبا رئيسيا بين مجموعات القرصنة الدولية، وعمليات القرصنة التي تقوم بها الدولة الروسية معقدة للغاية. وفي الواقع، قد يستغرق الأمر حتى من وكالات استخبارات عالمية عالية المستوى شهورا أو أعواما لاكتشاف مدى النشاط الروسي وخطورته. وقبل 3 أسابيع فقط ظهر على الإنترنت مقطع فيديو مزيف بطريقة محكمة للغاية للرئيس الأوكراني كان هدفه تثبيط معنويات الشعب الأوكراني.

إنها لعبة الحرب حيث الحقيقة أولى الضحايا، وفي العصر الرقمي لن يبقى من هذه الحقيقة سوى بقايا شظايا تذروها الرياح السيبرانية في الزوايا المنسية التي لن يتذكرها أحد.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply