استطاعت الدولة العثمانية التي استمرت لمدة 6 قرون أن تحافظ على نجاحاتها وقوتها بالاعتماد على بنية عسكرية تسليحية ترسخت في عهود عشرات الخلفاء والسلاطين، ورغم أن الجمهورية التركية التي تأسست عام 1923 قامت على قطيعة مع الموروث العثماني إيمانا منها بأن النجاح لن يتحقق إلا وفق النموذج التحديثي الغربي، ظل الموروث العسكري العثماني حاضرا في اهتمام القادة الجدد بمسألة تسليح الجيش وتحديثه، رغم اختلاف الأهداف والتحديات بتعاقب العصور.

فشأنهم شأن قادة كل الحركات الوطنية، لم تغب مسألة الاستقلال الوطني وتأمين الحدود التركية عن أذهان أتاتورك ورفاقه من مؤسسي الجمهورية التركية الحديثة أمثال المشير “فوزي جقْمق” والرئيس الثاني للجمهورية “عصمت إينونو”، خاصة بعد التجارب التي عايشوها في حروب ليبيا في عام 1911 ضد الطليان، وحربَي البلقان الأولى والثانية عامَي 1912 و1913، والحرب العالمية الأولى بين 1914 و1918، وأخيرا حرب الاستقلال الوطني حتى عام 1923، وهو ما جعلهم يدركون أنه لا مفر من توطين الصناعة العسكرية لتكون البلاد على أتمّ الاستعداد للدفاع عن نفسها في حال اندلعت أي مواجهة جديدة، رغم التوقيع على معاهدة لوزان عام 1923 التي فرضت السلام بين تركيا وأعدائها السابقين.

الصناعات العسكرية العثمانية

(مواقع التواصل)

تعود بدايات صناعة السلاح في تركيا العثمانية إلى القرن الخامس عشر الميلادي عقب فتح القسطنطينية سنة 1453 على يد السلطان محمد الثاني الفاتح، الذي أدرك أهمية هذه الصناعة لحماية إسطنبول العاصمة الجديدة للعثمانيين، فأنشأ لذلك “الطوبخانة العامرة (Tophane-i Amire)”، وهو مصنع للمدافع والمقذوفات المدفعية في الوقت ذاته. وقد عمل المصنع طوال قرون حتى نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م، وبلغ إنتاجه في مرحلة ما حوالي 1060 نوعا من المدافع، واعتبره بعض الباحثين الغربيين المنشأة العسكرية الأولى من نوعها التي وقفت وراءها حكومة مركزية في تاريخ أوروبا في العصور الوسطى المتأخرة[1]. وقد سار على درب الفاتح حفيده السلطان سليم الأول حين قرر إنشاء ترسانة كبيرة لصناعة الأساطيل وأسلحة الأساطيل العثمانية في الربع الأول من القرن السادس عشر، والتي أُطلق عليها “ترسانة الخليج” ثم “الترسانة العامرة”.

اهتم العثمانيون أيضا بإنشاء مؤسسة “البارودخانة” في القرن الخامس عشر الميلادي لتوفير بارود المدافع والبنادق، وبعد احتراقها وانفجارها أُعيد إنشاؤها في القرن السادس عشر ثم في السنة الأولى من القرن الثامن عشر في المنطقة الواقعة بين “بَكِر كُوي” و”يشِيل كُوي” في إسطنبول اليوم. ومع الوقت، تم تحديث هذا المصنع في نهايات القرن الثامن عشر مع إدخال نظام العجَل، ثم جرى الاتفاق مع بعض المصانع الألمانية بين عامي 1835-1836 لتطوير المصنع وإدخال نظام المحركات الجديد الذي عمل على رفع الإنتاجية بصورة أكبر في وقت أقل، وظل هذا المصنع يمد الدولة العثمانية ثم الجمهورية التركية باحتياجاتها حتى أُغلق بصورة تامة عام 1955[2].

