الموضوعية مبدأ تتفق عليه مواثيق أخلاقيات الصحافة والإعلام، وهي كلمة مرادفة للحياد وعدم الانحياز والتجرد. وتأتي أهمية الموضوعية من الاعتقاد بأن المراقب المتجرد أو الموضوعي يستطيع أن يقدم رواية أدق أو رواية موثوقًا بها عن الأحداث؛ وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس طرفًا في ما يجري، كما أنه ليس له مصلحة خاصة في طريقة روايتها أو ما يترتب عليها.

ولكن الموضوعية -كما بيّنت في مقال سابق- مفهوم إشكالي، وهي في العصر الرقمي أكثر تعقيدًا؛ لأمور ألخصها في ثلاثة:

الأول: أنه لا وجود لشخص متجرد من كل أفكاره ومشاعره، وغير متفاعل مع موضوعه بأي نوع من أنواع التفاعل؛ فهناك انحيازات إنسانية طبيعية، ومشاعر وعواطف، وانتماء مكاني وديني، وهناك أفكار وأيديولوجيات تحرك البشر وتؤثر في تقويماتهم وأفعالهم. ونظرًا لتنوع التغطية الصحفية وشمولها، فإن الصحفي قد يتطرق إلى موضوعات هو طرف فيها بوجه من الوجوه وإن لم ينتم إلى فريق أيديولوجي أو سياسي، خصوصًا إذا كان يغطي شأنًا محليًّا.

الثاني: أن العالم الرقمي يوفر سلطة أوسع قادرة على التحكم والمنع عبر الخوارزميات وتقنيات الذكاء الصناعي. والذكاء الصناعي ليس مسألة تقنية منزهة عن التحيز البشري، لأنها نتاج جهد بشري وبرمجة بشرية تتحكم فيها جملة من المعطيات، كما أن الشركات التي تتحكم بهذه التقنيات ومنصات التواصل والمؤسسات الإعلامية الكبرى تنتمي إلى جغرافيا محددة ومحدودة جدًّا لا تتوفر فيها العدالة والتوازن.

الثالث: أن الانتقال من الصحافة التقليدية إلى الصحافة الرقمية فرض جملة تحديات على العمل الصحفي لم تكن مطروحة في الصحافة التقليدية، فوسائل التواصل الاجتماعي مثلًا اتّسمت بأمرين أساسيين: أولهما انفتاح مصادر الأخبار والمعلومات وتعدديتها، وهي تتفاوت جدًّا في مهنيتها وموثوقيتها، وثانيهما انتقال الجمهور من مجرد متلق سلبي إلى طرف فاعل ومسهم في صناعة الخبر أو نقله.

ثمة معنى عام متفق عليه، هو أهمية التمييز بين الحكم العقلي والحكم العاطفي أو الأيديولوجي. فالحكم العاطفي أو الأيديولوجي هو الحكم غير القادر على رؤية الواقع إلا من خلال قوالب محددة سابقًا، سواء وضعها الصحفي لنفسه أم وضعتها له المؤسسة التي يعمل بها.

ومن جملة التحديات التي فرضها هذا التحول على الصحفي 3 أمور:

الأول: حدود دوره الذي تقلص مع ممارسة أطراف أخرى للعمل الصحفي أو ما يشبه العمل الصحفي، فعمله لم يعد قاصرًا على مجرد الرواية والقصّ، وإنما بات عليه أيضًا أن يمارس عملًا نقديًّا من جهتين: جهة تمحيص مصادره التي باتت محفوفة بمزيد من التحديات، وجهة نقده للروايات الأخرى المتداولة عبر المنصات الأخرى بعد الإحاطة بها.

الثاني: معرفة جمهوره والاستجابة للتحديات التي يفرضها عليه، فلم يعد الصحفي يروي لجمهور خالي الذهن، بل لجمهور لديه معلومات مضادة أو مختلفة وغير ممحصة، وهذا سيفرض مسؤولية أكبر في كيفية صياغته لروايته وحججه في إثبات دقتها كذلك، وتفنيد الروايات أو التفاصيل غير الصحيحة.

الثالث: معرفة موازين القوى وتقنيات التلاعب بالمعلومات وصناعة الرأي العام أو التوجهات (trend) حتى لا يتورط في نقلها أو المشاركة فيها، أو إعادة نشرها، وأن يتعامل معها بنقدية عالية لجهتين: جهة تقنيات صناعتها واختبارها، وجهة نقد مضمونها أيضًا.

ويمكن للعمل الصحفي المهني أن يستعيد فاعليته ودوره المهم والمحترف من خلال 4 أمور:

  • وضع المعايير، وعقلنة الرواية الصحفية والتمحيص، وتعليل التحيزات الأخلاقية وغير الأخلاقية، والكشف عنها وإدارة النقاش العلني حولها.
  • التقويم والنقد لوسائل التواصل الاجتماعي والجهات المسهمة في بث الروايات المختلفة للواقع، والكشف عن الزائف وغير الزائف منها، ومعايير ذلك.
  • الكشف عن تحيزات السلطة وقوى الهيمنة وأساليبها في فرض توجهات معينة وغير معبرة عن الجمهور حقيقة.
  • المراقبة والضبط في مجال رواية الواقع بدقة وتقنيات التلاعب به التي تطورت في العالم الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي.

ورغم هذه التعقيدات التي تسم الموضوعية في العصر الرقمي، ثمة معنى عام متفق عليه، هو أهمية التمييز بين الحكم العقلي والحكم العاطفي أو الأيديولوجي. فالحكم العاطفي أو الأيديولوجي هو الحكم غير القادر على رؤية الواقع إلا من خلال قوالب محددة سابقًا، سواء وضعها الصحفي لنفسه أم وضعتها له المؤسسة التي يعمل بها. وإذا كانت هذه التعقيدات تنفي وجود فكرة الموضوعية المثالية، فإن على الصحفي أن يتحلى بما أسميه “الموضوعية المنضبطة”، أي المحكومة بمعايير شفافة. فالموضوعية المنضبطة لا تنفي مطلق التحيز، ولكنها تعترف بوجود تحيزات مرتبطة بقيم محددة؛ فميزة الموضوعية المنضبطة أنها تفصح عن تحيزاتها، فتُخرجها من دائرة المسكوت عنه أو المخفي إلى دائرة المعقلن عبر تقديم تسويغات لهذه التحيزات، تنسجم مع مرجعياتها وثوابتها.

ولكن ما المعايير الضابطة لتحيزات الصحفي ومؤسسته؟ تستند الموضوعية المنضبطة إلى معايير قويمة، ونعني بقويمة هنا الانضباط والاتساق والقابلية للتطبيق باستقامة من دون تلوّن، أي الابتعاد عن التفضيلات الخاصة التي تختلف فيها المصالح ووجهات النظر الشخصية والسياسية. ويمكن ضبط هذه المعايير -من وجهة نظري- بـ3 معايير رئيسة هي:

الاستناد إلى مبادئ أخلاقية واضحة ومتفق عليها، كالتحيز لجانب القيم الإنسانية مثلًا، كعدم انتهاك خصوصيات الأفراد، والتحيز إلى فئة المستضعفين، لأن الصحافة يُفترض بها ألا تخدم فئة أصحاب القوة والنفوذ، وكالتحيز للقضايا العادلة والأخلاقية الواضحة، كمقاومة الاحتلال والاستبداد. فهذه مسائل لا تعبّر عن وجهات نظر، كما لا تعبر عن مسائل خلافية، كما أنه لا يُقبل فيها الحياد والتجرد التام، لأن الحياد هنا موقف غير أخلاقي يتنافى مع قيم العمل الصحفي نفسها القائمة على نقل الواقع، والكشف والاستقصاء، والنقد والمساءلة.

ألا يترتب على هذا الانحياز إخلال بقيم أخرى متفق عليها؟ فلا يجوز أن يختلق وقائع أو يبالغ في تفاصيل تحت ذريعة الانحياز إلى القيم السابقة، فلا يمكن خدمة قضية عادلة عبر الإخلال بقيمة الصدق والدقة والأمانة في رواية الواقع كما هو، فالصحفي ليس ناشطًا ولا مناضلًا في سبيل قضية، وإنما راوٍ يجب أن يتوفر فيه وفي روايته من الصفات ما يضمن تحقق الصفة الأخلاقية في شخصه وفي روايته معًا.

ثم الإن الاستثمار في نقل الواقع أو في نصرة قضية ما من شأنه أن يخلّ بأخلاقية العمل الصحفي إذا ما تحوّل الاستثمار إلى المقصود بالقصد الأول من التغطية، بمعنى أن المحرك الأول والرئيس هو المصلحة وليس العمل الصحفي المهني، وهذا سيقود بالضرورة إلى الصمت في مواضع أخرى؛ خدمة للمصلحة التي من سماتها التبدل والتعارض، على حين لو كان الاستثمار مقصودًا بالقصد الثاني أو التبعيّ فستبقى المصلحة القاصرة محكومة إلى قيمة أعلى منها وهي ما يحدد مهنية العمل الصحفي من عدمها. قد يواجه الصحفي بعض التحديات في تنزيل هذه المعايير الكلية على الممارسة الميدانية الجزئية، ومن ثم فلا بد من الجمع بين تقاليد المهنة الصحفية كما تشكلت عبر الممارسة الطويلة من جهة، والسياسة التحريرية الخاصة بالمؤسسة التي يعمل فيها من جهة أخرى؛ بحيث يكون هناك انسجام بين عمل الصحفي ومؤسسته من دون تنافر، وذلك لضمان أكبر قدر ممكن من الاتساق والبعد عن التحيزات الشخصية للصحفي أو تحيزات المؤسسة في ميدان التطبيق على الوقائع الجزئية المحددة.

ولضمان ذلك، يجب أن تخضع هذه المعايير وتطبيقاتها لنقاش عام داخل المؤسسة وبين الصحفيين، وأن يُفصح عنها للجمهور بحيث يكون هناك بيان للمعايير التي تلتزم بها المؤسسة الصحفية والعاملون فيها، بخاصة في القضايا السياسية الجدلية، ومن ثم يتحول النقاش من نقاش حول مبدأ الموضوعية المجرد إلى نقاش حول اختيارات كل مؤسسة وتعليلاتها لتحيزاتها، ومدى دقتها في تطبيقها لها على الوقائع المختلفة، أي إن النقاش سينتقل من نقاش حول التجرد كمفهوم مطلق إلى نقاش حول مدى تماسك التسويغات التي تقدمها كل مؤسسة لتحيزاتها، الأمر الذي سيضعنا في قلب ما أسميه التعليل الأخلاقي للفعل الصحفي ومصادر هذا التعليل ومدى متانة الحجج التي يقدمها لتحيزاته.

من شأن هذه المعايير أن توضح الفرق بين وسائل الإعلام المختلفة، ودرجة تحيزها، والمسافة التي تفصل بين المهني وغير المهني. فالمهني يحركه المحددات التي تفرضها تقاليد المهنة نفسها من حيث المهام الواجبة وإدارة العلاقة مع السلطة، وأساليب صياغة الخبر، ووضع السياسة التحريرية، والقيم التي تحكم عمله، خاصة في الوقائع الخلافية والجدلية، وغير ذلك. فنفي وجود الموضوعية المثالية أو إثبات التحيز لدى الجميع وإن بدرجات متفاوتة لا يُلغي المسافة الفجة التي تفصل -بوضوح- بين العمل الصحفي المهني والدعاية والتطبيل السياسي الذي يأتمر بأمر السلطة أو ينطق باسمها ويعمل على خدمتها.

تفرض هذه المعايير أيضًا التيقظ في استعمال اللغة الصحفية (خاصة المصطلحات والمفاهيم) التي يجب أن تخضع للنقاش العام وللمعايير السابقة بحيث تتجنب استعمال مصطلحات تنطوي على موقف قبْلي، كما تتجنب الصمت والتعتيم على جوانب محددة من الواقع من شأنها أن تؤثر في سلامة السرد ودقة الرواية الصحفية، وأن تتجنب الصياغة المختزلة للواقع التي لا تعطي الصورة الكاملة (الخبر والسياق معًا).

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply