غرفة تُطل على الشارع الرئيسي هي حلم للبعض، عادة ما تكون مرتفعة الأجر لأن البشر يربطون حياتهم دائما بالقرب من مراكز النقل والمواصلات، فتجد أنه كلما اقتربنا من وسط المدينة ترتفع أسعار كل شيء، بل إنه في بعض المدن مثل أوتاوا أو أونتاريو في كندا، تكون أسعار ركن السيارات وسط المدينة مرتفعة جدا لدرجة أن المواصلات العامة تصبح الخيار المُفضَّل حتى لكبار المديرين!

لكن في هذا السياق، فإننا عادة ما نهمل نقطة مهمة جدا تتعلق بالضجيج، أنصت قليلا معنا، هل تسمع شيئا؟ إذا كنت تقرأ هذا التقرير نهارا فلا بد أن شيئا ما حدث في الخلفية، صوت سيارة تمر أو بوق مرتفع، أحدهم يهتف في الشارع، أو ربما هي طائرة تمر بالأعلى إذا كنت في إحدى العواصم، تلازمنا هذه الأصوات في كل مكان، عند الاستيقاظ والنوم، عند تناول الطعام أو مشاهدة التلفاز، في العمل والمنزل، وحتى عند زيارة مدينة ساحلية للاستجمام، لكن ما لا تعرفه أن هذه الأصوات تؤثر فيك بشكل أعمق مما قد تظن.

تنبأ “روبرت كوخ” عام 1910 بمستقبل الضوضاء على الأرض قائلا: “يوما ما سيتعين على البشر أن يقاتلوا الضجيج بشراسةِ قتالهم الكوليرا والطاعون”.

منذ أكثر من قرن، وتحديدا عام 1910، تنبأ عالم الأحياء الدقيقة الحاصل جائزة على نوبل في الطب وأول مَن ربط البكتيريا بمرض معين(1) “روبرت كوخ” بمستقبل الضوضاء على الأرض قائلا: “يوما ما سيتعين على البشر أن يقاتلوا الضجيج بشراسةِ قتالهم الكوليرا والطاعون”(2).

لم يكن “كوخ” الوحيد الذي أدرك خطر الضجيج، فقد خصص عالم الصوتيات النفسية المرموق “كارل كايتر” كتابا كاملا “The Effects of Noise on Man” صدر عام 1970، يُحذّر فيه عن خطر الضجيج على صحة البشر(3)، إضافة إلى مجموعة كبيرة من الأبحاث والمراجعات البحثية المنهجية التي تتقصى آثار الضجيج على الصحة الجسدية والنفسية. وبحسب إحصائيات الوكالة الأوروبية للبيئة، فإن هناك أكثر من 100 مليون شخص في أوروبا تضرروا صحيا من الضجيج، إضافة إلى 48 ألف حالة إصابة جديدة بأمراض القلب، و12 ألف حالة موت مبكر سنويا في أوروبا للسبب نفسه(4).

كتاب “آثار الضوضاء على الإنسان” لـ”كارل كايتر”

هجوم الضجيج

يشمل الصوت الإشارات التي يلتقطها الجهاز السمعي عبر الأذن، لكنه لا يقتصر عليها، فبعض الأصوات يعجز جهازنا السمعي عن استشعارها، أما الضجيج فهو صوت أو مجموعة من الأصوات غير المرغوبة، والتي تؤثر سلبيا على البشر، وتحديدا على صحتهم الجسدية والنفسية، وهو يشمل الضجيج الناتج عن وسائل المواصلات كالسيارات والقطارات والطائرات، والناتج عن المحطات الصناعية، وأعمال البناء والحفر، وحتى الضجيج داخل المباني بسبب الأجهزة والمعدات التشغيلية للمصانع أو المؤسسات، إضافة لضجيج الجيران مثل أصوات الموسيقى والصراخ وخطوات الأقدام.

حسنا، قد تبدو هذه أمورا هينة بمفردها، لكن تأثيرها معا ليس هينا. تشير مراجعة بحثية تقصًّت تأثير الضجيج على الصحة الجسدية، وتحديدا صحة الأوعية الدموية، نفذها مجموعة من الباحثين بجامعتَي “بنسيلفانيا” الأميركية و”جونز غوتنبرغ ماينز” والوكالة البيئية الفيدرالية(5)، أن محاكاة الضوضاء الموجودة في الحياة الواقعية داخل المختبرات العلمية تسببت في زيادة ضغط الدم، وسرعة نبضات القلب؛ وذلك نتيجة إفراز هرمونات الإجهاد التي تُحدِث ردة الفعل هذه في الجسم، وأكدوا أن هذا التأثير لا يحدث فقط بسبب المستويات العالية من الضجيج، بل أيضا في المستويات المنخفضة إن تسببت هذه المستويات في خلل بالتركيز أو الراحة أو النوم لدى الأشخاص.

وفيما يخص الضجيج الذي يحدث خلال فترات المساء، أكد الباحثون أنه يؤدي إلى حدوث خلل في وظائف الشرايين واضطراب نبضات القلب؛ وهو ما يشكل خطرا أيضا على المرضى الذين يعانون من أمراض الشرايين الوعائية أو أمراض القلب أو ارتفاع ضغط الدم، ومن ثم يزيد من احتمالية حدوث ارتفاع ضغط الدم والنوبات القلبية.

ننتقل إلى دراسة أخرى ركزت على تأثير الضجيج على النوم(6)، وأوضحت أن جسم الشخص النائم يستجيب للمحفزات القادمة من البيئة. فعلى الرغم من اختلاف حساسية جسم النائم للضجيج من شخص لآخر بحسب عوامل مرتبطة بالشخص كالعمر والجنس وحساسية الشخص للضجيج، فإن هناك عوامل أخرى مؤثرة وترتبط بالضجيج، مثل نوع الضجيج (مستمر أو متقطع أو مندفع) وشدة الضجيج وتردده ومدته.

تشمل التأثيرات السلبية للضجيج على النوم اضطراب النوم، واليقظة خلال الليل، وتغيير مراحل النوم ومدته، وطول المدة اللازمة للدخول في النوم، وسوء جودة النوم، والاستيقاظ المبكر. وتزداد التأثيرات السلبية بزيادة مرات التعرض للضجيج، وارتفاع شدته، وطول مدة التعرض له، كل ذلك يؤثر على يقظة الشخص خلال اليوم فيؤدي لنومه في أوقات لم يعتد النوم فيها أو إلى شعوره بالتعب، وإلى حدوث اضطرابات سلوكية، وحرمان نوم مزمن، وزيادة نوبات الغضب، ونقص التركيز، وانخفاض القدرة على العمل(7).

ماذا عن تأثير الضجيج على آذاننا وقدراتنا السمعية؟ أوضحت بيانات مراكز السيطرة على الأمراض والحماية منها(Centers for Disease Control and Prevention) (8) أن بعض الأصوات والضجيج يعتبر آمنا، مثل الأصوات المنخفضة الرقيقة، وصوت التنفس، ودقات الساعة، والهمس، وصوت الثلاجة، والمحادثة الطبيعية بين شخصين، وأجهزة التكييف، حيث لا يسبب أي منها ضررا في السمع، لكونها تندرج تحت مستوى صوت ٦٠ ديسيبل (وحدة قياس الصوت)، يلي ذلك الضجيج المسموع من محرك السيارة أو صوت غسالة الملابس أو الأطباق، فهو يسبب الإزعاج بسبب وصول مستوى الصوت بين 70-85 ديسيبل، أما مصادر الضجيج الذي يزيد فيها مستوى الصوت عن ذلك الحد فهي تسبب تضرر السمع بعد دقائق أو ساعات من التعرض لها، مثل أجهزة جز العشب ومنفاخ الأوراق (بعد ساعتين من التعرض للضجيج)، والدراجات النارية (بعد 50 دقيقة).

ربما لا تصدق ذلك، لكن هناك احتمالا أن يصاب أحدنا بفقدان السمع بعد 15 دقيقة من التعرض لضجيج قطارات السكك الحديدية على مسافة قريبة (5 أمتار)، أو خلال الفعاليات الرياضية كالمباريات، أو بعد أقل من 5 دقائق من التعرض لأعلى مستوى للصوت في أجهزة الاستماع أو الراديو أو مكبرات الصوت أو التلفاز، وبعد أقل من دقيقتين من التعرض لصراخ أو نباح مباشر في الأذن، ويتطور الأمر لحدوث ألم وإصابة في الأذن بعد التعرض لضجيج مباشر على مسافة قريبة جدا من صافرات الإنذار أو أجسام متفجرة.

درع الحماية

ينصح الأطباء أن يحاول الأشخاص حماية أنفسهم من مصادر الضجيج المختلفة عبر عدة وسائل، أولها يبدأ من المنزل. تركز النصائح هنا على تفقد أماكن الأجهزة الكهربائية، كالثلاجة وغسالة الصحون وغسالة الملابس، وإبعادها عن الجدران المشتركة، واستخدام سجاد أو بساط مطاطي تحتها لتقليل الاهتزاز الناتج عنها، واستخدام هذه الأجهزة أو غيرها كالمكنسة الكهربائية خلال ساعات النهار المعتادة، وتفادي ساعات الليل أو الصباح الباكر، مع الاكتفاء بإغلاق باب الغرفة أو المكان الذي يُستخدَم فيه الجهاز المصدر للضجيج لتفادي الحاجة إلى إحداث ضجيج آخر كصوت التلفاز للتغطية على صوت الجهاز المستخدم، كما يُفضّل اختيار الأجهزة التي تتوفر فيها ميزة الصوت المنخفض عند الشراء، أو ضبط هذه الأجهزة على الأوضاع التي تصدر مستوى أقل من الضجيج(9).

هناك بعض السلوكيات الأخرى التي تُسهم في تقليل الضجيج داخل المنزل، مثل تفادي صفق الأبواب (إغلاقها بقوة)، وإحداث الضجيج خلال صعود أو هبوط السلالم خاصة داخل المباني المكونة من طوابق عدة، واستخدام الأحذية التي لا تصدر ضجيجا عند المشي على الأرضيات الصلبة، أو استخدام أدوات تعزل صوت المشي على هذه الأرضيات، ومحاولة إبعاد مكان النوم عن مساحة الطبخ أو غرفة المعيشة، واستخدام الستائر والسجاد لتقليل الضجة الصادرة في المنزل، وتنفيذ الأعمال الحِرَفية المسببة للضجيج خلال ساعات النهار المعتادة للعمل(10).

فيما يتعلق بالأجهزة مثل إنذار الحريق أو إنذار السيارة، فيفضل أن تتم صيانتها بشكل دوري لضمان عدم انطلاقها بشكل مفاجئ، وبالنسبة إلى أعمال الحدائق فيفضل ألا يتم تنفيذها خلال ساعات استراحة سكان الحي أو عند المساء، وكذلك بالنسبة إلى الحفلات أو أي أجهزة يمكن أن تسبب الضجيج في هذه الأماكن، مع تحذير الجيران مسبقا(11).

تشمل التوصيات أيضا استخدام التلفاز وأجهزة الراديو أو الموسيقى ضمن مستويات صوت منخفضة، والحصول على فترات استراحة منها عند التعرض لضجيجها المرتفع، وكذلك استخدام أدوات حماية السمع مثل سدادات الأذن عند عدم القدرة على تفادي الضجيج المرتفع، خاصة لمن يعملون بالقرب من مصادره، ويفضل استشارة الطبيب في ذلك، ويُنصح أيضا بإبعاد الأطفال عن الضجيج وأي أجهزة مسببة له (12).

ولتفادي تأثير الضجيج على الصحة النفسية، وتحديدا لتقليل الإجهاد الناتج عنه وعن اضطراب النوم، ينصح بعض الأطباء باتباع جميع التوصيات السابقة، إضافة لتطبيق تقنيات التقليل من الإجهاد(13)، مثل شرب المياه بشكل كاف، واتباع النظام الغذائي الصحي، وممارسة التمارين الرياضية، والتوقف عن التدخين، وممارسة تمارين الاسترخاء وتمارين التنفس العميق، وطلب الاستشارة الطبية حال لزم الأمر(14).

إذا تحتم عليك أن تكون موجودا في الفعاليات العامة كالأنشطة الرياضية، فيُنصَح بالابتعاد عن مصادر الصوت المرتفع جدا في الفعالية كمكبرات الصوت خاصة عند صحبة الأطفال، ومحاولة تقليل التعرض للضجيج، والانتباه لأي إشارات أو لافتات إرشادية تحذر من تأثير الضجيج في منطقة معينة أو توصي باستخدام حماية للأذن، وتوفير أجهزة حماية الأذن في مكان قريب لاستخدامها عند الحاجة إليها(15).

أما أصحاب العمل فُينصحون بتحمل مسؤولية تقليل تعرض موظفيهم لمصادر الضجيج، ومن التوصيات المقدمة في هذا السياق، تحديد مخاطر الضجيج الموجود على صحة الموظفين وسلامتهم، وتحديد الموظفين الأكثر عرضة لهذه المخاطر، ومراعاة اتباع وتطبيق المعايير القانونية لحماية صحة الموظفين وسمعهم، كاستخدام الأجهزة ذات الصوت المنخفض، وإجراء الصيانات الدورية لتقليل الضجيج الصادر عن الأجهزة والمعدات المتضررة، واستخدام المواد العازلة للصوت، ومراعاة عزل الصوت في تصميم المبنى وغرف العمل(16).

لكن في النهاية، يتبقى أن عيشنا في عالم يتسم في جوهره بالضجيج هو فكرة تستحق التأمل، قارن ذلك مثلا بأحد مواطني الشعوب الأصلية في الأمازون أو التبت أو جنوبي أفريقيا، ينام ملء جفنيه إذا كان في مكان يأمن فيه من الضواري، الضجيج في حياته هو صوت جريان المياه في الغدير، أو العصافير القريبة، أو ربما هزة في الأرض مع هرولة قطيع من الجواميس.

أما في مدننا المعاصرة، فقد بات شيء غير طبيعي حتى الصوت نفسه، يقول فيلسوف البيئة “هنريك سكوليموفسكي” في كتابه الشهير “فلسفة البيئة” إن معاناة الإنسان الحالية ربما كانت بسبب انفصاله عن الطبيعة، وعيشه ضمن مدن ملوثة إسمنتية مكدسة لا تُساعد على ما يسميه “تفتحه الروحي”، فكأن “العودة إلى الطبيعة هي عودة الإنسان إلى نفسه”. هل تعتقد ذلك؟ هل تظن أن انقطاعنا عن جذورنا الطبيعية له علاقة بحالة الحيرة التي يعيش بها العالم حاليا؟

________________________________________

المصادر:

(1) روبرت كوخ: الرجل الذي عثر على الذهب “مرميّا” على جانب الطريق

(3)The Effects of Noise on Man

(4)Health risks caused by environmental noise in Europe

(2-5)Cardiovascular effects of environmental noise exposure

(6)Environmental noise, sleep and health

(7)Decibel Hell: The Effects of Living in a Noisy World

(8)What noises cause hearing loss?

(9-10-11)Guidance and advice for reducing noise at home

(12-15)Loud noises can cause hearloss

(13)The Effects of Noise on Health 

(14)Stress: 10 Ways to Ease Stress

(16)Noise at work

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply