“لا أحد يمكنه التنبؤ بما ستؤول إليه الأمور في سوق الشركات الناشئة العالمي، ولكنها لا تبدو مُبشِّرة. التحرك الآمن الآن هو أن تخطط دائما تحسُّبا للأسوأ، وأن يكون هدفك النهائي هو أن يبقى مشروعك على قيد الحياة حتى إذا حصلت على تمويل كبير، بدلا من وضع خطط خيالية للنمو والتوسع”.

كانت هذه السطور هي افتتاحية الرسالة الداخلية التي أرسلتها حاضنة الأعمال الافتراضية العالمية “واي كومبيناتور” (Ycombinator) إلى شبكة مؤسسي الشركات الناشئة الذين تحتضن مشاريعهم حول العالم، التي نشرتها الصحافة العالمية في نهاية مايو/أيار من العام الحالي. تلك الرسالة، التي وصفها البعض بـ”التشاؤمية”، جاءت لتدقّ جرس إنذار يُنبئ بقرب حدوث انهيارات مفاجئة للعديد من الشركات الناشئة حول العالم، بسبب مشكلات التضخم والركود والتباطؤ الاقتصادي العالمي.

 

ويبدو أن هذا “التشاؤم” كان واقعيا إلى حدٍّ بعيد. ففي إبريل/نيسان، قبل فترة قليلة من ظهور الرسالة، انهارت شركة “فاست” (Fast) الناشئة المتخصصة في الحجوزات الرقمية، بعد أن جمعت تمويلات ضخمة بقيمة 120 مليون دولار. بعدها بقليل، فوجئ الجميع بالإعلان عن انهيار مفاجئ لشركة “إيرليفت” (Airlift) الباكستانية للتجارة الإلكترونية والتوصيل السريع، وتسريح جميع موظفيها بعد أن جمعت تمويلات ضخمة تجاوزت 85 مليون دولار. أما شركة “باتلر” (Butler) للمطابخ السحابية والخدمات الفندقية، فقد أعلنت الإغلاق وتسريح 1000 موظف لديها فجأة، بعد أشهر قليلة من حصولها على تمويل بقيمة 50 مليون دولار. (1، 2)

 

خلال العام الحالي، أصبحت الشركات الناشئة، خصوصا تلك التي حصلت على تمويلات كبيرة تُتيح لها التمدد السريع في السوق، أشبه بناطحات سحاب شاهقة تتعرَّض لانهيارات مفاجئة. كان الجميع يترقب أثر هذه الأزمات على الشركات العربية الناشئة التي بدت متماسكة مُعظم الوقت، حتى جاءت الضربة المفاجئة في سوق الشركات الناشئة المصري هذه المرة.

 

البدايات مبشرة دائما

الأخوان نوح، مؤسسا شركة كابيتر (Capiter)، على اليمين محمود نوح، واليسار أحمد نوح (مواقع التواصل)

في بدايات عام 2020، تأسست شركة ناشئة جديدة في مصر تحمل اسم “كابيتر” (Capiter) بواسطة مجموعة من رواد الأعمال، على رأسهم “محمود نوح” الذي كان مؤسسا شريكا سابقا في شركة “سويفل” (SWVL) المصرية الناشئة للنقل التشاركي، والمُدرجة في بورصة ناسداك العالمية حاليا.

 

تعمل الشركة في مجال التجارة الإلكترونية، تحديدا بوصفها وسيطا في مجال السلع الاستهلاكية سريعة الدوران بين التجار والموردين من خلال تطبيقها الإلكتروني، بنموذج “Business to business” أو (B2B)، وتوفر لعملائها من التجار أو الموردين قدرا كبيرا من الخدمات والتسهيلات بما يشمل التوصيل والدفع الرقمي والدفع الآجل أحيانا. وقد استطاعت في بدايات تأسيسها جمع تمويلات بذرية (seed Fund) بقيمة 6 ملايين دولار، ما أتاح لها بدء عملياتها في السوق المصري.

 

ومع زيادة الطلب على هذا النوع من الخدمات في المنطقة، استطاعت شركة “كابيتر” أن تحصد تمويلا ضخما بقيمة 33 مليون دولار في الربع الأخير من عام 2021، وذلك بقيادة عدد من صناديق الاستثمار الجريء الكبرى في المنطقة، المصرية والإقليمية والعالمية، تشمل صندوق “MSA Capital”، وصندوق شروق بارتنرز وفاونديشن فينتشرز ودراية فينتشرز، وأيضا صندوق “Quona Capital” الأميركي، وصندوق شركة “صافولا” السعودية الرائدة في صناعات الأغذية والتجزئة.

 

هذا التمويل جعل شركة “كابيتر” ثاني أكبر لاعب في قطاع التجزئة والتوريد في مصر، بعد شركة “مكسب” (Maxab) التي تعمل في القطاع نفسه، وجمعت تمويلات أكثر من 60 مليون دولار حتى الآن. (3، 4)

 

تصريحات واعدة أكثر من اللازم

عقد كابيتر العديد من الاتفاقيات مع مؤسسات مصرفية وتجارية في مصر - وسائل التواصل 
عقدت كابيتر العديد من الاتفاقيات مع مؤسسات مصرفية وتجارية في مصر (مواقع التواصل)

خلال العامين الماضيين، توسَّع نشاط “كابيتر” إلى ألف شركة و6 آلاف وحدة لإدارة المخزون “Stock Keeping Units” أو (SKUs)، وأكثر من 50 ألف تاجر، وأسطول من الشاحنات يزيد على 400 شاحنة. كما أتاحت تطبيقها الإلكتروني الذي يُقدِّم لكل عميل وتاجر بيانات خاصة بمنتجاته وحجم المبيعات الذي يحققه وتفضيلات الشراء وحجم الإقبال. وخلال زمن قياسي، أتاحت “كابيتر” عبر منصتها آلاف المنتجات المختلفة بما فيها المنتجات الغذائية والبقالة والأدوية والمنتجات الزراعية والإلكترونيات، لجذب تجار التجزئة في مختلف المحافظات المصرية للتعامل مع الموردين.

 

مع توسُّع حجم أعمالها، أعلنت “كابيتر” أنها تستهدف الوصول -بحسب المصادر التي نقلت التصريحات- إلى مليار دولار إيرادات سنوية بحلول عام 2023، فضلا عن التوسع إلى 10 دول بحلول عام 2025. كما ذكرت أنها تعمل على توسيع المنتجات في منصاتها لتصل إلى 30 ألف منتج تغطي جميع المواد الغذائية والبقالة بحلول سنة 2023.

 

هذا التمويل الكبير وضع “كابيتر” ضمن قائمة أقوى الشركات المصرية الناشئة تمويلا في عام 2021، وأكثرها نشاطا وتوسعا في مجال التجارة الرقمية والتجزئة، وحجز مكانة كبيرة لعلامتها التجارية في السوق المصري مع قُرب إطلاق حملتها التوسعية في المنطقة العربية، وهو ما جعل المدير التنفيذي للشركة “محمود نوح” يُصرِّح بأن “كابيتر” تعمل على تلقي جولة استثمارية أخرى كبيرة خلال نهاية العام الحالي تُقدَّر بنحو 40 مليون دولار. (5، 6)

 

ثم جاءت الصدمة

مع هذه الوتيرة الحماسية من التصريحات والوعود بالتوسع والنمو، فوجئ الجميع في صباح الجمعة التاسع من سبتمبر/أيلول بآخر خبر يمكن توقُّعه، حيث ضجَّت وسائل التواصل الاجتماعي المصرية بالإعلان عن هروب مؤسسي شركة “كابيتر” خارج مصر. مَثَّل الخبر صدمة كبيرة في السوق الريادي المصري والعربي، خصوصا أنه جاء بصيغة تُشير إلى استيلاء الأخوين “نوح”، مؤسسي الشركة، على مبلغ ضخم من المال وسفرهما خارج البلاد، وهو ما اعتبره معظم المعلقين فضيحة كبيرة لسوق الشركات الناشئة المصري.

 

لاحقا، بدأت الأخبار الرسمية في الظهور للكشف عن واحدة من أكبر الأزمات المتفاقمة في الشركة المصرية الواعدة، التي كانت مختبئة وراء ستار من التصريحات البرّاقة بالإنجازات والتوسعات المرتقبة. كان التصريح الرسمي الأول من شركة “كابيتر” أن مجلس إدارة الشركة أصدر قرارا بعزل كلٍّ من الأخوين نوح من مهامهما الإدارية والتنفيذية يوم السادس من سبتمبر/أيلول، وتولي الرئيس التنفيذي المالي (CFO) للشركة منصب الرئيس التنفيذي (CEO) مؤقتا الفترة المقبلة.

 

وذكرت الشركة أن عزل المؤسسين كان بسبب تخلُّفهما عن التزاماتهما التنفيذية تجاه الشركة، إضافة إلى تخلُّفهما أيضا عن الحضور لمقابلة المستثمرين وممثلي مجلس الإدارة والمساهمين الذين جاؤوا لمقر الشركة عدة مرات، لمناقشة إجراءات الفحص النافي للجهالة (Due Diligence) -عملية إدارية غرضها مراجعة أرقام وأداء الشركة- بهدف دراسة صفقة اندماج محتملة للشركة مع كيانات أخرى. (5، 6)

 

ما الذي حدث؟

شركة كابيتر

حتى لحظة كتابة هذه السطور لا يزال المشهد ضبابيا، وإن كانت تحوم فيه بوضوح رائحة انهيار آخر لشركة ناشئة بسبب فشل الأداء الإداري خلال العام الحالي الذي لا يغفر أخطاء كهذه تقع فيها أي شركة ناشئة مهما كان مستوى تمويلها. بحسب “تيك كرنش”، شهدت بعض الشركات الناشئة المصرية موجة تسريحات لعدد من موظفيها خلال الشهور الماضية، ولكن لم يُعلَن عنها في الإعلام، ومن بينها شركة “كابيتر” التي قامت بتسريح 100 موظف خلال شهرين. (3)

 

وبحسب محمد أبو رية، مدير منشأة بشركة “كابيتر”، في تصريحات لعدة وسائل إعلامية، فقد بدأت الأزمة في الظهور خلال عام 2022 عندما بدأت الشركة في التخلف عن سداد مديونياتها الخاصة بشركات المقاولات التي تتعامل معها، وأيضا التخلف عن سداد رواتب الموظفين، والشروع في حملة تسريح عدد كبير منهم. أدى التخلف المستمر عن صرف الرواتب إلى قيام بعض موظفي المبيعات “بالاعتداء على مقرات الشركة”.

 

وبحسب معلومات شاركها رائد الأعمال وليد راشد، نقلا عن مسؤول مقرَّب من المؤسسين، فإن الشركة كانت تحقق خسائر ضخمة لدرجة أنه لم يعد لديها إلا نفقات شهر واحد فقط، وأن الأزمة المالية التي عصفت بالشركة اضطرت المؤسسين إلى أخذ قرض بضمان شخصي من البنوك بقيمة 3 ملايين دولار، تُمكِّنهم من الاستمرار في تشغيل الشركة بضعة أشهر حتى الحصول على جولة تمويلية جديدة، أو بيع الشركة للاندماج في شركة أخرى.

 

ومع تراجع الأرقام التي تحققها الشركة، فشلت كل المساعي في حصولها على تمويل جديد، كما فشلت أيضا في الوصول إلى حل بالبيع، على الرغم من تقدُّم شركتين سعودية وأردنية للاستحواذ عليها، فإن المستثمرين في الشركة رفضوا العرضين بسبب تدني قيمة الصفقة. (7)

 

فشل أم اختلاس؟ أم كلاهما؟

شركة كابيتر المصرية
محمود نوح (مواقع التواصل)

يبدو الأمر في حقيقته إذن أقرب إلى الفشل منه إلى الفساد أو الاختلاس. بحسب تعليق وليد راشد الذي نقل تصريحات من مسؤولين تنفيذيين كبار في الشركة، فقد تكون هناك شبهات مالية أو قانونية يتعرض لها الأخوان، ولكنها في الأساس أزمة تفوح منها رائحة الفشل الإداري أكثر من أي رائحة أخرى.

 

وبحسب ما رواه خالد شبل، أحد الموظفين في شركة “كابيتر”، ونقلت تصريحاته وسائل الإعلام المصرية، عندما استلمت الشركة تمويلا ضخما بقيمة 33 مليون دولار، فإن المؤسسين استغلوا هذه الأموال في تطوير الشركة دون دراسة محددة، وسط مستويات إنفاق عالية (Burn Rate) -اتفاقات مع موردين وعمليات بيع بالآجل وتسويق عالية التكلفة- بغرض الاستحواذ على السوق بسرعة، فقط من باب التشبه بالشركات الكبرى العالمية، وأنهم -بحسب رواية شبل- كانوا يطردون المُعترضين على سياساتهم فورا.

 

يقول المطلعون أيضا إن الشركة أهدرت نفقات هائلة في التوسع في تعيين الموظفين في جميع القطاعات، وأيضا الإنفاق على الكماليات التأسيسية لمقرات الشركة وتجهيز المعدات والمفروشات غير الضرورية فقط للتباهي أمام المستثمرين والمساهمين، وإنها فشلت في دراسة السوق المصري بشكل صحيح، وكان هدفها طول الوقت تحقيق التوسع (Growth) على حساب تحقيق “الأرباح”.

 

هذه السياسة الإدارية قادت إلى تفاقم الأزمة المالية في “كابيتر”، بداية من عدم القدرة على سداد المديونيات للشركات التي تتعاون معها الشركة، مرورا بالتأخُّر في سداد رواتب العاملين، وانتهاء باستبعاد عدد كبير منهم بشكل مفاجئ في جميع الدرجات الوظيفية، واستبدالهم بعدد من الموظفين الهنود والباكستانيين برواتب أقل، حتى وصلت الأمور إلى طريق مسدود.

 

كما أشارت التقارير إلى حدوث اهتزاز كبير في التواصل بين قسم الموارد البشرية (HR) مع الموظفين في كل القطاعات، وأن أحد المديرين أخبر الموظفين فجأة بضرورة العثور على وظيفة أخرى. لاحقا، ومع تواصل الموظفين مع مؤسسي الشركة، اكتشفوا أن جميع حسابات مؤسسي الشركة غير مُفعَّلة، وأنهم اختفوا فجأة عن التواصل حتى وصلهم جميعا خبر سفرهم إلى الخارج.

 

وبحسب أبو رية في حديثه لصحف محلية، فإن محمود نوح، مؤسس الشركة ومديرها التنفيذي، قام قبل أسبوع من تفجر الأزمة بفصل مدير الحسابات، وحجب جميع حسابات الشركة للتصرف فرديا “دون أن يستطيع أحد تعقبه أو معرفة مصير أموال الشركة”. (6، 7)

 

صرفنا الـ 33 مليون دولار

وفي أول ظهور له، قال محمود نوح، المدير التنفيذي المعزول من إدارة شركة “كابيتر”، إنه لم يختلس الـ 33 مليون دولار ويهرب بها كما أشاعت وسائل التواصل الاجتماعي، وإنها أُنفِقت كلها على أعمال الشركة. وعزا الانهيار الحالي في أداء الشركة في السوق المصري إلى نتائج الحرب بين روسيا وأوكرانيا وأزمة التضخم العالمي والتباطؤ الاقتصادي الذي أثَّر بشكل حاد في أداء الشركة وخططها التوسعية. كما ذكر نوح أنه قد غادر مصر بهدف التعامل مع المستثمرين وليس الهرب كما أُشيع، وأنه يتواصل مع مجلس الإدارة الحالي لحل جميع المشكلات العالقة، وأنه غير مُدان قانونيا في أية قضايا. (8)

 

في النهاية، ورغم أن قصة صعود وهبوط شركة “كابيتر” المصرية الناشئة ما زالت تحتوي الكثير من التفاصيل التي ستكشفها الأيام المقبلة، خصوصا مع الظهور المتوقع قريبا للإخوة المؤسسين لشرح ما حدث بالضبط بشكل موسَّع، فإنها تظل نموذجا لانهيار آخر مفاجئ لشركة ناشئة واعدة حصدت عشرات الملايين من الدولارات، لتنضم إلى قائمة الشركات الناشئة حول العالم التي تموت فجأة بسبب الفشل الإداري في عام التضخم والتباطؤ الاقتصادي الذي لا يرحم.

————————————————————————————————————-

المصادر:

1 – الأيام السعيدة ولَّت.. كيف يؤثر التضخم والحرب على تمويل الشركات الناشئة؟

2 – أزمة توظيف تجتاح العالم.. لماذا تستبعد الشركات الناشئة الآلاف من موظفيها؟

3 – Founders of well-funded Egyptian B2B startup Capiter fired following fraud allegations

4 – أنباء حول عزل مؤسسي شركة كابيتر المصرية الناشئة للتجارة الاليكترونية بعد جمعها تمويلات بقيمة 33 مليون دولار

5 – بعد أزمتها الأخيرة.. تعرف على أنشطة شركة كابيتر للتجارة الإلكترونية

6 – قصة صعود وهبوط كابيتر.. وحكاية الـ33 مليون دولار وعزل الأخوين من مناصبهم بالشركة

7 – كابيتر للتجارة الإلكترونية.. موظفو الشركة يكشفون حقيقة السقوط الغامض

8 – «أنا مش هارب وصرفنا 33 مليون دولار».. أول تعليق من محمود نوح رئيس شركة كابيتر


المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply