بدأت هذه المغامرة الصحفية في الرابع عشر من يونيو/حزيران عام 2022. إنه اليوم الذي أعلن فيه ليفربول ضمّ “داروين نونيز”، مهاجم بنفيكا الذي لم يكن قد أتم عامه الـ23 بعد، نظير 85 مليون جنيه إسترليني.(1) لم يكن هذا خبرا عاديا، إذ لم يبرم ليفربول في تاريخه كله سوى صفقة وحيدة تجاوزت حاجز الثمانين مليونا، والآن يغامر بدفع هذا المبلغ من أجل الشاب الأوروغوياني. إنه ليفربول، وليس مانشستر سيتي أو باريس سان جيرمان أو حتى تشيلسي، وبالتالي فإنه لا يملك رفاهية أن ينفق كل تلك الملايين دون تحقيق أكبر استفادة من الوافد الجديد.

تُرى هل يؤكد “نونيز” جدارته؟ أم يتراجع مستواه في البريميرليغ؟ يبدو من المبكر العثور على إجابة أكيدة، لكن الأكيد هو أن كل تلك الأموال ستودع في خزينة بنفيكا، لتضاف إلى ملايين أخرى جناها النادي خلال الأعوام القليلة الماضية، وكان السبب فيها نجاحه في تسويق لاعبيه، وجودة خريجي أكاديمية العملاق البرتغالي. تلك الأكاديمية التي قدمت للعالم “جواو فيليكس”، و”روبن دياش”، و”بيرناردو سيلفا”، وما زالت تقدم مواهب قادرة على جذب أنظار -وكذلك أموال- أكبر أندية العالم.

كيف تعمل أكاديمية بنفيكا؟ ولماذا أصبحت أهم مدرسة لتكوين اللاعبين في أوروبا؟ ما المعايير التي تعتمدها الأكاديمية عند ضم لاعب صغير؟ وكيف تقوم بتطوير أدائه حتى تصعيده للفريق الأول؟ وكم تنفق إدارة بنفيكا على تلك الأكاديمية سنويا؟ وكم تحقق في المقابل من عوائد؟ هذه بعض الأسئلة التي يتداولها كل مَن يبحث عن أكاديمية النادي البرتغالي، ويسعى للعثور على إجابات تفسر أسرار ذلك التفوق الواضح.

بيدرو ماركيس، المدير التقني لبنفيكا (مواقع التواصل)

أردنا في “ميدان” الحصول على تلك الإجابات، لا من التقارير الصحفية المنشورة، ولكن من داخل الأكاديمية نفسها. كنا نريد الوصول إلى مسؤول واحد فقط، لكننا نجحنا في إجراء حوار مع اثنين من أهم الشخصيات التي تدير تلك المنظومة الناجحة، إنهما “بيدرو ماركيس”، المدير التقني لبنفيكا، والسيد “رودريغو مغاليش”، الذي يشغل منصب المنسق التقني للأكاديمية منذ عام 2005، وهما يتحدثان للصحافة العربية للمرة الأولى.

كواليس لويس

أخبرناك قبل دقيقة أن تلك المغامرة بدأت في يونيو/حزيران الفائت، فلماذا تأخرنا في نشر هذا الحوار؟ ببساطة لأننا لم نستقبل أي رد من بنفيكا على مراسلاتنا في أول الأمر. كان قد مر شهر على أول بريد إلكتروني أرسلناه، دون أن نتلقى أي إجابة. بدأ شيء من اليأس في التسرب إلينا، قبل أن يظهر في الصورة شاب يدعى “لويس روبيرو”، ويبدد ذلك اليأس. مَن هو “لويس روبيرو”؟ إنه رئيس القسم الصحافي لقطاع الشباب في بنفيكا. لحظة! هل تمتلك قطاعات الشباب قسما صحفيا مستقلا؟! نعم، يحدث ذلك في أوروبا والدول المتقدمة.

كان “لويس” أول مَن فتح لنا الباب، حين أرسل إلينا يسأل: “لماذا تريدون إجراء حوار معنا؟ ما المحاور التي تريدون النقاش حولها؟”. قد لا يوحي لك مظهر “روبيرو” الشاب أنه صاحب تجربة كبيرة، لكنه يعمل في بنفيكا منذ 18 عاما، لذلك حرصنا على إجابة أسئلته بعناية.(2) قرأ “لويس” إجابتنا، ثم شرع في تبادل الرسائل. بدا لنا في تلك اللحظة أننا أمام شخص يحترم رغبتنا في المعرفة، ويقدر محاولتنا في نقل تلك المعرفة إلى الجمهور العربي. كان سؤاله التالي إشارة إلى أن الأمور تسير في اتجاه جيد: “مع مَن تحديدا تريدون إجراء ذلك الحوار؟”.

كنا قد عرفنا عن الدور الكبير الذي لعبه “بيدرو ماركيس” -بالأخص في برنامج تطوير اللاعبين الشبان- منذ تعيينه في بنفيكا عام 2018.(3) وكنا قد عرفنا أيضا عن الخبرة الضخمة التي يحظى بها “رودريغو مغاليش”، نتيجة لعمله كل تلك السنوات، وإسهامه فيما وصلت إليه الأكاديمية من نجاحات. وكنا نطمع في الحديث لواحد منهما على الأقل، لكن “لويس روبيرو” أخبرنا: “نود أن تتحدثوا لكليهما، هناك إمكانية لمقابلة بيدرو ورودريغو أيضا”.

“لويس روبيرو” رئيس القسم الصحافي لقطاع الشباب في بنفيكا. (linkedin)

هنا كان علينا نحن أن نوجه السؤال تلك المرة: متى سيكون الحوار؟ أجاب “روبيرو”: “سنرى جدول أعمالنا، ومن ثم نعود للتواصل معكم، نريد لتلك المقابلة أن تنجح”. كان الرجل صادقا، صحيح أن بعض الترتيبات تأخرت قليلا، لكن الأمور سارت على ما يرام في النهاية. لم يقم “روبيرو” إلا بالدور المنوط به، وهو فتح قناة اتصال مع صحفي أراد التواصل مع بنفيكا، والنظر في مدى جدية ذلك الصحفي، ربما يبدو ذلك غير معتاد في عالمنا العربي، لكن هكذا تسير الأمور في كثير من الأحيان هناك، بعيدا عنّا.

في انتظار بيدرو

وصل البريد الإلكتروني أخيرا. إنه من “باولا بينتو”، زميلة صديقنا “لويس” في القسم الصحفي. حددت معنا موعدين، لإجراء حوارين منفصلين، الأول مع “بيدرو”، والآخر مع “رودريغو”. سألنا عن إمكانية جمع الثنائي في لقاء واحد مشترك، اعتذرت “باولا” قائلة: “من الصعب إيجاد وقت واحد يناسب جدول أعمالهما معا، سيكون لديكم فرصة اللقاء مع “بيدرو ماركيس” في الموعد الأول”.

قبل الموعد الأول بدقيقتين، وصلتنا رسالة عبر تطبيق واتساب. إنها “باولا”، تعتذر لنا، ﻷن “بيدرو” سوف يتأخر عن اللقاء لربع ساعة تقريبا. تقلبنا الاعتذار، وقبل أن نسأل، أخبرتنا: “إنه في مقابلة صحفية أخرى، ستنتهي بعد دقائق، لا تقلقوا”.

لم نكن قلقين، بل كنا نفكر في مسيرة السيد “ماركيس”، ذلك الرجل الذي يبدو من الصور ألا شيء يميزه أكثر من الجدية والدقة. قد توحي لك هيئته بأنك أمام أستاذ في الجامعة، يقسم وقته بين تدريس الكيمياء الحيوية، وبين مطالعة الأبحاث في المكتبة، وليس لاعبا سابقا تحوّل ليصبح مسؤولا في نادٍ لكرة القدم. في الواقع، لم يحترف “بيدرو” كرة القدم أبدا، بل بدأ مسيرته فعلا داخل الجامعة.

درس ضيفنا الأول العلوم الرياضية، وتخصص في كرة القدم، ثم حصل على درجة في التدريب والأداء من جامعة لشبونة. أهَّلته تلك الشهادات كي يعبر بوابة نادي سبورتنج لشبونة، ويشغل وظيفة مدرب في فِرَق الشباب. لم يمر الكثير من الوقت حتى لاحظ مسؤولو سبورتنج قدرات “ماركيس” في تحليل اللعبة، وهو ما دفعهم إلى تصعيده إلى الفريق الأول، ليعمل إلى جانب المدرب “باولو بينتو”، الذي حقق نجاحات لا بأس بها، قبل أن يحزم “بيدرو” حقيبته في 2010، ويطير إلى إنجلترا، ليبدأ فصلا جديدا من قصته.(4)

روبرتو مانشيني (الأناضول)

كان ذلك حين استقبل دعوة من مانشستر سيتي، بعد عامين من استحواذ مجموعة أبو ظبي المتحدة على النادي الإنجليزي، ليعمل الشاب، الذي لم يكن قد أتم عقده الثالث بعد، محللا ﻷداء الفريق السماوي. هذه المرة، تعاون “بيدرو” مع مدربين من طراز “روبرتو مانشيني”، و”مانويل بيليغريني”، وفاز بألقاب بحجم البريميرليغ. لا يبدو أنه ترك انطباعا سلبيا عند أصحاب القرار بأية حال، إذ سيُسند إليه عام 2014 منصب قيادي في مجموعة سيتي، تلك المجموعة التي تضم أندية في إسبانيا، وأوروغواي، واليابان، والولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب إنجلترا طبعا.(5)

في منصبه الجديد، ساهم الرجل في إعادة رسم منهجية كرة القدم داخل مجموعة السيتي، بكل ما تحمله تلك المهمة من هيكلة أكاديميات كرة القدم، وتطوير آليات التدريب، وتوفير المناخ اللازم لتصعيد الناشئين إلى فرق الصف الأول. أكسبه ذلك المنصب خبرة كبيرة، ولعل ذلك ما جعل إدارة بنفيكا تحاول استقطابه لصفوف العملاق البرتغالي، وهو ما تم فعلا عام 2018.

كنا نفكر في أن ضيفنا يحظى بسيرة ذاتية مشرفة، وعلينا ألا نهدر فرصة لقائه، خصوصا بعدما حددنا المحاور التي نريد الاستفسار منه عنها؛ العمل الكشفي في بنفيكا، ومنهجية العمل مع الناشئين داخل الأكاديمية، وعملية تحوّلهم إلى نجوم صفوف الفريق الأول.

“مرحبا.. أنا هنا! هل تسمعونني جيدا؟”.

إنه صوت “بيدرو ماركيس”. لقد بدأت المقابلة للتو.

هل يمكن أن تمنحنا رقم روي كوستا؟

أجبنا: “نعم نسمعك بيدرو. كيف حالك؟”.

– بيدرو: “أنا بخير، آسف على التأخير، كيف حالكم أنتم؟”.

– “نحن أيضا بخير، يبدو أن يومك كان مزدحما، هل ذلك هو المعتاد لمَن يشغل منصب المدير التقني؟”.

ابتسم الرجل، ورد: “نعم.. أحيانا”.

كانت الفرصة مواتية، لنسأله عن طبيعة الوظيفة التي تبقيه منشغلا لتلك الدرجة، ماذا يفعل المدير التقني؟

– بيدرو: “حسنا، في السنوات الخمسة أو العشرة الأخيرة، بدأ منصب المدير التقني في الانتشار عبر الأندية والمسابقات. انتشر المنصب، وكذلك تطوّر وأُضيفت إليه صلاحيات.

روي كوستا، رئيس بنفيكا (رويترز)

يمكنني أن أقول إن تلك الوظيفة تتمحور حول الإشراف ومتابعة الجانب التقني داخل النادي، وذلك فيما يخص الأكاديمية، وفرق الشباب، وعملية تطوير اللاعبين، وكذلك برامج العمل مع المدربين في جميع الفئات، ومحللين الأداء أيضا. كما يختار صاحب هذا المنصب الآليات التي تؤدي إلى تحسين هذا الشق التقني، إحدى تلك الآليات مثلا هي دمج العلوم الرياضية الحديثة داخل النادي.

الأمر لا يتعلق فقط بكرة القدم، ولكن كذلك بالجانب الإنساني. ما أقصده هنا هو جودة التعليم الذي يحظى به اللاعبون، والبيئة الصحية التي تساعد اللاعب والمدرب على النمو والتطوّر. وهذه نقطة مهمة جدا.

في بنفيكا، مسؤوليتي هي الإشراف على كل ذلك. يمكنني القول إنني الرجل الذي يعتني بتطبيق منهجية ورؤية نادينا إلى المستقبل”.

بدا لنا واضحا حجم المسؤولية التي يتولاها “بيدرو” وأعباءها، لكن ما الذي جعل إدارة بنفيكا تختاره لذلك المنصب؟ وجهنا للضيف السؤال.

كانت ردة فعله ظريفة؛ صمت الرجل قليلا، ثم بدأت البسمة ترتسم على وجهه، قبل أن يقول: “عليك أن توجه هذا السؤال إلى رئيسي”. على الفور أجبناه: “لا نمانع! هل لك أن تمنحنا رقم الرئيس: روي كوستا؟”. ضحك “ماركيس”، وضحكنا معه، ثم عاد لهيئته الجادة وقال:

“نادي بنفيكا لديه مشروع قائم منذ سنوات، وهذا المشروع حقق نجاحات كبيرة، خصوصا من ناحية الاستفادة من اللاعبين الشبان. الآن التحدي هو أن يستمر ذلك المشروع في النجاح، وأعني هنا تحديدا تأهيل الناشئين للمنافسة على مقاعد في الفريق الأول.

أظن أن الخبرة التي اكتسبتها خلال سنوات عملي بالخارج، وكذلك معرفتي بطبيعة كرة القدم في البرتغال، وثقافة البلد عموما، كانت عوامل رئيسية في انضمامي من أجل تحقيق هذا الهدف. أنا سعيد فعلا بأن أكون جزءا من ذلك المشروع الذي يعوّل عليه بنفيكا”.

وهكذا تعرفنا على طبيعة عمل “بيدرو ماركيس”، وأخبرنا بوضوح عن الهدف الذي يسعى لتحقيقه من منصبه داخل بنفيكا. كانت بداية حوارنا موفقة، لكننا لم نحصل مع الأسف على رقم “روي كوستا”.

مادونا في الأكاديمية

هل تعرف “Training Guru”؟

إنه موقع إلكتروني، يمكنك معرفة الجمهور الذي يستهدفه بمجرد ترجمة اسمه: “خبير/حكيم التدريب”، فهو موجَّه أساسا لكل الشغوفين بآليات التدريب الفني والبدني، ومعرفة أدق التفاصيل التي يمكن أن تساعد على إنتاج حصة تدريبية عالية الجودة. وقد نشر الموقع تفريغا لحوار أجراه “بيدرو ماركيس”، جاء تحت عنوان لافت: “الأعمدة الأربعة لأكاديمية بنفيكا”.(6)

كان العمود الأول الذي ترتكز عليه مدرسة التكوين البرتغالية هو “الكشف” (Scouting)، فكان من الضروري أن نسأل “بيدرو”: لماذا يهتم بنفيكا إلى هذا الحد بالعمل الكشفي؟

– بيدرو: “الفكرة هي أن مشروع النادي عموما يقوم على تطوير اللاعبين من سن صغيرة جدا. لا أقول سن صغيرة وحسب، بل أقول سن صغيرة جدا. نحن لسنا النادي الذي يضم لاعبا في السابعة عشرة أو الثامنة عشرة ويعمل معه لمدة عامين أو ثلاثة أعوام. هنا نقوم بمتابعة، ثم ضم اللاعب، في السادسة أو السابعة مثلا، ونعمل على نمو وتعزيز إمكانياته عبر سنوات طويلة، وذلك وفقا لمنهجية وهوية بنفيكا، لكي يكون جاهزا في اللحظة المناسبة، ومن هنا تبرز أهمية العمل الكشفي في نادينا. أرجو أن تكون الإجابة واضحة”.

بالتأكيد كانت الإجابة واضحة، فما يريد ضيفنا الإشارة إليه هو أن الأمر يمثل حجر الأساس في بنفيكا، خصوصا في ظل تغوّل المال في اللعبة. هكذا تزداد الفجوة يوما بعد الآخر بين الأندية التي تستند إلى رعاية دول وشركات عملاقة، أو تلك التي تحصل على عوائد كبيرة بسبب حقوق البث التلفزيوني، خصوصا في إنجلترا، وبين نظيراتها من الأندية في دوريات أخرى كالإيطالي أو الإسباني وبالطبع البرتغالي.

وكي لا تبتلع تلك الفجوة ناديا مثل بنفيكا، كان عليه أن يتسلح بصغاره، ويراهن على جودتهم بعد سنوات من التأهيل والإعداد، قبل الاستفادة منهم سواء في الملعب أو في نافذة الانتقالات. صحيح أن ذلك لا يضمن لبنفيكا بأن يكون نِدًّا لمَن يفوقه في الإمكانيات المالية، لكن في المقابل يساعده ألا يصبح قزما، بل يبقى صامدا في وجود هؤلاء العمالقة، وذلك ببساطة من خلال جذب أموالهم.

كان سؤالنا التالي: “هل لك أن تمنحنا صورة عن العمل الكشفي داخل النادي؟ كيف تقومون بضم ناشئ للأكاديمية؟”.

بيدرو: “مبدئيا عليك معرفة أن عملنا الكشفي يدور بشكل رئيسي داخل البرتغال.

كيف نقوم بذلك؟ نحاول متابعة كل المسابقات والمباريات التي يوجد فيها لاعبون صغار في بلدنا. نحن نعتمد في ذلك على شبكة الكشّافين والمراقبين التي نحظى بها، لدينا شبكة مكوّنة مما يقارب 200 كشّاف ينتشرون على امتداد البرتغال لجمع المعلومات ورصد ومتابعة المواهب، وفقا لمعايير محددة. هؤلاء الكشّافون على درجة جيدة من الخبرة والعلم، وأصحاب تجارب ناجحة.

نستفيد أيضا من مراكز إعداد الموهوبين التي نمتلكها، فنحن نمتلك خمسة مراكز في مناطق مختلفة داخل البرتغال. فبعد أن نضم الناشئ، نقوم بتوزيعه على تلك المراكز بحسب الفئة العمرية التي ينتمي إليها، ونتابع حالته وقدرته على إحراز التطور، قبل أن نتخذ قرارا بنقله إلى المقر الرئيسي لأكاديمية بنفيكا حين يبلغ الرابعة عشرة. تعمل مراكز إعداد الموهوبين في تناغم، لنضمن أن منهجية عمل بنفيكا تسير بالشكل الصحيح، حتى يتعرف الناشئ على مبادئنا بصورة جيدة، قبل حتى أن ينتقل إلى مقر الأكاديمية الرئيسي”.

تحدث ضيفنا في إجابته الأخيرة عن المعايير التي يتبعها الكشّاف ليضم ناشئا، أردنا سؤاله عن تلك المعايير، كي نعرف على أي أساس يتخذ قرارا بضم أو استبعاد لاعب.

– بيدرو: “آه! أنت تسأل عن الجوانب المختلفة التي ننظر إليها في الناشئ؟ سؤال جيد.

إذا ذهبنا لمشاهدة مباراة تجمع بين فريقين من الناشئين، ربما يلفت نظرك ذلك اللاعب الذي سجل هدفين أو ثلاثة، أو تهتم باللاعب الآخر الذي أنقذ الكرة من على خط مرمى فريقه. أما نحن، فإننا ننظر إلى ما هو أبعد من ذلك قليلا.

من الناحية التقنية، نحن نهتم بعلاقة اللاعب بالكرة، وهنا أقصد قدرته على الترويض والحركة ونقل الكرة. من الناحية التكتيكية، ما يلفت انتباهنا هو تفاعل اللاعب مع المباراة، بحيث يمكنه الانتباه لخطأ معين ارتكبه في التمركز أو الرقابة، فلا يقع فيه مجددا، أو توجيه زملائه والتفاعل مع حركتهم داخل الملعب لكي يكون الفريق في وضعية أفضل.

“ديفيد باندا”، اجتاز اختبارات الأكاديمية البرتغالية في أغسطس/آب من عام 2017. ” وهو ابن المغنية الأميركية الشهيرة “مادونا” بالتبني. (غيتي)

أما من الناحية البدنية، فربما تتفاجأ إذا أخبرتك أننا لا نهتم كثيرا بأن يكون لدى الناشئ سرعة قياسية أو قوة هائلة في الالتحامات، فتلك أمور يمكن أن يكتسبها عبر سنوات من التدريب الجيد. لا أقول إنها صفات سيئة، لكن ما يهمنا في الشق البدني، هو أن يكون لديه خصائص جيدة قابلة للتطوّر، ونحن نتكفل بالباقي. وطبعا من الضروري أن يكون لديه شغف نحو كرة القدم، ويلعب برغبة حقيقية.

عموما، يمكنني القول إن العامل الرئيسي هو ملاحظة قدرة الناشئ على التطور، والتنبؤ بما يمكن أن يكون عليه بعد ثمانية أو عشرة أعوام من الآن، إذا وفرنا له المناخ اللازم في الأكاديمية. هذه الملاحظة ليست سهلة على الإطلاق، خصوصا في ظل التحولات السريعة التي تحدث في عالم كرة القدم في خلال وقت بسيط، فما بالك بثمانية أو عشرة أعوام؟!

لذلك نحن نعوّل كثيرا على خبرات الكشّافين والمدربين، الذين قضوا سنوات في العمل مع الناشئين، ومروا بتجارب عديدة مع لاعبين من مختلف الأجيال، فبات لديهم الآن مرجعية تؤهلهم لاجتذاب الموهوب القادر على أن يصبح لاعبا محترفا”.

هكذا أوضح لنا “بيدرو” السمات الأساسية التي ينتقون على أساسها الناشئ، وربما توفرت تلك السمات أيضا في “ديفيد باندا”، الذي اجتاز اختبارات الأكاديمية البرتغالية في أغسطس/آب من عام 2017. “ديفيد” هو ابن المغنية الأميركية الشهيرة “مادونا” بالتبني، وقد وصلت رفقته العاصمة البرتغالية، لا من أجل إحياء حفل غنائي، أو حضور مهرجان سينمائي، ولكن للاستقرار في لشبونة. بالطبع لفت هذا الخبر انتباه الكثير من غير المختصين بكرة القدم، ودعاهم للتساؤل عما توفره هذه المدرسة للناشئ، للدرجة التي تدفع “مادونا” لنقل حياتها كلها إلى البرتغال.(7)

الآن، بعد مرور 6 أعوام، لا يبدو أن ذلك التساؤل بحاجة إلى إجابة. صحيح أن “ديفيد باندا” لم يصبح نجما في سماء كرة القدم الأوروبية، لكن غيره من خريجي تلك الأكاديمية تألقوا بقمصان نخبة أندية العالم، وخطفوا الأضواء في أكبر البطولات، ولا يزال في جعبة بنفيكا المزيد ليقدمه.

هل تمتلك عينا مثل بيدرو فيريرا؟

بالتأكيد كنا نعرف أن كشّافي بنفيكا يلعبون دورا محوريا، وكنا نعرف أنهم ينقسمون إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى تقدم خدماتها للأكاديمية وفرق الناشئين، والأخرى تتعاون حصرا مع الفريق الأول. المجموعة الأولى هي مَن اكتشفت ناشئا باهرا نعرفه الآن باسم “برناردو سيلفا”، والأخرى هي مَن راهنت على “إنزو فيرنانديز”، حين كان مجرد شاب واعد في وسط ملعب ريفر بليت.

كنا نعرف مدى تميّز الكشّاف في بنفيكا، لكن كلام “ماركيس” عن اعتمادهم على جودة الكشّاف أثار المزيد من الفضول للتعرف أكثر على تلك الخصائص التي يتميز بها. سألنا “ماركيس”، وكانت إجابته كالتالي:

“دائما ما أقول إن الحلقة الأصعب والأدق في ضم ناشئ صاحب مستقبل هي الكشّاف الجيد. هل تعرف ما الذي يميز الكشّاف الجيد؟ العين المدربة!

وما أقصده بالعين المدربة هي تلك القادرة على تقييم إمكانيات اللاعب الصغير مبكرا. سأخبرك بشيء مهم، الكشّاف الجيد لا ينظر إلى الأداء فقط، الأهم هو قدرة الناشئ على التطوّر. قد يكون لديك ناشئ يؤدي بشكل متميز، وهو في السادسة أو السابعة أو الثامنة، لكن ذلك لا يعني أنه سيكون بالضرورة لاعبا متميزا في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، إذا لم يتحلَّ بتلك المعايير التي أخبرتك بها، وبقدرة على التكيّف والتطوّر.

ما يجعل الكشّاف جيدا هو قدرته على التقاط ذلك الناشئ”.

إذن السر هو في امتلاك ما يصفه ضيفنا بالعين المدربة، لكن كيف يحصل الشخص على تلك العين؟ هل هي موهبة خالصة؟ أم خبرة يمكن اكتسابها بطرق معينة؟ استمع “بيدرو” لسؤالنا، وكانت إجابته سريعة:

“ما نقوم به في بنفيكا هو مد الكشّاف بالعلوم اللازمة، وننقل له الخبرات التي راكمناها عبر سنوات من العمل الكشفي، حتى يمتلك تلك العين المدربة.

نحن نستثمر في الكشّاف، وندفعه للانخراط في منظومتنا، ونوفر له الأدوات العلمية والخبرات العملية اللازمة، كل ذلك حتى يمتلك عينا مدربة، ويلتقط الناشئ الذي سيكون نجم بنفيكا الأول بعد 10 أعوام من الآن. مرة أخرى أقول لك، إنها ليست مهمة سهلة أو بسيطة أبدا”.

لم تنجح شبكة الكشّافين في تحقيق تلك المهمة مرة أو مرتين وحسب، بل ساهموا في تحويل الأكاديمية إلى مصنع يجعل من المواهب نجوما تنتشر في أكبر أندية العالم. وهو ما يؤكد أن الأمر ليس مصادفة، إنما يستند -كما يخبرنا ضيفنا- إلى منهجية علمية، وخبرة تنتقل من كشّاف إلى آخر، وطبعا أهداف واضحة يعمل الكل لتحقيقها.

أكبر دليل على ذلك هو تأمل مسيرة “بيدرو فيريرا”، كبير كشّافي بنفيكا حاليا، إذ بدأ هو أيضا كل شيء في الجامعة، حيث درس العلوم الرياضية، ثم أصبح كشّافا للناشئين لمدة عامين، وبعدها تولى قيادة كشّافي فرق شباب بنفيكا بعد أن اكتسب الخبرة اللازمة، ليعمل وفق رؤية النادي لسبع سنوات كاملة، وأخيرا يحصل على وظيفة كشّاف بالفريق الأول، ويصبح لاحقا كبير كشّافي النادي.(8)

لم يصعد الرجل إلى قمة الهرم بين يوم وليلة، إنما حصل على درجة علمية محترمة أولا، ثم نال خبرات مهولة في العمل الكشفي بعد أن مرَّ أمام عينيه مئات اللاعبين، وعمل إلى جانب كشّافين آخرين نقلوا إليه عصارة تجاربهم. وكان عليه تطوير أدواته، في ظل منافسة شرسة مع سبورتنج لشبونة وبورتو على صعيد جذب المواهب محليا. وأخيرا أصبح في منصب يتيح له اتخاذ القرارات، وبلورة أهداف النادي، بعدما تعرف جيدا على هوية بنفيكا. أما حصيلة كل ذلك، فهو النجاح الباهر الذي يحققه “فيريرا” وفريقه خلال السنوات الماضية.

تجربة “بيدرو فيريرا” تُذكِّرنا بالشيء البديهي الذي نعرفه جيدا، لكننا ننساه في خضم إيقاع الحياة السريع، وحين نتذكره نتعامل معه باستخفاف، وربما أيضا بتهكم. ذلك النجاح المستقر لا يأتي في لحظة، أو في يوم، أو في أسبوع، إنما هو نتاج عملية مستمرة من مراكمة التجارب، والاستفادة من الأخطاء والعثرات. لم يصبح “بيدرو” أحد أهم كشّافي العالم لأنه شاهد مباراة، أو قرأ مقالا، أو درس دورة تدريبية، بل كان عليه أن يتخذ مسارا عبر شهور وسنوات، قبل أن يجني هو، ونادي بنفيكا، ثماره.

ليس لاعبا محترفا؟ ليكن مهندسا ماهرا إذن

 

لنعد إلى “بيدرو” الآخر، صديقنا الذي شرح لنا الكثير عن منظومة العمل الكشفي، الآن نريد الانتقال إلى المحور الثاني في مقابلتنا، وهو التعرف على منهجية عمل بنفيكا مع الناشئ، وتلك المنهجية تبدأ بالكيفية التي تستقبل بها الأكاديمية لاعبا جديدا.

– بيدرو: “أول ما نقوم به هو أننا نرحب بالناشئ. نريده أن يشعر بأنه ينتمي إلينا، وبات جزءا من عائلة بنفيكا.

نحن لا نستقبل اللاعب فقط، ولكن نستقبل والديه وأسرته أيضا. نريدهم أن يطمئنوا إلى أن ابنهم في أيادٍ أمينة، ونحن هنا لأجل العناية به على المستوى التقني، وكذلك الشخصي والصحي والنفسي.

أحيانا يظن أولياء الأمور أن ابنهم سيكون -بلا شك- محمد صلاح القادم، أو بالضرورة هو كريستيانو رونالدو الجديد، وهنا علينا أن نشرح لهم بعض الشيء عن طبيعة عملنا، والمراحل التي يمر بها الناشئ في الأكاديمية قبل تصعيده”.

صمت “ماركيس”، وكنا على وشك أن نوجِّه له سؤالا جديدا، لكنه تدخل وقال: “أريد أن أضيف شيئا”. هنا انطلق الرجل، وكأن الكلمات تندفع من قلبه إلى فمه فورا.

“ما نريد أن يدركه أولياء الأمور هو سعينا إلى أن نكون مدرسة جيدة. لا أقصد كرة القدم وحسب، ولكن عموما. نريد أن نعد ولدهم لحياته المستقبلية، نريد له أن ينجح، ونريد له أن يكون إنسانا صالحا.

نحن نأمل أن يحظى كل ناشئينا بمسيرة احترافية في عالم كرة القدم، سواء بالتصعيد للفريق الأول في بنفيكا، أو في أندية أخرى، لكن على أرض الواقع، ليس كل الناشئين يحترفون اللعبة في نهاية الأمر. هنا تكمن مسؤوليتنا ومهمتنا، وهي أن نغرس في الناشئ صفات ومهارات تجعله قادرا على مواجهة الحياة. فإذا لم يصبح لاعبا محترفا، لعله يكون مدربا ناجحا، أو مهندسا ماهرا، أو يحرز التفوق في أي مجال يختاره، ويتمكن من تقديم شيء نافع لمجتمعنا.

هذه النقطة جزء أصيل في منهجية عملنا، نحتفظ بها في أذهاننا دائما بصفتنا إداريين ومدربين وكشافين، ونسعى لنقلها أيضا إلى لاعبينا”.

لا تحتاج كلمات “بيدرو” إلى المزيد كي تعبر عن الشعور بالمسؤولية تجاه اللاعب الناشئ، فمنهجية الأكاديمية لا تستهدف إنتاج ناشئ يجيد التمرير والتسديد والفوز بالكرة الثانية وحسب، بل مساعدته في التغلب على المعوقات التي تعترض طريقه، سواء كان هذا الطريق داخل المستطيل الأخضر أو خارجه.

حسنا، هكذا يكون استقبال الناشئ في الأكاديمية، لكن ماذا بعد؟ كيف تتحوّل منهجية بنفيكا إلى آليات للتطبيق بعد انتظام الناشئ؟ استمع “ماركيس”، ثم استفاض في الإجابة.

– “بعد ذلك تأتي المرحلة الأهم، وهي دمج ذلك الوافد في منظومتنا، من خلال انضمامه إلى فريق الفئة العمرية التي ينتمي إليها.

النهج الذي نتبعه في منظومتنا هو العمل على التطوّر الفردي للاعب، فكل ناشئ بالنسبة إلينا هو مشروع لاعب محترف. لذلك فهناك خطة محددة الأهداف لكل ناشئ، هذه الخطة تمتلئ بالتفاصيل كلما صعد الناشئ من فئة سنية إلى أخرى أكبر. ونحن نعمل على تنفيذ تلك الخطة يوميا، وفقا لاحتياجات وتقييم كل لاعب.

نحن لا نريد أن نخفي نتائج ذلك التقييم عن الناشئ، بل نُجري معه مقابلة شخصية بصورة دورية خلال الموسم الواحد، لكي نطلعه على نتائجه خلال الفترة السابقة، ونبلغه بما نريد له القيام به في هذا الشأن أو ذاك. بالطبع هذا التقييم يختلف من ناشئ إلى آخر، فأحيانا يكون على أحدهم تطوير مهاراته التقنية، بينما يكون على الآخر تحسين حالته الذهنية والنفسية، لذلك فالخطة المرسومة تختلف من لاعب إلى آخر خلال الموسم.

بعد تحديد الخطة والأهداف لكل ناشئ، نحاول تسخير كل إمكانياتنا، سواء كانت بشرية أو مادية أو فنية، في سبيل تطوير إمكانياته ومعالجة عيوبه. ما أقصده هنا هو كل إمكانياتنا حرفيا، بمعنى نحن الأفراد؛ من مدربين ومعدين بدنيين وأطباء متخصصين في علم النفس وخبراء تغذية، وحتى صديقاك، لويس وباولا، يقدمان لنا الدعم.

أقصد كذلك ما نمتلكه من خبرات في التعامل مع أجيال سابقة من الناشئين، بالإضافة إلى رؤيتنا للتدريب، والتدرج بين فرق الشباب. كما أقصد الأدوات المادية التي تتمثل في ملاعبنا ومعاملنا. كل ما ذكرته لك هو جزء من هذا البرنامج التدريبي الذي يستهدف إنتاج لاعب محترف يوفي احتياجات السوق، سواء حاليا أو في المستقبل”.

حين زار محرر صحيفة الغارديان البريطانية، “أليكس كلابهام”، مقر أكاديمية بنفيكا الذي يقع في مدينة سيكسال بلشبونة، اكتشف أنه يضم تسعة ملاعب، بالإضافة إلى ثلاث صالات مجهّزة بأحدث أدوات التدريب والتكيّف، (9) ويضم أيضا قاعتين كبيرتين للمحاضرات، كل ذلك بالإضافة إلى معمل سموه “360 Simulator”.

هذا المعمل هو عبارة عن ملعب صغير جدا، محاط بلوحات إلكترونية، وفي كل ركن منه هناك نقطة لانطلاق الكرة صوب اللاعب الذي يقف في منتصف الملعب. الهدف من كل ذلك هو اختبار سرعة رد الفعل، ورؤية وتركيز اللاعب، إذ يستقبل الكرة من تلك النقاط ويكون عليه تسديدها داخل دائرة طولها لا يتخطى 10 أقدام، فيما تلعب تلك اللوحات الإلكترونية دورا في محاولة تشتيته، ووضعه تحت ضغط قبل أي يسدد. يتذكر “هيلدر كوستا”، لاعب ليدز يونايتد السابق وأحد خريجي أكاديمية بنفيكا، تجاربه في ذلك المعمل بالثناء، إذ يقول إن هذه التجارب ساعدته على تطوير إدراكه داخل الملعب، وانعكست على أدائه بوضوح.(10)

لم تكن الملاعب، أو صالات التدريب، أو المعمل، هي الأمر الوحيد الذي لفت انتباه “كلابهام”، بل إنه ذُهِل من عدد طاقم العمل الذي يقدم خدماته لكل فئة سنية، إذ اكتشف أن فريق تحت 15 عاما لا يحظى فقط بمدرب، ومعد بدني، وأخصائي نفسي، وخبير تغذية، بل أيضا محلل فيديو، يعمل على تسجيل كل تمريرة وتسديدة يقوم بها كل لاعب خلال كل حصة تدريبية، لتضاف إلى سجل اللاعب لتقييم حالته دوريا، تماما كما أخبرنا “بيدرو”.(11)

أمر آخر جدير بالذكر لاحظه “أليكس”، وهو الثقافة والأخلاقيات التي تحكم هؤلاء الناشئين، إذ شعر أنهم يُكنّون احتراما وتقديرا حقيقيا لكل فرد من طاقم العمل. ينصتون بانتباه للمدرب، ويُحيون رجال الأمن وعمال المطبخ ويتبادلون الضحكات معهم، ويساعدون رجال النظافة، ويلتزمون بمواعيد الحصص التدريبية والمحاضرات الفنية.(12) ربما هذا هو المقصود بالصفات والمهارات التي تعمل الأكاديمية على غرسها في نفس كل ناشئ.

العب لكي تفوز.. لكن ليس عليك الفوز كلما لعبت

يخبرنا “كلابهام” عن إحدى السمات الخاصة داخل أكاديمية بنفيكا، وهي الروح التنافسية التي شعر أنها تسري بين كل اللاعبين. السبب في ذلك هو أن كل فئة سنية تضم عددا يكفي لتكوين ثلاثة فرق، ومن هنا فعلى كل ناشئ تقديم أفضل ما لديه، ﻷن هناك لاعبا، أو ربما لاعبين آخرين، ينافسونه على المركز الأساسي.

لم نفوّت فرصة لقائنا مع “بيدرو”، وسألناه عن تلك السمة.

– ماركيس: “نعم، هذا صحيح، صحيح تماما.

نحن نريد أن تكون هناك رغبة داخل كل ناشئ كي ينافس على مركزه، كي يلعب ويبرز إمكانياته في اللعبة، نحاول تحقيق ذلك من خلال المنافسات والمباريات التي تخوضها كل فئة سنية. أقصد بذلك البطولات التي نشارك فيها، سواء كانت محلية داخل البرتغال، أو دولية كدوري الشباب الذي فزنا به الموسم الماضي بالمناسبة.

دعني أخبرك بميزة كبيرة نحظى بها في بنفيكا، وهي تتعلق بالفريق الثاني/الرديف “Benfica B”، هذا الفريق الذي يجمع عددا كبيرا من خريجي الأكاديمية، من الناشئين الذين عملنا معهم لسنوات. يشارك ذلك الفريق في دوري احترافي، وهو ليغا برو، دوري الدرجة الثانية هنا في البرتغال، ويخوض مباريات قوية مع فرق أكثر نضجا، ومن هنا يكتسب ناشئنا خبرة وتنافسية حقيقية. نحن نعتبر المشاركة في ذلك الفريق الرديف نقطة انطلاق مهمة للغاية بالنسبة للناشئين”.

خلال وجود “كلابهام” في لشبونة عام 2018، كان فريق رديف بنفيكا يضم 16 لاعبا من أبناء الأكاديمية، جميعهم يواجهون رجالا أكبر وأقوى وأكثر خبرة وتمرسا منهم، وهو ما يجعلهم أمام تحدٍّ صعب لتعويض الفارق، لكن مَن يتغلب على ذلك التحدي يتم دفعه مباشرة للفريق الأول، حيث تكون فرصه في النجاح والتألق حاضرة وبقوة. حين بحثنا عن قائمة الفريق الرديف في ذلك الوقت، تأكدنا من صحة هذا الاستنتاج، إذ اكتشفنا أنها كانت تضم “روبن دياش”، و”جواو فيليكس”، اللذين سيصبح لهما شأن آخر بعد فترة بسيطة من زيارة المحرر الإنجليزي.(13)

قبل أن نجري حوارنا مع “بيدرو”، وجدنا أن الأكاديمية تتخذ من جملة “تطوّر كي تفوز” شعارا لها، وهو ما يُعَدُّ دليلا آخر على تعزيز روح التنافسية داخل مدرسة التكوين البرتغالية، لكن ألا يتعارض ذلك الشعار مع مبدأ العمل على إمكانيات كل لاعب فرديا؟ هل الأولوية هي تحقيق الفوز؟ أم تحسين قدرات الناشئ؟

– ماركيس: “حسنا، هذه ملاحظة جيدة.

أنت الآن تعرف أن منهجية العمل في بنفيكا تقوم على تطوير الناشئ فرديا، ومساعدته على الوصول إلى أفضل نسخة فنية وبدنية قبل المشاركة في الفريق اﻷول، لكن هناك بعض الاختلافات بين آليات تنفيذ تلك المنهجية بين ناشئ في الفئات السنية الصغيرة، وآخر في فريق الشباب مثلا.

في الفئات السنية الصغيرة، كفرق تحت 10 سنوات مثلا، ما يشغلنا هو مهارات وقدرات كل ناشئ، حتى إننا لا ندربهم على أساسيات كرة القدم فقط، ولكن على رياضات أخرى مثل كرة الصالات. ويقومون كذلك بأنشطة مختلفة، كحصص الموسيقى والرقص وغيرها. وذلك ببساطة ﻷننا نريد أن يتعرض الناشئ لمجموعة من الخبرات المتنوعة، تلك الخبرات مهمة في تكوين الناشئ من وجهة نظرنا.

أما حين ينتقل الناشئ إلى الفئات السنية الأكبر، فعليه أن يدرك قيمة الفوز، وضرورة أن يذهب إلى الملعب ويخوض كل مباراة بروح ودافع الانتصار. من الضروري أن يلعب كي يفوز، ولكن ليس من الضروري أن يفوز كلما لعب. نحن نحاول أن نغرس فيهم ذلك الشعور، ولكن دون أن نثقلهم بالضغوط والأعباء النفسية. هذا جزء رئيسي من اللعبة، فحتى حين نخرج ونلعب كرة القدم في مواجهة أصدقائنا بهدف الترفيه، فهناك إرادة داخلنا كي ننتصر، نسجل أهدافا أكثر ونستقبل أقل، ونبرز إمكانياتنا.

الفوز قد يكون له زاوية أخرى بالنسبة لنا نحن المسؤولين في بنفيكا. صحيح أننا نسعد ونحتفل حين يفوز فريق صغير في الأكاديمية بمباراة، لكن سعادتنا الأكبر، واحتفالنا الذي لا ننساه، يكون مع نجاحنا في تصعيد لاعب ناشئ إلى فريقنا الأول، ثم ينجح ذلك الناشئ في تسجيل هدف جميل بدوري أبطال أوروبا مثلا. بالنسبة لي، هذا هو الفوز والانتصار”.

ما إن انتهى ضيفنا من إجابته، إلا وكان ينظر في الجهة المقابلة من الحائط. هل كان ينظر إلى الساعة؟ نعم، كان يفعل. تمتم الرجل بكلمات بالبرتغالية، ثم قال لنا: “أريد أن أخبركم بخبر غير سعيد، هناك اجتماع عمل ينتظرني بعد خمس أو عشر دقائق”. لم نتردد في محاولة الاحتيال عليه، وطلبنا أن تكون عشر دقائق كاملة، تعويضا عن تأخيره على حضور اللقاء. ضحك “بيدرو”، وقال: “آه! ظننت أنكم نسيتم! حسنا الآن تعرفتم على منهجيتنا بشكل جيد، ما سؤالكم التالي؟”.

فخ وودبيرن

ارتبط اسم “بين وودبيرن” بسؤال واحد: لماذا أخفق الشاب بهذا الشكل؟ لماذا تتعثر المواهب الواعدة وكأنها تسقط من السماء السابعة إلى باطن الأرض؟ (رويترز)

كان سؤالنا التالي عن “بين وودبيرن”.

إذا لم تتعرف على صاحب هذا الاسم، فدعنا نخبرك أنه أصغر مَن سجَّل هدفا رسميا في تاريخ ليفربول. كان هذا عام 2017، حين كان عمره يتجاوز 17 عاما بقليل، ليكسر بذلك رقم “مايكل أوين”. في الحقيقة، كان المتوقع أن يحظى “بين وودبيرن” بمسيرة مماثلة لـ”أوين” وربما “ستيفن جيرارد”. هكذا كان يظن “أليكس إنغليثورب”، مدير أكاديمية الريدز وإحدى أهم الشخصيات داخل القلعة الإنجليزية، بل إن الشاب الصغير نال إعجاب الرجل الأهم: “يورغن كلوب”.(14)

اليوم، بعد 5 أعوام على ذلك الهدف، يجلس “بين وودبيرن” على دكة نادي بريستون نورث إند، الذي يشارك في دوري الدرجة الثانية الإنجليزي. لم يصبح “جيرارد” الجديد، ولا ظل “كلوب” معجبا به، بل إن ليفربول تخلى عنه ذلك الصيف، بعد سلسلة مخيبة من الإعارات.

من هنا ارتبط اسم “وودبيرن” بسؤال واحد: لماذا أخفق الشاب بهذا الشكل؟ لماذا تتعثر المواهب الواعدة وكأنها تسقط من السماء السابعة إلى باطن الأرض؟ طرحنا ذلك السؤال على صاحبنا، الذي ما زالت نظراته معلقة بالساعة.

بيدرو: “سؤالكم هو: لماذا يفشل الأولاد الموهوبون؟

ببساطة ﻷن التحوّل المباشر من الأكاديمية إلى الفريق الأول ليس سهلا. للأسف يظن البعض أنها عملية خطيّة، بمعنى أن الناشئ الذي يتألق في فريق تحت 21 سنة اليوم، سيواصل التألق غدا في الفريق الأول. هذا غير صحيح تماما، إنها عملية معقدة وغير بسيطة، وهي تعتمد على عدّة عوامل.

هناك عوامل تتعلق بالناشئ نفسه، أقصد بذلك إمكانياته وشخصيته وقدرته على التطوّر والتكيّف. قد تكون أمام ناشئ يستطيع التحوّل سريعا من الفئة السنية للفريق الأول، وقد تكون أمام ناشئ آخر ينبغي أن يقضي وقتا أطول في الفريق الرديف، وقد تكون أمام ثالث من الأفضل له أن يخرج في إعارة لفريق لا يعاني من ضغوط جماهيرية وإعلامية شرسة.

بالنسبة لبيدرو، فإن كلمة السر في نجاح وفشل عمليات التحوّل من فرق الناشئين إلى الاحتراف هو: الفرص، وفهم شخصية الناشئ. (رويترز)

وهناك عوامل أيضا تتعلق بالنادي نفسه، ما أقصده هنا السياق الذي يحكم النادي، وكذلك مدرب الفريق الأول. فهناك مدرب يرحب بالعمل مع الناشئ الصاعد، ويفتح له الأبواب، ويتحمل مسؤولية عثراته أمام الجميع. وهناك مدرب آخر يفضل العمل مع اللاعبين أصحاب الخبرة، ولا يثق بسهولة في الناشئ. وهناك إدارة نادي ترغب في الاستثمار في الناشئين، ولديها مشروع طويل الأجل. وإدارة أخرى قد تفكر في إقالة المدرب، وقلب نمط عملها رأسا على عقب، بعد هزيمتين أو ثلاث متتالية.

بالنسبة لي، فإن كلمة السر في نجاح وفشل عمليات التحوّل من فرق الناشئين إلى الاحتراف هو: الفرص، وفهم شخصية الناشئ. إذا تعرّف متخذ القرار على الناشئ جيدا، فإنه سيمنحه الفرصة التي تناسبه، وهذا يزيد من احتمالات نجاحه بالتبعية”.

كان سؤالنا التالي متوقعا: ما الآليات التي يتخذها بنفيكا لضمان عدم وقوع مواهبه في ذلك الفخ؟

– ماركيس: “أول شيء نعتمد عليه هو مدى معرفتنا بالناشئ، فكما أخبرتك هناك خطة موضوعة لكل لاعب بحسب سماته الفنية والبدنية، ونتابع باستمرار مدى تطوّره على جميع الأصعدة، قبل اتخاذ قرار تصعيده للفريق الأول.

الأمر الثاني هو التواصل داخل بنفيكا. ما أعنيه هو أننا لا نعمل في جزر منعزلة عن بعضها، بل هناك تواصل بين الجميع لضمان أننا نسير بشكل متناغم. تتعزز قيمة ذلك التواصل بين الأكاديمية والفريق الأول، فحين تقوم الأكاديمية بتصعيد ناشئ ما، فإنها لا تدفع بشاب غريب مجهول عن مسؤولي الفريق الأول، بل يكونون على درجة جيدة من المعرفة به، بعدما قدمت الأكاديمية كل البيانات والمعلومات المهمة التي تخصه. وحين يطلب الفريق الأول التدعيم في مركز معين داخل الملعب، يكون مسؤولو الأكاديمية على استعداد مسبق لتجهيز لاعب جديد لخوض تلك المغامرة، وبدون تلك الجاهزية فإننا نُعرِّض اللاعب لظلم كبير.

الأمر الثالث يخص اللاعب نفسه، فهو مَن سيخوض الرحلة في النهاية. والأمر هنا يعتمد على قدراته، والجهد الذي يبذله، ونجاحه في استغلال كل ما تعلمه داخل الأكاديمية خلال سنوات طويلة، من أجل تلك اللحظة، أي التحوّل إلى الفريق الأول.

في ظني أننا في النادي والأكاديمية، سواء كنا مديرين، أو مسؤولين تقنيين، أو مدربين، أو لاعبين، نُبلي بلاء حسنا في ذلك الشأن. هل تعرف كم عدد خريجي الأكاديمية الذين ينتظمون في صفوف الفريق الأول لبنفيكا حاليا؟ تسعة لاعبين، وخلال الفترة التحضيرية للموسم كان هناك خمسة آخرون. نحن نتحدث عن أربعة عشر ناشئا”.

صمت ماركيس، ثم قال: “هل كان ذلك سؤالكم الأخير؟ سؤال جيد على كل حال”. شكرنا صاحبنا على هذا الإطراء اللطيف، لكن أخبرناه أنه كان سؤالنا قبل الأخير، لأن سؤالنا الأخير هو: هل فلسفة ومشروع بنفيكا فيما يخص تصعيد الناشئين تؤثر على قرار تعيين المدرب الأول؟

روجر شميت مدرب بنفيكا يعطي تعليمات إلى ديفيد نيريس. (رويترز)

– ماركيس: “بنفيكا نادٍ كبير، نادٍ له هوية واضحة، ويتحلى بعقلية الفوز في المنافسات داخل وخارج البرتغال.

حين نبحث عن مدرب، فمن المهم أن يحقق التوازن. التوازن بين سعينا للفوز، وتقديم كرة قدم سريعة وفعالة، وبين تصعيد الناشئين ومساعدتهم على الوصول إلى أفضل أداء ممكن.

في ظني أننا نحقق ذلك التوازن حاليا مع المدرب روجر شميدت. انظر ماذا فعلنا في دوري الأبطال؛ تأهلنا لدور الـ16، وسجل لاعبون من خريجي الأكاديمية أهدافا في بطولة بذلك الحجم، وظهر في التشكيل ناشئون صغار، بعضهم انضم إلى بنفيكا ليس قبل عام أو عامين، بل قبل عشرة أو خمسة عشر عاما، حين احتضنته مراكز المواهب منذ كان في السابعة من عمره، فهذا اللاعب يُعبِّر عن روح بنفيكا.

نحن نعيش لحظة جيدة”.

إلى هنا انتهت إجابات السيد “بيدرو ماركيس”، شكرناه على وقته، وعلى كل تلك المعلومات التي أمدّنا بها فيما يتعلق بالمحاور التي أردنا الاستفسار عنها. رد الرجل بلطف: “شكرا لكم أنتم، ربما أزوركم ذات يوم، وحينها أجيب عن المزيد من أسئلتكم”.

طبعا لا نمانع في استقبالك يا “بيدرو”، لكننا كنا نعتمد على مقابلتنا التالية مع “رودريغو مغاليش”، لنستفسر منه عن محاور أخرى. في الجزء الثاني من هذا الحوار، يحدثنا المنسق التقني لأكاديمية بنفيكا عن البلورة السحرية التي يحتفظ بها داخل مكتبه، وعن جنرال الحرب “روبن دياش”، والذعر الذي كان يصيب “إيدرسون” قبل الخروج من مرماه، وعن السر وراء إعجاب “غوارديولا” بخريجي بنفيكا، لدرجة أن يدفع بأربعة منهم في تشكيلته الأساسية. كما يخبرنا عن دور التعليم في تكوين الناشئين، واستعانة الأكاديمية بالبيانات والذكاء الاصطناعي، والطائرات المسيرة التي تحلق فوق الملاعب.

__________________________________________________

المصادر:


المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply