|

يختطف رجل على دراجة نارية حقيبة ظهر من رجل آخر خارج من محل تجاري في مدينة أوروبية، وسرعان ما يركب هذا الآخر دراجته النارية لتبدأ مطاردة بوليسية بين الدراجتين. تدور الكاميرا من كافة الزوايا والاتجاهات لتبين تفاصيل المطاردة الغامضة في الشوارع والأزقة، يصل الأول إلى سفح هضبة مطلة على المدينة ويترك الحقيبة على دراجته النارية، وما أن يصل الثاني ويستعد لالتقاط الحقيبة، يباغته الأول من الخلف زارعا حقنة في رقبته فيسقط على الأرض مغشيا عليه، بعدها يخلع الأول خوذته لنكتشف أنه الممثل المصري أمير كرارة في المسلسل الرمضاني الجديد “العائدون”؛ أحد المسلسلات البوليسية التي تُعرض في رمضان هذا العام من تأليف باهر دويدار، وإخراج أحمد نادر جلال.

رغم حضور الشق السياسي ممثلا في مسلسلات مثل “رأفت الهجان” “ودموع في عيون وقحة” و”السقوط في بئر سبع”، فإنه كان حضورا في الإطار الوطني العام يتناول قضايا جامعة، وهي الصراع العربي-الإسرائيلي وتجنب قضايا الخلافات العربية-العربية أو الخلافات الوطنية-الوطنية داخل الدولة الواحدة.

يبدأ المسلسل أولى حلقاته بنص يقول إن هذه القصة مستوحاة من واقع نعيشه بأحداث وشخصيات من وحي خيال المؤلف قبل أن تتسارع الأحداث وتكشف عن القصة التي تدور عن تنظيم الدولة (داعش)، ومحاولات المخابرات المصرية اختراق التنظيم.

المسلسل الجديد يدور في فلك ظاهرة بدأت منذ سنوات ومستمرة معنا حتى الآن وهي التحول الضخم في الإنتاج العربي من الدراما التاريخية والدينية نحو الدراما البوليسية والسياسية، وتحديدا التي تتناول قضايا العنف والإرهاب، وهي دراما تتميز بالجودة الفنية من ناحية تقنيات التصوير والمونتاج والضعف الشديد في السيناريو والحوار يصل في أحيان كثيرة إلى حد اللغة الخطابية المباشرة.

وعلى النهج نفسه يسير مسلسل “الاختيار 3” الذي يتناول قضية سياسية شائكة في مصر إبان حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، الذي يتجنب الشق السياسي في القضية ويركز على الجانب الأمني والاستخباراتي بشكل كبير، من تأليف هاني سرحان وإخراج بيتر ميمي. فالممثلون الرئيسيون في المسلسل معظمهم ينتمي لأجهزة أمنية مثل ضابط الجيش الذي يقوم بدوره أحمد السقا وضابط الشرطة الذي يقوم بدوره كريم عبد العزيز، وضابط آخر يقوم بدوره الممثل أحمد عز، بالإضافة إلى أن خيوط القصص الرئيسية تدور في أروقة الأجهزة الأمنية.

الملفت أن المسلسل تجنب مقولة إن القصة مستوحاة من قضايا واقعية مثل مسلسل “العائدون” إلى الكتابة في أول إعلان للمسلسل أنه يعرض حقائق لأول مرة. وتوالت حلقات المسلسل لتكشف عن أنه لا يستعير مشاهد حقيقية من قنوات إخبارية فقط بين عامي 2012 و2013، بل يعرض مقاطع فيديو مصورة لقيادات الإخوان في اجتماعات مغلقة؛ وذلك لتأكيد الرسالة السياسية المباشرة التي يريد إيصالها للمشاهد.

يعزف مسلسل “بطلوع الروح” على الوتر الأمني نفسه، ويعرض قصة نساء يعشن تجربة الحياة داخل تنظيم داعش، ويقمن بأدوارهن إلهام شاهين ومنة شلبي، وهو من تأليف محمد هشام عبيه وإخراج كاملة أبو ذكري.

المثير في هذا المسلسل أمران: أولهما شكلي يتعلق بالإنتاج إذ إنه يكسر قاعدة 30 حلقة ليكون 15 حلقة فقط، ويبدأ عرضه من منتصف رمضان. والأمر الثاني يتعلق بالقصة لكونه يتقاطع مع مسلسل “الدولة” الذي عرضته القناة الرابعة البريطانية عام 2017 عن حياة نساء بريطانيات مسلمات داخل تنظيم داعش من تأليف وإخراج بيتر كوزمنسكي. والمسلسل الأخير تجنب كل فخاخ الإسلاموفوبيا والنمطية في التعامل مع هذه القضية الشائكة وقدم رؤية درامية إنسانية بالغة الأهمية والحبكة، وكشف عن كافة الجوانب المأساوية، لذلك ستكون المقارنة صعبة بينه وبين “بطلوع الروح” بعد عرضه.

ما بعد الدراما الوطنية الجامعة

يمثل هذا النمط البوليسي من المسلسلات العربية تحولا جذريا في الدراما العربية خلال العقود الماضية التي بدأت بالتركيز على القضايا الدينية التاريخية أولا ثم التاريخية الحضارية ثانيا، قبل أن نصل إلى هذا النمط من المسلسلات البوليسية. ورغم حضور الشق السياسي ممثلا في مسلسلات مثل “رأفت الهجان” “ودموع في عيون وقحة” و”السقوط في بئر سبع” فإنه كان حضورا في الإطار الوطني العام ويتناول قضايا جامعة، وهي الصراع العربي-الإسرائيلي، وتجنب قضايا الخلافات العربية-العربية أو الخلافات الوطنية-الوطنية داخل الدولة الواحدة.

في حال استمر هذا النوع من الدراما على هذا المنوال فسيحدث عزوف جماهيري، وقد بدأ بالفعل بدرجة ما مع الشرائح الشبابية نحو مسلسلات المنصات الأجنبية مثل نتفليكس وغيرها، أو المسلسلات التركية.

الأزمة في هذا النوع من الإنتاج تتجلى في عدة نواح، منها أنه يرفع سقف توقعات الجمهور عاما بعد آخر لمشاهدة ما هو أكثر إثارة. والقضايا السياسية والأمنية الحقيقية ليست متكررة بهذه الكيفية لتصلح أن تكون مادة درامية ثرية مبنية على وقائع. ولهذا السبب ربما يعول مسلسل “الاختيار 3” على المشاهد المسربة لرفع إيقاع الحلقات، إذ إن القصة الأصلية أكل عليها الدهر وشرب خلال 10 سنوات مضت. كما أن اللغة الخطابية المباشرة في كثير من هذه المسلسلات والتي تنحو في أحيان كثيرة نحو الاستقطاب ونزع الأنسنة عن الطرف الآخر في السيناريو والحوار تتناقض مع البناء الدرامي الذي يعتمد على التعقيد وتشابك النزعات الإنسانية في الشخصيات.

إن التركيز المالي والإنتاجي على هذا النمط من الدراما يحرم المشاهد من الدراما التاريخية والدينية التي قامت بدور كبير خلال العقود الماضية في إلقاء الضوء على حقب تاريخية مهمة، وأعادت تجسيد كثير من القيم على الشاشة؛ مثل مسلسلات “عمر بن عبد العزيز” و”عمر” و”الحسن والحسين” و”الملك فاروق” و”التغريبة الفلسطينية” وغيرها. وهي مسلسلات جمعت بين قوة البناء الدرامي الاحترافي واحترام الحقائق التاريخية وتجسيد كثير من القيم الدينية والوطنية العامة.

وفي حال استمر هذا النوع من الدراما على هذا المنوال فسيحدث أمران: أولهما عزوف جماهيري، وقد بدأ بالفعل بدرجة ما مع الشرائح الشبابية نحو مسلسلات المنصات الأجنبية مثل نتفليكس وغيرها أو المسلسلات التركية. وثانيهما دخول أي طرف إنتاجي آخر لتقديم رؤية درامية مغايرة لما يتم طرحه، وبذلك ندخل في دوامة المسلسلات والمسلسلات المضادة أو حرب الدراما والسرديات، وهي ليست ظاهرة صحية لأنها لا تأتي في مناخ صحي من حرية التعبير، وإنما في مناخ من الاستقطاب والشحناء.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply