تناولت الحلقتان السابقتان بنية الأرشيف العثماني وعلاقته بالعقد الاجتماعي لمجتمع ضم 80 قومية ودينا ومذهبا وامتد 6 قرون، كما تناولت الأصل الحضاري والفكري للأرشيف كمادة للتماسك المدني في زمن الاستقرار ورافعة اجتماعية في زمن الأزمات، وتتناول هذه الحلقة عملية تفعيل الأرشيف العثماني باعتباره منظومة مدنية ومفهوما يتبلور حوله المجتمع وتفهم الأحداث المعاصرة على ضوئه ويرسم المستقبل من خلاله.

تغذية الأرشيف العثماني

تغذية الأرشيف العثماني بوثائق (تحريرية) توقفت في عام 1915 أي بعد اشتعال الحرب العالمية الأولى بعام، ومن غير الواقعي أو المطلوب أن ترسل بيروت أو بغداد أو سراييفو وثائقها العقارية الجديدة لإيداعها في إسطنبول، فدائرة التسجيل العقاري بلندن على سبيل المثال لم تنتقل إلى بروكسل عندما دخلت بريطانيا عضوة في الاتحاد الأوربي.

ما تتطلبه العلاقة الجديدة (المتبادلة) بين هذه المدن (المستقلة) وبين الأرشيف العثماني هو قوالب العقد الاجتماعي الفكرية التي يوثقها الأرشيف، فتكون ركنا في المفهوم المشترك الجديد بين الولايات السابقة، هذا من جهة.

من جهة أخرى، فإن البيانات التي كانت تغذي بها مدننا الأرشيف العثماني لم تتوقف وتتدفق من معالم اجتماعية سامقة لم يجرفها الطوفان الليبرالي (هي في حكم المنقرضة عند مجتمعات الأمم الأخرى)، لكنها من دون عناوين أو تصنيف اجتماعي يفسر ما أصلها وكيف صمدت قرونا طويلة، كما أنها لا تساهم في تكوين عصبية اجتماعية (بالمعنى الخلدوني، الفكرة التي يجتمع حولها الناس فيكونون مجتمعا منيعا) في عصر تشكو فيه شعوب الأرض قاطبة من تقوض العصبيات وهشاشة المجتمعات.

جميع المدارس الفكرية المعاصرة هي ثقافات أزمات، فطبقية الأغنياء أوجدت الشيوعية، وتسلط الكنيسة أوجد العلمانية، والسخط على حكم النبلاء أوجد القومية، ونقص الأيدي العاملة في الحروب العالمية أخرج المرأة من بيتها وزجها في المصنع، جميع هذه الأفكار اعتبرت في حينها فجرا جديدا في حياة البشرية، وهي نفسها اليوم أمراض اجتماعية اقتصادية بحاجة إلى حلول

التعامل مع الأرشيف باتجاهين (تغذيته بالبيانات واستعارتها منه) لا يتم إبان الأزمات بالطرق الأكاديمية أو بنظام المكتبات العامة على شاكلة استنساخ الوثائق وتحقيق المخطوطات، سحب مفاهيم الأرشيف العثماني كغطاء وثائقي على المعالم الاجتماعية السامقة في مجتمعاتنا (التسامح الديني، حقوق الأقليات، التعدد العرقي والثقافي) يثبّت عائدية الحياة المدنية فيها إلى العقد الاجتماعي العثماني، ويثبت (بالوثائق) خصوصياتها الاجتماعية واستحقاقاتها أمام المحافل الدولية ككتلة “جيواجتماعية”.

ومن جهة أخرى، يقلب حرب الابتزاز الاجتماعي والثقافي التي تشن على مجتمعاتنا من حرب افتراءات إلى حرب وثائق يكون لها فيها الكف العليا، وتكون مجتمعاتنا بذلك قد استأنفت تغذية أطول أرشيف اجتماعي في تاريخ البشرية وأعادته إلى الحياة العامة.

كذلك، سحب مفهوم الأرشيف كغطاء وثائقي على المستجدات الجيواجتماعية التي هي جزء من حياة الناس اليومية يضع لها تفسيرا تبقى من دونه مبهمة ولا تدر نفعا إستراتيجيا تحتاجه المنطقة في وقت حرج، فالناس (وكثير من المثقفين) لا يعرفون تفسير مصلحة تركيا (مثلا) في إعادة بناء البنى التحتية وتأهيل المؤسسات المدنية والخدمية وتدريب أطقمها الإدارية وتسديد مرتباتهم الشهرية وبناء المجمعات السكنية في المناطق التي تحت حمايتها في سوريا والصومال وليبيا مقابل الهدم الممنهج الذي تقوم به المليشيات الشيعية المدعومة من إيران.

النظر إلى الصراع بين الدولة والمليشيات (في المنطقة العربية-التركية) من منظور العقد الاجتماعي يُدخل الدول العربية وتركيا في شراكة الغاية (تطهير المجتمعات من المليشيات وتعزيز نظام الحكومة المركزية)، ويملأ الفراغ الفكري الإقليمي بعد قرن من ثقافة (القومية) أعطبت الآلية الاجتماعية الطبيعية في منطقتنا.

قاعدة اجتماعية

حينما تطول الأزمات وتتضاءل فرص الحل (أو تنعدم) تتحول ملفات الأزمات من دائرة “فن الممكن” (السياسة) إلى دائرة “صناعة الممكن” وهم خبراء المجتمع في التاريخ والتخطيط والاجتماع والتنمية البشرية لاستقراء الواقع وصنع أوراق جديدة تمكّن الدولة من الخروج من المأزق، فتنشأ علاقة عمل بين المجتمع والدولة.

في هذا الظرف تكون المجتمعات أكثر استعدادا للتغيير والتحفز لحلول لا تميل إليها في ظروف عادية، جميع المدارس الفكرية المعاصرة هي ثقافات أزمات، فطبقية الأغنياء أوجدت الشيوعية، وتسلط الكنيسة أوجد العلمانية، والسخط على حكم النبلاء أوجد القومية، ونقص الأيدي العاملة في الحروب العالمية أخرج المرأة من بيتها وزجها في المصنع.

جميع هذه الأفكار اعتبرت في حينها فجرا جديدا في حياة البشرية، وهي نفسها اليوم أمراض اجتماعية اقتصادية بحاجة إلى حلول، نحن لا نريد أن نكون حقل تجارب وإنما نريد إحياء مسار أثبتت القرون نجاعته وتحج الشعوب إلى مؤتمراته.

ثقافة السبق الحضاري

تعد الحقبة السلجوقية-العباسية (القرن الرابع الهجري) حقبة الصراع بين الدولة والمليشيات (البويهية الشيعية) ومهد منظمات المجتمع المدني، بسبب دور المدارس النظامية في تطوير هيكل المجتمع من ثنائي إلى ثلاثي الشريحة باستحداث شريحة الخبراء والعلماء (ما يعرف اليوم بـ”إن جي أو” NGO) التي ملأت المساحة المخلخلة بين صانع القرار السياسي في الأعلى والشارع في الأسفل، وقد كانت تعيق تنفيذ قرارات الدولة ما فعلته بغداد:

تفعيل كفاءات المجتمع المدني وتعويض عجز الدولة في عملية الإصلاح، الإحياء الاجتماعي وإعادة توجيه البوصلة الثقافية جعلت من الـ”إن جي أو” آصرة بين صانع القرار السياسي وبين الشارع، والثلاثة هي عناصر الاستقرار في المجتمعات المعاصرة.

مثلت المدارس النظامية سابقة حضارية في فن “الإحياء الاجتماعي” الذي استعادت به المجتمع من “مافيات” المليشيات، وكان ذلك تحت الغطاء الدولي الذي دعت إليه الدولة من خارج حدودها السياسية، ولكن من داخل حدودها الحضارية وتمخض عن حلف حضاري ثقافي (عباسي-سلجوقي، عربي-تركي) عُد من أخصب الحقب الثقافية التي مرت على مجتمع الحضارة الإسلامية، وامتدت آثاره قرابة قرنين ولا يزال وبعد 8 قرون مادة للبحوث العلمية.

الأرشيف العثماني هو سبق حضاري، وهو الأولى بالبحوث والتفعيل الاجتماعي لقربه من مشاكل عصرنا والأقدر على التخاطب مع مجتمع لا يريد سماع وجهات نظر فكرية، وإنما يطلب وثائق قطعية الدلالة تعيد له ثقته بنفسه وتمنحه أوراقا قضائية يخوض بها معركته أمام المحافل الدولية، كما تصنع له أوراقا سياسية يرسم بها مستقبله.

هذا المجتمع بحاجة لمعرفة عقده الاجتماعي الذي ضم 80 قومية ودينا ومذهبا لـ5 قرون، وأن مجتمعه ليس عالة على الحضارات، واليقين أنه هو مهندس المجتمعات ولا أحد غيره، وأن مفهوم المواطنة المعاصر هو بضاعة مجتمعه العثماني السابق، وأنه صاحب أول نظام لجوء سياسي في العالم، وهذه كلها مضامير سبق حضاري مؤيدة بالوثائق قادرة على رسم شكل المستقبل وجلب الاستقرار إلى منطقته بزوال العائق: إخراج المليشيات من مدنه.

الوصول إلى المجتمع (خطوات عملية)

مجتمعاتنا بحاجة إلى هذا الكم والنوع من المعلومات كمجتمعات انفلقت من مجتمع كبير، مما تسبب في اختلال عمقها الحيوي والجغرافي والثقافي وجعلها عاجزة عن حماية ما يفترض أنه أمنع حصونها: مواضع السبق الحضاري، لذا ينبغي أن يأتي الدفاع وثائقيا لا خطابيا، وأن تدخل وثائق الأرشيف العثماني الحياة العامة وتصل إلى الجمهور الذي لا يحسن قراءة الوثائق.

المهمة إذن هي نقل الأرشيف من لغة الوثائق إلى لغة يفهمها الناس ويتفاعلون معها، وقد أثبتت العقود القليلة الماضية أن الإعلام المرئي (ندوات تلفزيونية، مسلسلات، يوتيوب) هو أنجع طرق التواصل المعرفي مع المجتمع والتأثير على توجهاتها.

المطلوب: ندوات حوارية دورية تلفزيونية على الهواء باللغتين العربية والتركية تقدم المادة الوثائقية للأرشيف العثماني إلى المجتمع، ويكون الهدف الواضح منها هو: الإحياء الاجتماعي وحماية المجتمعات.

وربما تكون أفكار هذه الندوات بهذه الطريقة:

  • فكرة تأسيس الأرشيف العثماني ومراحل تكوينه: طريقة توفير المادة في المدن وتحويلها إلى وثائق ونقلها وحفظها في إسطنبول على مدى 5 قرون، والهدف هو زرع هذه الصورة الاجتماعية في الذاكرة الفردية والجمعية كأساس للانتماء الاجتماعي والمكانة على رقعة المجتمعات العالمية.
  • خبراء يتحدثون عن جوانب الحياة الاجتماعية التي تغطيها وثائق الأرشيف (اجتماع، اقتصاد، تعليم، حقوق مدنية، خرائط مدن، أوقاف)، والهدف هو ربط المادة الأرشيفية بالشؤون المعاصرة.
  • ضيوف من المدن التي في الأرشيف (الموصل، صفاقس، حلب، سراييفو، بيروت) يروون الأحوال الاجتماعية في مدنهم من خلال وثائق الأرشيف، والهدف هو ملاحظة مدى تشابه روايات المدن، وسيظهر طيف اجتماعي مشترك جديد يعزز التماسك الاجتماعي المحلي في هذه المدن، وفي نفس الوقت يكون عنصر استقرار للأمن العالمي.
  • مشاركة الجمهور (من خلال شبكات التواصل الاجتماعي) في تغذية الندوات بمعلومات من الذاكرة الحية للمجتمع التي مصدرها الآباء والأجداد، وهذا سيعمل على ربط الأرشيف العثماني بالحياة الاجتماعية وإيجاد أفكار هجينة بين النخبة والشارع.
  • جولة في مدينة: زيارة لمدينة مختارة من خلال وثائقها في الأرشيف العثماني، وتسليط الضوء على المعالم الفارقة لأحوالها الاجتماعية (التعددية العرقية، التجارة الإقليمية، التأهيل الثقافي للأقليات، اللجوء السياسي، أوقاف غير المسلمين)، وهذا من شأنه أنه يعزز الهوية الاجتماعية المعاصرة للمدينة برصيدها التاريخي.
  • بث الندوات على شبكات التواصل مع إبقاء الباب مفتوحا للإضافات والنقاشات، وهذا يوجد مساحة مستدامة لتغذية الاحياء الاجتماعي وتوسيع دائرته.
  • توفير “سيناريو” لأفلام وثائقية عن القصة الكاملة لأكبر وأقدم سجل اجتماعي في تاريخ البشرية، وهذا يوفر مادة تعليمية للمؤسسات التربوية والأكاديمية وللتعليم الذاتي.

تضع المصانع الكبرى (الطائرات والسيارات مثلا) في مبنى الاستقبال شاشة كبيرة تبث صورا حية لخطوط إنتاجها الغرض منها وضع الزائر أمام هيبة المشهد، والمطلوب وضع شاشة في قاعة مخصصة في مبنى الأرشيف العثماني تنقل الندوات التلفزيونية وتفاعل المجتمع معها، وهي تظهر عملية تحويل الوثائق الخام إلى آليات حياة، والهدف: نقل الحيوية الاجتماعية إلى مقر الأرشيف العثماني الذي هو رمز العقد الاجتماعي.

معالم تغيير مبكرة

ستجتمع النخب العلمية المختلفة تحت سقف الإحياء الاجتماعي، وستلتقي مع الناس في فعالية ثقافية جديدة، ويبدأ المجتمع بالتفكير على مسافة تناسب المسافة التي تبصرها العين، فبين الجغرافيا والفكر علاقة طردية.

وستوفر الندوات مادة علمية لمؤتمرات دولية موجهة إلى المؤسسات الأكاديمية والبحوث تنقل مفاهيم العقد الاجتماعي الذي يوثقه الأرشيف العثماني إلى المجال البحثي والتعليمي، ويصبح هو العلامة الاجتماعية لمنطقة الشرق الأوسط، وما سواها هو طارئ.

لسان حال المشاركين في البرامج التفاعلية هو: الأرشيف العثماني ليس مفكرة لـ5 قرون خلت فحسب، وإنما هو دليل للقرون القادمة.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply