تقف الفتاة “روبي” خجلى وسط تلاميذ مدرستها الثانوية في نشاط للتدريب على الغناء. يختار المدرس تلميذا تلو الآخر ليغني مقطعا من أغنية عيد الميلاد الشهيرة ليحدد نوعية أصواتهم. وعندما يصل إلى “روبي” تتقدم مترددة وتقف أمامه صامتة. وبدلا من الغناء تلتقط حقيبتها من الأرض وتجري مهرولة من المكان لتخرج منه ومن المدرسة.

الممثلون غير الناطقين في الفيلم لديهم تحدٍ آخر؛ وهو نقل الأحاسيس والمعاني عبر الأداء الجسدي من دون التعبير اللفظي. وهو تحدٍ أمكن تجاوزه في كثير من الأعمال السينمائية سابقا حين كانت هناك شخصية واحدة مثلا صماء وسط ممثلين كلهم يتحدثون، لكن حين تصبح فئة الصم هي البطل في العمل الذي يخاطب الجمهور العادي الذي لا يفهم لغة الإشارة فالتحدي يصبح كبيرا جدا.

بينما تسير في الحقول الخضراء تحاول تجريب صوتها في الأغنية لتكتسب بعضا من الثقة التي هزها تنمر بعض أقرانها في المدرسة بسبب لهجتها الغريبة أول ما التحقت بالدراسة كونها منحدرة من عائلة صماء. وهؤلاء الأبناء يطلق عليهم أبناء الصم البالغين، أي اللذين نشؤوا في كنف الدين، أو أحدهما يعاني من الصمم واختصارا يشار إليهم بالرمز “كودا” باللغة الإنجليزية وهو عنوان الفيلم الذي حصد جائزة الأوسكار لأفضل فيلم هذا العام في دورتها الـ94 في الولايات المتحدة.

سيعجب الفيلم كثيرا كل العاملين في مجال الصوتيات من إلقاء وغناء وإذاعة فضلا عن مهندسي الصوت والمتعاملين مع الصم والبكم وطبعا بشكل رئيسي فئة الصم والبكم وأبنائهم. لأنه يعبر عن كثير من القضايا اليومية التي يتعاملون معها جميعا فيما يخص تدريبات الصوت وأنواعه المختلفة والتعامل مع التفاعل الإنساني والمهني مع مستويات الصوت في حياتنا اليومية وخاصة لدى المتخصصين. فالقضية الأساسية التي تدور حولها معظم محاور الفيلم هي الصوت عبر تحدي التواصل العائلي بين الابنة المراهقة “روبي” وأبويها وأخيها الذين يعانون جميعا من الصمم، بالإضافة لشغفها بالغناء والموسيقى فضلا عن طريقة تفاعل المدرسة ومدرب الصوت مع كل هذه الدوائر الإنسانية.

ويستخدم الفيلم لغة الإشارة الإنجليزية الأميركية الخاصة بالصم ويعد تحديا فنيا كبيرا للمخرج والممثلين ومهندس الصوت لأنهم يتعاملون مع شخصيات رئيسية في الفيلم لا تتحدث وبالتالي نقل الرسالة الدرامية يكون منقوصا ولا يعوضه النص المكتوب على الشاشة. فالذي يشاهد فيلما غير مترجم ليس مستعدا ليفصل تلقيه السمعي للحوار لينتقل بين الفينة والأخرى نحو نص ترجمة لغة الإشارة المكتوب على الشاشة. كما أن الممثلين غير الناطقين في الفيلم لديهم تحدٍ آخر وهو نقل الأحاسيس والمعاني عبر الأداء الجسدي من دون التعبير اللفظي. وهو تحدٍ أمكن تجاوزه في كثير من الأعمال السينمائية سابقا حين كانت هناك شخصية واحدة مثلا صماء وسط ممثلين كلهم يتحدثون، لكن حين تصبح فئة الصم هي البطل في العمل الذي يخاطب الجمهور العادي الذي لا يفهم لغة الإشارة فالتحدي يصبح كبيرا جدا.

ولهذا كان دور الأب في الفيلم مميزا وهو الممثل الأميركي “تروي كوتسور”، إذ كان لا يمثل في الحقيقة، بل يتعامل على طبيعته لأنه ممثل أصم بالفعل ولهذا استحق عن جدارة جائزة الأوسكار لأحسن ممثل مساعد، وبذلك يصبح أول أصم يفوز بجائزة الأوسكار. ويذكرنا أداؤه إلى حد بعيد بأداء الممثل المصري محمود عبد العزيز في فيلم “الكيت كات” الذي جسد شخصية الضرير من ناحية روح الدعابة وتجاوز ظروفه الخاصة ليتعامل كأنه فرد عادي. فالممثل “تروي كوتسور” يرفع صوت الموسيقى في سيارته ويرقص عليها أثناء القيادة وكأنه يسمعها، فيما تطلب منه “روبي” أن يخفضها قليلا لأنها صاخبة جدا.

مغامرة آبل بلس الأولى

يعد الفيلم مغامرة ناجحة لمنصة “آبل بلس” (+Apple) لأنه أول فيلم من توزيعها واختارت أن يتم بميزانية 10 ملايين دولار، وهي ميزانية منخفضة مقارنة ببقية الأفلام التي ينفق عليها عشرات الملايين من الدولارات. كما أنه مغامرة أخرى للمنصة بتقديم وجوه تمثيلية جديدة من خارج دوائر نجوم هوليود الشهيرين. ويحسب للفيلم أنه استطاع أن يقفز بالقصص السينمائية قفزة كبيرة للأمام بتجسيد قضية حقوقية وإنسانية تتعلق بمعاناة أبناء العائلات الصماء في فيلم سينمائي. فهذه القضايا التي تتناول قطاعات محددة من المهمشين مكانها غالبا في الأفلام الوثائقية الجمالية أو المعالجات التلفزيونية. فضلا عن أن القصة ليست بجديدة، بل مأخوذة من فيلم “عائلة الحمل” الفرنسي البلجيكي من إنتاج عام 2014، وحصلت مخرجة ومؤلفة الفيلم شان هيدر على جائزة أوسكار أفضل سيناريو مقتبس.

المنصة غامرت أيضا بأن ابتعدت عن اللغة السينمائية الأميركية التقليدية واختارت أن تكون طريقة الفيلم في العرض البصري فرنسية أميركية مشتركة تعكس طبيعة الإنتاج المشترك الفرنسي الأميركي للفيلم. فقد اشتركت في إنتاجه شكرتا “فيندوم بيكتشرز” (Vendome Pictures) الأميركية و”باثي” (Pathé) الفرنسية في إنتاج هذا الفيلم. وإيقاع الأفلام الفرنسية بشكل عام هو إيقاع بطيء هادئ لا يسترعي اهتمام كثير من الجمهور المعتاد على أفلام الحركة والمغامرات الأميركية. لكن التلاقح بين كلا المدرستين في الفيلم أعطى اللغة السينمائية الفرنسية كثيرا من الحيوية كما حقن اللغة السينمائية الأميركية بكثير من الإنسانية وأبطأ من إيقاعها المتوتر.

يعرض الفيلم لطرق مواجهة الضغوط الاجتماعي بالفن والإبداع وعدم الاستسلام مبرزا أهمية التعاضد العائلي والتكاتف الأسري في هذا الإطار، فـ”روبي” تعمل مع عائلتها في مجال صيد الأسماك في الصباح الباكر قبل أن تذهب إلى مدرستها وهي منهكة وأحيانا يغلبها النوم في الفصل. وتخوض مع أخيها وأمها وأبيها صراعا مع مشاكل الصيد والصيادين وتجار الجملة. وهنا يبرز في الخلفية صراع آخر رمزي يخوضه الأب مع البحر مصدر رزقه وعالمه الخاص، يذكرنا بصراع بطل رواية العجوز والبحر للأديب الأميركي إرنست هيمنغواي والذي حاز بسببها على جائزة نوبل للآداب عام 1954 وجسدت صراعا ثنائيا بين عجوز تجاوز الـ80 يعمل في مهنة الصيد مع البحر، إذ يذهب يوميا لاصطياد الأسماك ويعود خالي الوفاض، وكيف تبدل حاله بعد أن كان قادرا على الإنجاز وصيد الأسماك في فترة شبابه. وكان يرافقه فتى صغير في رحلاته البحرية. يشبه هذا الفتى الدور الذي تلعبه “روبي” مع أبيها ويجسد كلاهما العلاقة بين الأجيال المختلفة ومسارات الإخفاقات والأمل في الحياة مع كثير من الرمزية في العرضين السردي والسينمائي.

المصدر: وكالات

Share.

محرره صحفية من ريف حلب سوريا خريجة اعلام من جامعة دمشق 2016

Leave A Reply