كما عرفت الدولة العثمانية مصانع عسكرية ودفاعية أخرى، مثل مصانع الجُلَّة -نوع من المقذوفات- والخراطيش والبنادق، وملابس العساكر وتجهيزاتهم وأحذيتهم، ومصانع الحديد والصُّلب الدفاعية، ومصانع نيترات البوتاسيوم المستخدمة في مقذوفات المدافع، ومصنع طوربيدات الغواصات الذي أنشئ في عصر السلطان عبد الحميد الثاني، ومصانع مواسير النحاس، وغيرها[3].

شاكر زمرة ودوره في حرب الاستقلال التركية

(مواقع التواصل)

بعد الإعلان عن الجمهورية التركية الجديدة عام 1923، قرر المسؤولون الجدد إعادة تطوير الصناعات الدفاعية، لا سيما المقذوفات التي اعتمدت عليها القوات البرية والبحرية والجوية. وقد وقع اختيارهم على المحامي ورجل الصناعة التركي بُلغاري المولد “شاكر زُمرة (Şakir Zümre)”، الذي أسهم بدور لافت في حرب الاستقلال التركية، وكان على علاقة صداقة وطيدة مع مصطفى كمال أتاتورك، وفي الوقت نفسه قريب الفريق ورئيس أركان الجيش المشير “فوزي جقمق”. وقد كان لمجهوده الكبير أبرز الأثر في الاكتفاء الذاتي لتركيا طوال ربع قرن تقريبا قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية وصعود الصناعات العسكرية الأميركية وانضمام تركيا لحلف الناتو؛ ما اضطر الرجل إلى التحوُّل عن تصنيع الأسلحة إلى غيرها من المنتجات بعد خسارة كبيرة لرأس ماله الذي تعرض للصدأ والتلف. وفي هذا الصدد، تشير روايات تركية إلى أن الولايات المتحدة تدخلت ومارست ضغوطا على تركيا لوقف صناعاتها العسكرية، والاعتماد على الأسلحة الأميركية.

وُلد شاكر زُمرة في ولاية “ڨارنا” العثمانية التي تقع اليوم ضمن دولة بلغاريا على ساحل البحر الأسود عام 1885، وكانت بلغاريا ضمن أراضي الدولة العثمانية في ذلك الوقت. وقد نال درجة الليسانس في الحقوق من جنيف بسويسرا، ثم عاد إلى بلغاريا إبان الحرب البلقانية الأولى والثانية ليساند الدولة العثمانية ويدعم محاولاتها لإيقاف نزيف خسارتها في البلقان لصالح استقلال دول المنطقة المدعوم من قوى كبرى مثل روسيا وبريطانيا وفرنسا. وفي هذه المرحلة تعرَّف شاكر على مصطفى كمال الذي كان يعمل ملحقا عسكريا للدولة العثمانية في “صوفيا” عاصمة بلغاريا، وكان شاكر يشتغل بالمحاماة والتجارة آنذاك، وبسبب شهرته ونشاطه انتخبه أتراك بلغاريا في البرلمان نائبا عنهم[4].

سرعان ما توطّدت العلائق بين الرجلين، وفي تلك الأثناء اشتعلت الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وعاد أتاتورك عام 1915 منخرطا في معارك جناق قلعة والأناضول أمام تقدم البريطانيين والفرنسيين. ومع هزيمة الدولة العثمانية في هذه الحرب، وسيطرة الفرنسيين والبريطانيين والأرمن واليونان والطليان على كثير من أراضي الأناضول وتراقيا، واستسلام تركيا في معاهدتَي “مودروس” و”سِيفر” عامَي 1918 و1920، اشتعلت الانتفاضة في عموم الأناضول. وقد قاد أتاتورك وعموم الأتراك الجهد الحربي، فأنشؤوا في كل محافظة مقاومة شعبية حرة نجحت في تحرير مدن الأناضول وإسطنبول. وقد استمرت حرب الاستقلال حتى عام 1922، وأُعلنت الجمهورية في العام التالي، ثم ألغيت الخلافة عام 1924. وقد أسهم شاكر زمرة في الحرب بالمال والسلاح بصورة سرية من خلال ورشته في بلغاريا، وأيضا عن طريق أصدقائه الفنيين في الصناعات العسكرية في مقدونيا واليونان[5].

مصنع شاكر زمرة.. من البداية إلى النهاية

في أثناء احتلال قوات الحلفاء منطقة إسطنبول وتراقيا بعد الحرب العالمية الأولى وإبان حرب الاستقلال التركية، عمدت هذه القوات إلى تخريب معظم مصانع الإنتاج الدفاعي، ومنها مصنع “تابا” للذخائر في منطقة “قره أغاج” في إسطنبول. وعلى أطلال هذا المصنع، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وانسحبت قوات الحلفاء، وبدعم من صديقه مصطفى كمال الرئيس الجديد للجمهورية، وقريبه الجنرال فوزي جقمق، أنشأ شاكر زمرة مصنعه الذي أطلق عليه مصنع “المواد الحربية والمتفجرة” في تلك المنطقة.

يحكي حفيد شاكر زُمرة الوحيد والمتبقي على قيد الحياة “أحمد حُسني هومبارجي باشي”، ابن الرابعة والثمانين، في لقاء صحفي معه أن جدّه شاكر زُمرة دخل إلى مجال الصناعات العسكرية بعد أن طلب أتاتورك ذلك من أمه التي كان يُجِلّها ويسمع لها، رغم أنه لم يكن من السهولة أن يُغيِّر ميدانه من التجارة والمحاماة إلى الصناعة، قائلا: “في لقاء ودِّي، طلب أتاتورك من جدتي السماح لابنها شاكر بالدخول إلى الصناعة”[6]. وحين اتخذ شاكر قراره بإنشاء مصنع الذخائر، قرر استدعاء خبراء المتفجرات والمقذوفات المقدونيين الذين ساعدوه في دعم الأتراك أثناء حرب الاستقلال، وفي هذا المصنع الجديد أُنشِئت المخارط الأتوماتيكية وورش التخشين والحدادة والنجارة والطلاء وهياكل المقذوفات، وجنبا إلى جنب مع الخبراء المقدونيين عُيِّن عُمَّال أتراك سرعان ما تعلّموا أسرار هذه الصناعة، ومن ثَمّ أصبحت الصناعة معتمدة عليهم حصرا بُعَيد سنوات قليلة.

بدأ المصنع في سلسلة إنتاج ذخائر عسكرية على قدر كبير من الأهمية والجودة، وبمختلف الأحجام والمقاصد، مثل قنابل الطائرات من وزن 1 إلى 900 كجم، وألغام بحرية وبرية بأحجام 50 و100 و300 كجم، وقنابل التدمير المدفعية، والقنابل الحارقة، والقنابل الجوية المضيئة، والمدافع الصاروخية، وغيرها من المنتجات الإستراتيجية، ونظرا لخطورة المصنع وأهميته وُضعت منتجاته وتفاصيل إدارته ومحتوياته تحت بند السرية، وتم فصل أي موظف انتهك هذه الخصوصية[7]. وقد استمر الإنتاج على هذه الوتيرة، واستطاع مصنع شاكر زُمرة أن يؤمِّن احتياجات القوات البرية والجوية والبحرية التركية كافة، بل وتمكّن شاكر وعمال المصنع بمرور الوقت أن يمدّوا القوات البحرية بطوربيدات غواصات محلية الصنع في ثلاثينيات القرن العشرين، واستطاعوا تصدير منتجاتهم إلى دول عديدة على رأسها اليونان، العدو الجار والمنافس الشرس، بقيمة 1.5 مليون ليرة، وهو مبلغ كبير نسبيا بأسعار ذلك الوقت، كما صدّروا ذخائرهم إلى بلدان مثل بولندا ومصر والأردن وسوريا[8].

ولكن ما إن بدأت الحرب العالمية الثانية تضع أوزارها عام 1945 حتى وافقت حكومة حزب الشعب الجمهوري بقيادة الرئيس والجنرال السابق “عصمت إينونو” على شروط الولايات المتحدة، ومن جملتها خطة “جورج مارشال”، رئيس أركان الجيش الأميركي ووزير الخارجية فيما بعد، بإرسال المساعدات العسكرية والاقتصادية إلى دول أوروبا الغربية وتركيا من أجل احتواء خطر الاتحاد السوفيتي فيما بدا أنه مُستَهَل حرب باردة دامت بعد ذلك 45 عاما. وأمام الحاجة إلى مجاراة السوفييت، الذين عدَّتهم تركيا عدوها الأول حينئذ، وانضمامها إلى حلف الناتو، ومن ثَمّ اتجاهها إلى الاعتماد على السلاح الأميركي، فضلا عن الضغوط التي تقول بعض المصادر التركية إن واشنطن مارستها على بعض مستوردي السلاح التركي من اليونانيين والبولنديين، أصبحت منتجات وذخائر مصنع شاكر زُمرة في مهب الريح، الأمر الذي اضطر الرجل إلى تغيير نشاط مصنعه منذ ذلك التاريخ إلى إنتاج المحركات الزراعية كي يتلافى الخسارة (وهو مصير مماثل لبعض مصانع الصناعات العسكرية المصرية بعد أن وضعت حرب أكتوبر 1973 أوزارها واتجهت البلاد إلى الاعتماد الكبير على المعونة العسكرية الأميركية).

صارت المنتجات الجديدة لمصانع شاكر زمرة هي الأدوات الكهربائية والصحّية المنزلية والمواقد، سواء مواقد التدفئة أم مواقد الطبخ، ومن ثَمّ بحلول عام 1950م أصبح المصنع أشهر وأهم علامة تجارية تركية في صناعة المواقد التي انتشرت بين الفلاحين في الأناضول لحاجتهم الشديدة إليها. بيد أن شاكر زُمرة لم يكن سعيدا بتبخّر حلمه في الصناعة العسكرية، ومن ثَمّ عبّر عن احتجاجه على عزوف الحكومة عن دعمه في يوم من أيام عيد النصر الموافق 30 أغسطس/آب بتنظيم موكب للشركة استُعرِضَت فيه المواقد على الجماهير المتراصة بالطرق في إسطنبول، في رسالة ساخرة للشركة التي اعتادت استعراض الذخائر والأسلحة في وقت سابق. وقد ظل مصنع شاكر للمواقد على تلك الحال حتى توفي عام 1966 بعدما فقد أهم أحلامه في صناعة عسكرية محلية[6].

بعد 4 سنوات على وفاة شاكر زُمرة، وفي عام 1970، أُغلق المصنع بصورة نهائية، وطويت صفحة أول تجربة لإنشاء صناعة عسكرية وطنية تركية في عصر الجمهورية، وقد ألهمت قصة الرجل ومحاولته الجريئة والناجحة صُنَّاع القرار في تركيا حتى يومنا هذا، لا سيما أنهم قد عادوا أدراجهم بالسعي من أجل تأسيس صناعاتهم الدفاعية الخاصة بعد سنوات من وفاته للمفارقة، وذلك إثر حظر تصدير السلاح الذي فرضته عليهم الولايات المتحدة بسبب استحواذ تركيا العسكري على شمال قبرص عام 1974. ولذا، أخذت الصناعات العسكرية التركية تسير على قدم وساق وتنمو، حتى وصلت إلى ما هي عليه الآن من تطوُّر ملحوظ في مجالات عديدة أبرزها الطائرات المُسيَّرة، لا سيّما طائرة “بيرقدار” التي تعتمد عليها القوات الأوكرانية في حربها الجارية مع روسيا، وتسعى للحصول عليها عشرات الدول. هذا وأنتجت تركيا أفلاما تسجيلية عن شاكر زمرة وحكايته وجهده الصناعي بُثَّت عبر القناة الوثائقية لشبكة التليفزيون والإذاعة التركية (TRT)، كما أعلنته الدولة رمزا وطنيا للصناعات الدفاعية التركية الحديثة.

________________________________________________

المصادر:


المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply