هل تسعى الولايات المتحدة إلى حرق المراحل، وتعجيل تفجير الأوضاع على الجبهة الصينية، وإشعال بؤرة دولية ثانية في جنوب شرق الكرة الأرضية، قبل إطفاء البؤرة المشتعلة في أوكرانيا (شرق أوروبا)؛ لتزيد من وطأة الأزمات الاقتصادية والتجارية العالمية، ووطأة النتائج والآثار المترتبة على هذه الأزمات؟

هل تتحرك الإدارة الأميركية حاليا على الصعيدين الروسي والصيني، وفقا لخطة إستراتيجية واضحة ومحددة؟ أم أن ما يصدر عنها في الآونة الأخيرة عبارة عن تخبطات غير مدروسة، نتيجة خيارات غير محسومة؟ أم أنها سياسة “الغموض الإستراتيجي” التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن؟

لجوء الرئيس بايدن إلى سياسة الوضوح الإستراتيجي مع الصين بدل سياسة الغموض الإستراتيجي السابقة يشير إلى رغبته في احتواء الطموح الصيني الرامي إلى تغيير النظام الدولي، وإنهاء النظام أحادي القطبية الذي تتربع عليه الولايات المتحدة، وهذه السياسة تنسجم تماما مع تقارير وزارة الدفاع الأميركية وقرارات حلف الناتو

لقد تصاعدت الأحداث في الأيام القليلة الماضية بشكل لافت ومتسارع على جبهتي الصين وروسيا؛ فمن جهة يزداد الدعم الأميركي المسلح لأوكرانيا خارج الموازنة المقررة، بتأييد من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، مع تقديم أسلحة ومعدات متطورة، بدأت تثير الهلع من احتمال توسيع مجال الحرب مع روسيا، وخروجها عن السيطرة بصورة مفاجئة، تتجاوز حسابات الطرفين لمراحل الحرب وأهدافها ونتائجها. وفي المقابل، أثارت الزيارة المفاجئة التي قامت بها رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي لتايوان، وإعلانها أن الولايات المتحدة ستدافع عن تايوان إذا تعرضت لهجوم عسكري صيني؛ العديد من المخاوف من أن تنجرف الأمور إلى حافة هاوية الحرب السحيقة التي ستعيد تشكيل العالم من جديد، خاصة في ضوء رد الفعل الحازم من الصين تجاه هذه الزيارة، التي تعدّها تجاوزًا لإعلان الصين الواحدة المتفق عليه مع الولايات المتحدة، والذي يؤكد تبعية تايوان للصين.

من الغموض الإستراتيجي إلى الوضوح الإستراتيجي

في أعقاب زيارته لكل من كوريا الجنوبية واليابان أواخر مايو/أيار الماضي، قال الرئيس الأميركي إن الولايات المتحدة الأميركية ستتدخل عسكريًّا للدفاع عن تايوان إذا تعرضت لهجوم من الصين، وإن هذا هو الالتزام الذي قطعته إدارته على نفسها. وأحدث هذا التصريح ارتباكًا في البيت الأبيض نظرًا لتعارضه مع سياسة الولايات المتحدة طويلة الأمد بشأن تايوان، والقاضية باعتبار تايوان جزءا من الصين.

وفي محاولة من مسؤولي البيت الأبيض لمعالجة هذا الموقف، قالوا إن السياسة الأميركية بشأن هذه المسألة لا تزال سياسة “غموض إستراتيجي”، وقال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إنه لم يطرأ أي تغيير على سياسة الولايات المتحدة بشأن تايوان، التي تتفق مع سياسات الإدارات الأميركية السابقة. إلا أن هذه المعالجات لم تنفِ سياسة الوضوح الإستراتيجي التي يتبعها الرئيس بايدن، الذي أكد مرارًا هذا الموقف من قبل ومن وبعد، وقامت بتأكيده نانسي بيلوسي أثناء زيارتها لتايوان مؤخرًا.

ويأتي هذا الوضوح الإستراتيجي امتدادا لسياسات عدة إدارات سابقة، آخرها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي أقر قانون تفويض الدفاع الوطني لعام 2020، مؤكدًا أن الولايات المتحدة “ستعزز التعاون الدفاعي والأمني ​​مع تايوان لدعم تطوير قواتها لتكون قادرة وجاهزة وحديثة، إضافة إلى تقديم المشرعين الجمهوريين مشاريع قوانين خاصة بتايوان عام 2019 منها “قانون الدفاع عن تايوان”، وفي عام 2020 “قانون منع غزو تايوان”، وتفويض الرئيس لـ”استخدام القوات المسلحة للدفاع عن تايوان ضد هجوم مباشر من قبل الجيش الصيني، أو استيلاء الصين على أراضي تايوان، أو تهديد حياة المدنيين في تايوان أو أفراد الجيش التايواني”.

ويشير تبنّي الرئيس بايدن لسياسة الوضوح الإستراتيجي إلى عدة احتمالات، أبرزها:

  • التعبير عن مدى التوتر الذي وصلت إليه علاقة الولايات المتحدة مع الصين، بسبب تهديدها النظام والاستقرار الدوليين، على حد قولها.
  • استفزاز الصين، واستدراجها للقيام بعمل عسكري على نحو ما حدث مع روسيا في أوكرانيا.
  • إظهار جدية الولايات المتحدة للدخول في مواجهة عسكرية مع الصين إذا هاجمت تايوان.
  • الشروع في تنفيذ خطة الرئيس بايدن في احتواء الطموح الصيني الرامي إلى تغيير النظام الدولي، وإنهاء النظام أحادي القطبية الذي تتربع عليه الولايات المتحدة.

هذه السياسة تنسجم تماما مع تقارير وزارة الدفاع الأميركية وقرارات حلف الناتو.

منذ تطبيع العلاقات الأميركية-الصينية عام 1979، انتهجت الإدارات الأميركية سياسة الغموض الإستراتيجي تجاه تايوان، والقاضي بالاعتراف بالصين الواحدة، مع الحفاظ على علاقات واسعة وقوية مع تايوان، والسعي لتقرير مستقبلها مع الصين بالطرق السلمية، من دون اتخاذ موقف واضح من طبيعة الدور الذي ستقوم به الولايات المتحدة عند قيام الصين بغزو تايوان.

ونجحت هذه السياسة في تأخير قيام الصين بأي عمل عسكري لضم تايوان، إلى يومنا هذا، وإلى تطوير العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة والصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم) في العديد من المجالات. غير أن الموقف الصيني الحالي عسكريا وتكنولوجيا واقتصاديا ودوليا لم يكن على ما كانت عليه في العقود التي تلت توقيع اتفاقية تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة. الصين التي بدأت تتخذ في السنوات الأخيرة مواقف أكثر حدة وحزما في ما يتعلق بمصالحها الإستراتيجية.

قارعو طبول الحرب يطالبون الرئيس بايدن بمواجهة الصين، وعدم الانتظار حتى تنتهي الحرب في أوكرانيا، من دون اكتراث بالثمن الذي سيدفعه العالم في هذه الحروب، وما سيترتب عليها، وما قد تنتهي إليه

الحرب المزدوجة

التحركات العسكرية التي تقوم بها الولايات المتحدة حاليا كثيفة جدا مقارنة بالتحركات السياسية، التي غالبا ما تنحصر في بناء التحالفات والشراكات الدولية لمواجهة الصين وروسيا، وليس من أجل إيقاف الحرب في أوكرانيا، وابتكار حلول سياسية توفيقية تجنب العالم المزيد من الأزمات والضحايا والدمار والأزمات، وهذا يشير -بما لا يدع مجالا للشك- إلى أن الولايات المتحدة تستعد للحرب، وأن الحرب أصبحت مطلبًا إستراتيجيًّا لتعزيز مكانة الولايات المتحدة وتحكمها في النظام الدولي القائم على القواعد؛ القواعد التي سيتم الإعلان عن تفاصيلها بصورة جديدة عندما يحين الوقت المناسب لذلك، والذي جرت العادة أن يكون بعد أن تضع الحرب أوزارها.

فهل ستحرق الولايات المتحدة عددًا من المراحل لتعجّل بجرّ الصين إلى الحرب في تايوان، قبل أن تنتهي الحرب في أوكرانيا؟ وهذا يعني أن تدير جبهتين في وقت واحد؟

أم ستتمهل الولايات المتحدة لحين انتهاء الحرب في أوكرانيا، والتحقق من أن أهدافها الإستراتيجية من وراء هذه الحرب قد تحققت أو أنها باءت بالفشل الكلي أو الجزئي؟

وهل ستبقى الصين تراقب ما يحدث في أوكرانيا، أم أنها ستتحرك بخطى سريعة لبناء تحالفات وشراكات جديدة مع روسيا والدول المعارضة للهيمنة الغربية على النظام الدولي؟

يعتقد وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر -في مقابلة صحفية مؤخرا- أنه ليس هناك شيء يمكن تحقيقه من خلال المواجهات التي لا نهاية لها بين الولايات المتحدة والصين، وقال إن العلاقات العدائية المتزايدة بينهما تخاطر بحدوث كارثة عالمية مماثلة للحرب العالمية الأولى، وإن الجغرافيا السياسية تتطلب اليوم “مرونة نيكسون” للمساعدة في نزع فتيل الصراعات بين الولايات المتحدة والصين وكذلك بين روسيا وبقية أوروبا.

وبينما حذر كيسنجر من أن الصين لا ينبغي أن تصبح قوة مهيمنة عالمية، فإنه طالب الرئيس جو بايدن بأن يكون حذرًا من السماح للسياسات المحلية بالتدخل في أهمية فهم مصالح الصين.

ومع ذلك، فإن نصائح كيسنجر التي قدمها للرئيس بايدن وإدارته لم تجدِ نفعًا في دفعها لإيجاد حل سياسي يوقف الهجوم الروسي على أوكرانيا، واستمر قارعو طبول الحرب في قرع طبولهم وتشجيع الحزبين الجمهوري والديمقراطي والشارع الأميركي على تأييد موقف إدارة بايدن المساند لمطالب أوكرانيا في الانضمام لحلف الناتو، ومواجهة روسيا. قارعو الطبول هؤلاء يطالبون الرئيس بايدن بمواجهة الصين، وعدم الانتظار حتى تنتهي الحرب في أوكرانيا، من دون اكتراث بالثمن الذي سيدفعه العالم في هذه الحروب وما سيترتب عليها وما قد تنتهي إليه.

(يتبع)… هل ستكون تايوان أوكرانيا 2؟

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply